جميل جدًا بل عظيم أن ترى أحدهم يهتم ببقايا الأكل, وكان كثيرًا وعادة ما يكون كذلك في بلد عربي ك اليمن, ليعطيه للذين هم بأمس الحاجة له؛ لمن تتقطع بهم السبل ولم يجدوا لقمةً يسدون بها حاجتهم. المكان: صنعاء, حيث انعقد مؤتمر الإعلام والحوار الوطني, يوليو المنصرم. وأما أحدهم, فقد كان صاحبي وصديقي الجميل دومًا عاد نعمان؛ أو كما يسمي نفسه «عاد بن سامية مريم»؛ وهو النجل الأكبر للصحفي المعروف نعمان قائد سيف.صاحبي عاد لطيف وإنساني. الإنسان فيه لا يكل ولا يمل. لا يعرف حدودًا بينه والآخر طالما كانا تحت ظلال الإنسانية؛ مع أنه مرات يتصلب في رأيه في أقاصي اليسار, ولا بد من ابتسامة هنا لتخفيف الموقف :) . وهو ناشط حقوقي, ولديه مركز عاد للطفولة؛ مهتم بالأطفال أيضًا, ويكتب بين الفينة والأخرى في الصحافة اليمنية؛ كتاباته رقيقة عذبه فنية وإنسانية؛ وخفيفة تضحك وتسلي وتقرع جرس الإنسان في الإنسان.لا أقول فيه مدحًا. موقفه الأخير, وكنا مشاركين في مؤتمر الإعلام, أحيا لدي رغبة قديمة في الكتابة عنه.. وعاد فوق ذلك كله شاب أينما حل يشكل جدلًا حول شخصيته وفكره, وعن هذا سأؤجل الحديث.
فجأة, سمعتُ صوتًا؛ هو صوت عاد, يرتفع في المجتمعين حول الموائد: يا جماعة لزمًا تحافظوا على بقايا الأكل وما ترموهاش عشان في ناس متحاجين جدًا. كان يشير بالتأكيد إلى من يحتاج إليها. وبالفعل رأيته وقد قام وأفرغ بعض الأطباق في أطباق وجمع أخرى (ما تبقى كان كثيرًا؛ أكثر مما أُكِل).. قلتُ: أين أجد هذا العمل الذي يوقظ فينا الإنسان الذي ننساه أحيانًا؟ وتحدثت مع نفر من الأصدقاء عما يميز صاحبنا عاد؛ مع أن الجميل «عدعود» معروف ولن أعرفه فيما ذهبتُ إليه: يحب جدًا أن يقوم بالأعمال الإنسانية؛ وهو وثيق الصلة بها, وله قلب ينبض حبًا للإنسان دون أي حاجز.. وهو الذي تجلس معه حتى يتحدث من معين مكتبته السمع بصرية. يقول: عادة لا أقرأ الكتب, لكنني أهتم بالمشاهدة والاستماع: يشاهد السينما ويسمع الموسيقى.. إنه لحن عذب جميل.
يضحك إن قلتُ له سوف أكتب عنك: تتهابل؟ كلمته الدائمة عند الحرج كما يبدو. وكما يبدو فقد غيرها مؤخرًا ب«أيش ذا؟», ونبرته في تلك نبرة أحلى من الوصف: يستغرب ويسأل ويجيب بالاعتزاز وكل هذا في آن في «أيش ذا؟».وصاحبي عاد تعرض مرات لهجمات حاولت جاهدة أن تخرجه عن المعتقد, وأقول: لو علم الذين يختلفون معه بسجيته لما غضبوا منه وضده.. صحيح أنه قد يفاجئك يصفعك من وهلته الأولى ب«قوارته» وأقصد «فجفاته وتطرفه» في بعض المسائل الثابتة عنده وأحيانًا عنده وقلة غيره, لكن الأمر ينحسر رويدًا والهوة يمدها جسر المحبة...وهذا ليس وغلًا في وصف. لا يفيض المقام إلا تسجيل إعجاب ل عاد وما يقوم به. كان المؤتمر ليومين وكان عاد ليومين يهمه كثيرًا أن لا تذهب بقايا الطعام سدى, وحرص أن تذهب إلى من يستحقها.
لغرض هذا المقال كنتُ سألته, فقال لي: «في اليوم الأول ساعدني بعض الحضور وعمال المطعم على لف بقايا الطعام الصالح للأكل ووضعناه في أكياس بلاستيكية وصادف وجود بعض الشباب التابعين لعدد من الجمعيات كانوا بانتظار الأكل الذي أعده مطعم الفندق لهم، فأعطيناهم الأكل الذي جمعناه وقالوا سيذهبون به إلى دار الأيتام»..
أرأيت كم هو رائع يا صاحبي..؟
انتظر, فلقد أضاف: «وفي اليوم الثاني الحال ذاته جمعتُ باقي الطعام داخل أكياس بلاستيكية بمساعدة بعض الحضور وعمال مطعم الفندق وهذه المرة قمت بإيصاله بنفسي إلى بعض الأحياء الفقيرة وتوزيعه هناك؛ لأن الشباب الموجودين في اليوم الأول لم يتواجدوا في الموعد الذي اتفقنا عليه».. أريد مقابلة صحفية معه, وهو صديقي الذي سيستجيب فورًا؛ ليكن له ضوء في هذه الصحيفة, فأعماله الحقوقية الإنسانية يُعتد بها.عادة ما يصدح باسمه «عاد سامية مريم», ولذلك فإنه يعيدنا إلى عصور خلت؛ كانت السيادة فيها للمرأة وكان هناك ما يسمى ب«المجتمع الأنثوي» وكان الأولاد ينسبون للأم في العصر «الأمومي»؛ وذلك في المراحل الأولى لتطور الإنسان, قبل أن تسلم قيادة المجتمع للرجل في عصور لاحقة وقبل الاعتماد على القوة العضلية, وعلى كل حال فلا غنى لنا عن الأم والأب. وهو باختصار ينتصر للمرأة وقضاياها وحقوقها, وعاد له أب جميل ومثقف, وبالتأكيد له أمٌّ كذلك وإن كنتُ لا أعرفها..
والسبت الماضي, احتفل عاد بعيد ميلاده الثلاثين (وُلد في 3 آب/ أغسطس 1983), واختار أن يحتفل مع الأطفال المعاقين ذهنيًا بعدن؛ وهو مشهد آخر من جماله وإبداعه.. وكتبَ على صفحته في فيسبوك «غنينا.. رقصنا.. لعبنا.. أكلنا.. شربنا.. والكثير من الجمال.. الليلة فعلًا أكملتُ الثلاثين عامًا من عمري. إحساس بالفرحة مضى عليه وقت طويل. سأحتفل بعيد ميلادي كل عام ولأكثر من مرة مع من لا عيد لهم. شكرًا كثيرًا لكل من شاركني فرحة الاحتفال بعيد ميلادي».
وعمن لا عيد لهم؛ أصدقاؤه في الحفل, كتب: «تكمن الإعاقة بمعناها الحقيقي في صعوبة أن نحيا, والإعاقة الجسدية أو الذهنية تفشل أمام محاولة للحياة.. كم أولئك الأطفال "المعاقين" أصحاء!! وكم أنا "الصحيح" معاق!!». الرابط: goo.gl/vSNbda ولا أزيد إلا: عاد أيها الجميل, كن كما أنت, وأنت عنوان بهي.. وبتعبير حبيب سروري: أمير المرح والروح اللطيفة والتألق الدائم.