كسر حلقة الاقتصاد الريْعي لتوطين العلم والمعرفة وإقامة المجتمع الإنتاجي في دولنا العربية، وباستثناء تجربة جمال عبد الناصر في التصنيع التي حققت الكثير لمصر من دون أن يتمكن قائدها من متابعتها بغيابه المبكر عن الساحة، فهي لا تزال تتخبط في مشاكل فقر وبطالة وأمية وبنية ريْعية للأعمال الاقتصادية، يتحكم بها فئة قليلة من الأثرياء الدائرين حول رؤساء الدول والحاصلين على امتيازات تؤبد الربح السهل وبالتالي التخلف العلمي والتكنولوجي. وأصبحت هذه الدول تعمل حسب وصفات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في معالجة الفقر، عبر إجراءات خاصة بها لتوفير الحد الأدنى من الحمايات الاجتماعية للفئات الأكثر فقراً، مقابل القضاء على الدعم الذي تقدمه الدول للإبقاء على أسعار منخفضة لبعض المواد الأساسية (نفط وطحين ورز وسكر وشاي، إلخ). فهي تقول بأنَّ مثل هذه المساعدات المكلفة للغاية تفيد الأغنياء كما الفقراء وتكلّف خزينة الدول مبالغ طائلة تمثل نقاط عدة من الناتج الإجمالي المحلي، ولذلك ضرورة استهداف الدولة الفئات الفقيرة بمساعدات مصوَّبة. غير أنَّ التجارب بهذه الوصفة، التي تطبّق بالتدريج منذ عقود في الاقتصادات العربية، لم تغير شيئاً في حجم بقع الفقر العملاقة ولا في حجم البطالة، خاصةً لدى العنصر الشاب المتعلّم. ذلك أنَ سياسة محاربة الفقر الوحيدة الناجحة تكمن في عملية توطين العلم والتكنولوجيا والدخول في عالم الإنتاج المكثف للسلع والخدمات المطلوبة في الاقتصاد المعوْلَم، الذي أصبح سوقاً واحداً محرراً إلى حد بعيد. أما من يتخلف عن ذلك فمحكوم عليه البقاء في اقتصاد الريْع وفي الاتكال على المساعدات الخارجية، مع كل ما يستتبع ذلك من قيود سياسية لمصادر المساعدات (سواءً كانت مساعدات من دولة إلى دولة أو مساعدات من مؤسسة التمويل الدولية والإقليمية)، بالإضافة إلى الاتكال على تحويلات المغتربين والحركة السياحية في حالة العديد من الاقتصادات العربية. ولا عجب أن الاقتصادات العربية حيث تأثرت بالانتفاضات الشعبية وبالتغييرات السياسية تعاني من مزيد من التبعية المالية تجاه المصادر الخارجية ومن زيادة البطالة بدلاً من تراجعها، نظراً لما يسبّبه عدم الاستقرار السياسي وانعدام تام لرؤية تنموية بديلة من إقفال مؤسسات اقتصادية أو تسريح عمال وعدم الإقدام على الاستثمار، الداخلي كما الخارجي، حتى في القطاعات الريْعية الطابع مثل التطوير العقاري أو المرافق السياحية. وبالتالي تقع الحكومات الجديدة في تبعية أكثر شدة بالنسبة إلى مصادر التمويل الخارجي، نظراً لغياب صياغة سياسات عامة اقتصادية واجتماعية بديلة وتنفيذها بشكل متسارع من أجل استنفار كل القدرات الجماهرية وكذلك قدرات الفئات الوسطى وأصحاب المهارات والكفاءات، التي يجب انخراطها في عملية تبديل المسار التنموي والدخول الجدي في عالم الإنتاج خارج آليات الاقتصاد الريْعي الطابع؛ وبالتالي النجاح في القضاء التدريجي على النموذج الاقتصادي الاجتماعي السائد، وهو الذي يحول دون مثل هذا الاستنفار وهو عنصر رئيسي في عملية التغيير الجوهري لا الشكلي. وفي حالة مصر على سبيل المثال، وهي كانت في بداية الستينيات أغنى من دول فقيرة للغاية في شرق آسيا مثل تايوان وكوريا الجنوبية وتايلندا، يبدو بالفعل مستغرباً أن يظل الجيش المصري بحاجة إلى تلقي مساعدات سنوية متواصلة منذ توقيع اتفاقية «كامب ديفيد» من الولاياتالمتحدة؛ كما أنَّه من المستغرب أن لا تكون مصر قادرة على إنتاج الآلات والتجهيزات الترسملية الضرورية في إنتاج النسيج والألبسة، بلْ هي إلى الآن مضطرة إلى استيرادها من اليابان أو من ألمانيا، وذلك بالرغم من زراعة القطن فيها منذ مئتيْ سنة تقريباً. ويمكن أن نزيد من الأمثلة مثل الاضطرار إلى استيراد الآلات والتجهيزات الضرورية لاستكشاف واستخراج النفط والغاز، بالرغم من مضي عقود طويلة على استغلال هذا المورد الهام. وقد أنفقت دولة الجزائر سدىً المليارات من الدولارات بإطلاق حركة تصنيعية ضخمة لم يُكتب لها النجاح لسوء تخطيطها؛ والشيء ذاته يُقال عن الخدمات التي تتطلب مهارات علمية وتقنية في مجال الاستشارات الهندسية المتخصصة في بناء المطارات والسدود والمرافئ وبشكل عام كل المرافئ العامة التي تتطلب ملكة العلم والتكنولوجيا. ومن اللافت للنظر أنَّ مجمل الدول العربية، بما فيها الدول الغنية للغاية في شبه الجزيرة العربية، بالرغم من آلاف المليارات من الدولارات التي أنفقتها على البنية التحتية، فهي ما تزال تحتاج إلى استقدام الشركات الدولية المتخصصة في وضع التصاميم وخطط التنفيذ لأي مرفق من مرافق البنية التحتية. وها هو لبنان الذي هو من أرقى الدول العربية في مجال التعليم الجامعي، وبعد أكثر من عشرين سنة من عملية إعادة الإعمار واللجوء إلى الشركات الدولية الكبرى، سواءً في الاستشارات الهندسية أو في تنفيذ البنية التحتية، ما يزال يعاني من نقص في توفير الكهرباء والمياه إلى مواطنيه، بالرغم من صغر حجم البلاد جغرافياً وسكانياً؛ وهذا المثل السلبي ناتج عن مزيد من عمليات الفساد والعجز التكنولوجي في آنٍ معاً. ضرورة إجراء تغييرات كبيرة في الأنظمة الاقتصادية والمالية خلاصة القول، إنَّ الحلقة الثورية الحالية في الوطن العربي، إذا لم تقدم على تغييرات جوهرية في الأنظمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية والتعليمية لكسر حالة الكسل الجماعي، العلمي والتكنولوجي، ستعيد إنتاج النظام الريْعي بواجهة شكلية أكثر ديموقراطية، لكنها لن تتمكن من تغيير الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية السائدة في المنطقة منذ نهاية الستينيات والتي تتعمّق أكثر فأكثر على مر العقود. وكما هو معلوم فإنَّ المنطقة العربية تتميز سلبياً عن غيرها من مناطق العالم بمستويات بطالة مرتفعة للغاية، وقلة مساهمة المرأة في سوق العمل وضخامة جيوب الأمية في بعض الدول العربية الرئيسية، ونزف هجرة الأدمغة المتعاظم. لذلك يتوجب علينا أن ننظر إلى مكونات الأداء الاقتصادي في الدول العربية بمنظور مختلف تماماً عن المنظور السائد حالياً، الذي ينبع بشكل شبه حصري من مؤسسات التمويل الدولية التي تغيِّب تماماً قضية السياسات العامة التي يجب تطبيقها من اجل الخروج من الكسل والسكون العلمي والتكنولوجي، وذلك بإعادة توجيه الاستثمارات، الداخلية والخارجية، إلى القطاعات المنتجة ذات القيمة المضافة العالية التي تتطلب المهارات التقنية والعلمية. غير أنَّ هذه المهارات تهاجر حالياً خارج الوطن، بسبب انعدام وجود فرص العمل بدلاً من البقاء فيه منخرطة في استنفار مجتمعي شامل في عملية التغيير الاقتصادي الاجتماعي. والجدير بالذكر هنا أنَّ الولوج إلى مجتمع العلم والتكنولوجيا وتوطينه والمساهمة في ابتكارات جديدة هو عمل جماعي يجب أن تنخرط فيه كل الفئات الاجتماعية من أدناها إلى أعلاها. فالنجاح في التكنولوجيا لا يمكن في ظروف اليوم أن يكون نجاحاً فردياً، بلْ النجاح الفردي هو نتاج في بناء وتنظيم القدرات الجماعية. والفشل الذريع في الاقتصادات العربية هو تجاهل هذه الناحية في عملية التنمية وتجزئة موضوع التنمية إلى قطاعات منفصلة بعضها عن البعض وكأن لا شأن للواحدة مع الأخرى. وطالما تبقى الحركة الثورية العربية في حالة تناحر متعاظمة في ما بين ليبراليين وإسلاميين، فلن نتمكن من تركيز عقولنا وجهودنا على قضايا العلم والتكنولوجيا وتوطينها مجتمعياً. وربما تكون حدة الصراع بين أصحاب الرؤية المدنية للدولة وأصحاب القول بضرورة هيْمنة المرجعية الدينية هي نتيجة الفراغ الكامل في التفكير الاقتصادي والاجتماعي السليم، وفي التفكير في طرق تحقيق الاستقلال الاقتصادي الوطني قطرياً وقومياً وسبل الوصول إليه. ولا إمكانية في القرن الحادي والعشرين لأية دولة كانت أو مجموعة دول أن تكون محترمة في النظام الدولي والأنظمة الإقليمية المتفرعة عنها في غياب تملك العلم والتكنولوجيا والقدرة الابتكارية فيهما. *السفير