استقالة الدكتور محمد البرادعي من نيابة رئاسة الجمهورية في مصر، بعد تنفيذ الشرطة بمؤازرة الجيش قراراً حكومياً بفض اعتصامي "الإخوان المسلمين" في القاهرة وسقوط عدد كبير من القتلى والجرحى جراء ذلك، أثارت ردي فعل متناقضين في الأوساط المصرية السياسية والشعبية والنخبوية. رد الفعل الأول كان التأييد للخطوة التي أقدم عليها ليس فقط لأنها تضفي بعض المشروعية على اعتبار "الإخوان" أنهم يتعرضون للقمع وتالياً الإستئصال، بل لأنها أيضاً صادرة عن رجل يؤمن فعلاً بالديموقراطية التي عاشها سنوات خارج بلاده وتحديداً في العالم الأول، ولأنه يعرف أن التحرك الشعبي وإن كثيفاً العاجز عن تحقيق التغيير من دون مساعدة العسكر لا يمكن أن يوصل الى الديموقراطية الفعلية، ولأن هذا الرجل أي البرادعي ليس سياسياً تقليدياً تحركه الغرائز أو المصالح الخاصة والشخصية والطموحات، بل نخبوياً ومثقفاً وحريصاً على أن لا يُتهم يوماً أنه مسؤول مع آخرين عن إعادة الديكتاتورية العسكرية إلى مصر وإن "منقحة" بعد تخليصها من الديكتاتورية الإسلامية. أما ردّ الفعل الثاني فكان استياء عند البعض وانزعاجاً مرفقاً بشيء من التفهم عند البعض الآخر. وسبب الاستياء كان أن استقالة البرادعي كشفت طوباويته ومثاليته وربما عدم معرفته كما يجب الأوضاع الداخلية في مصر، وعدم إدراك أن ما يسعى إليه من حوار بين المتخاصمين تجنباً لإراقة الدماء ليس في ثقافة الشعب المصري ولا الشعوب العربية ولا شعوب العالم الثالث كلها، لأنها لا تزال ترتع في التخلف رغم الكثير من الإدعاءات. أما سبب الإنزعاج المتفهم فكان أن خروجه، قد يكون خروج "المُسالِم" الوحيد وأحد الأصحاب القليلين للعقل النيّر وللحكمة ولمعرفة العالم الأول الديموقراطي حيث تُحترم حقوق الإنسان، وحيث توفر له مستلزمات العمل والعيش الآمن واللائق. ومن شأن ذلك ترك الساحة السياسية (الحاكمة) مفتوحة أمام أصحاب الغرائز والمصالح والشهوات. إلا أن استقالة البرادعي أثارت أمراً آخر داخل مصر وخارجها هو الخوف أن يكون "العسكر" المصري عاد إلى الحكم الفعلي رغم كل الكلام النافي ذلك، ورغم المحافظة إلى حد كبير على المظاهر المدنية للحكم والسلطة على الأقل حتى الآن. أما سبب الخوف فكان مبادرة محامٍ مصري إلى رفع دعوى عليه بتهمة "خيانة الأمانة" التي قد يكون مقصوداً بها التخلّص من حكم "الإخوان". طبعاً لا تعكس هذه الدعوى قراراً من "عسكر" مصر. لكن ذلك لا يمنع القلق. ولهذا السبب لا بد من توضيح الأمور وربما من إتخاذ خطوات كي يكون اللجوء إلى القضاء متاحاً أمام أصحاب القضايا المحقة وليس أمام الراغبين في تسجيل المواقف أو الشهرة أو الوصول. وفي أي حال تفيد معلومات واردة إلى بيروت من القاهرة أن اصدقاء مشتركين يبذلون جهوداً جدية بغية شرح الخلفيات الحقيقية لخطوة البرادعي ل"العسكر"، وتالياً تحقيق مصالحة بينهما. علماً أن الخطوة المشار إليها ليست الوحيدة التي "نقَّزت" بعض المصريين والعرب "النخبويين". فقيام وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي بتوجيه كلمة إلى ضباط الجيش المصري في قاعة مقفلة ومن خلالهم إلى الشعب وهو يضع نظارة سوداء كبيرة ذكّر المصريين والعرب بالعقيد الراحل معمر القذافي. وذلك ليس في مصلحته ولا في مصلحة ما قال إنه يعمل لأجله. فضلاً عن أنه كان على رئيس الجمهورية عدلي منصور أن يعلن لشعب مصر قرار تكليف الشرطة والأمن بمؤازرة الجيش فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة وليس وزير الدفاع السيسي. وكان في إمكان الأخير، بعد الإعلان الرئاسي، الكلام من وراء مكتبه عن تبلّغه القرار وعن الاستعدادات التي تجريها القوات المسلحة مجتمعة لتنفيذه. طبعاً لا ينبغي الإنطلاق من أمور قليلة، على الأقل حتى الآن، لزرع الشكوك في "النيات الديموقراطية" لقيادة جيش مصر. لكن في الوقت نفسه ينبغي عدم تجاهلها. علماً ان على هذه القيادة كما على الجهات الشبابية والحزبية والسياسية والشعبية التي أنزلت الشعب إلى الشارع مطالبة برحيل مرسي و"إخوانه" عن السلطة أن تعرف أن غالبيته استجابت بسبب الفقر والفساد والجوع. ولذلك فإن أول مهمة يجب أن يقوم بها الحكم الجديد "الموقت" طبعاً هو فرض تنفيذ الحد الأدنى للأجور الذي هو قانوناً 1200 جنيه مصري أي حوالى 200 دولار أميركياً، ولكن الذي لا تطبِّقه الغالبية الساحقة من أرباب العمل. [email protected] *النهار