مجلي: مليشيا الحوثي غير مؤهلة للسلام ومشروعنا استعادة الجمهورية وبناء وطن يتسع للجميع    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    جاذبية المعدن الأصفر تخفُت مع انحسار التوترات التجارية    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    عن الصور والناس    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    البيض: اليمن مقبل على مفترق طرق وتحولات تعيد تشكيل الواقع    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    منظمة العفو الدولية: إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية على الهواء مباشرة في غزة    تراجع أسعار النفط الى 65.61 دولار للبرميل    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    لوحة "الركام"، بين الصمت والأنقاض: الفنان الأمريكي براين كارلسون يرسم خذلان العالم لفلسطين    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    رئيس كاك بنك يعزي وكيل وزارة المالية وعضو مجلس إدارة البنك الأستاذ ناجي جابر في وفاة والدته    اتحاد نقابات الجنوب يطالب بإسقاط الحكومة بشكل فوري    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سيرغي باراجانوف: حين لا يُقبَل نبيّ في وطنه (1)
نشر في عدن الغد يوم 12 - 10 - 2013

برحيل باراجانوف عام 1990فقدت السينما العالمية أحد أهم عباقرتها وآخر سحرتها العظام ولكن ستبقى أعماله تسعد الناس زمناً طويلاً. كانت حياة باراجانوف بمثابة مسرح تجد فيه الضحك والأسى والفانتازيا ممزوجة كلها منتجة فيما بعد روائع سينمائية لاتنسى، فضلاً عن رسوماته وكولاجاته الخاصة المثيرة للتأمل والجدل. لقد كانت حياته حقاً عبارة عن عرض مسرحي وكان الممثل الوحيد الذي يتحرك على خشبة ذلك المسرح هو باراجانوف نفسه. كل يوم من حياته، وأي لقاء بأحبته وأصدقاءه، أو أي ظهور علني له هو بمثابة مشهد فانتازي. لقد اعتاد حين ينتابه إحساس بالحصار والقمع من حوله أن يقدم عروضاً مسرحية قصيرة ارتجالية وعفوية أمام جمع من معارفه وأصدقاءه وبعض العابرين من الناس وكان من الصعب الفصل بين ماهو حقيقي وماهو مختلق. إنسان في أعماقة طاقة خلاقة حبلى بالأفكار والأخيلة المبتكرة بشكل جنوني. لقد كان لغزاً، فضيحة، رجل مأساة حقيقي حقاً.

إن شخصية باراجانوف تتماهى كثيراً وحياة بطله القرة وسطي الشاعر الجوال سايات نوفا "ملك الأغنية"، الأرمني من تبليسي، المدينة التي كانت بمثابة الجسر الذي يربط آسيا بأوروبا والمكان الذي تتعايش وتتلاقح فيه الثقافات المختلفة مثل سجادة تتداخل فيها ألوان وأشكال متعددة ومتنوعة دون أن تفقد سماتها وهويتها.

كان سايات نوفا يكتب الشعر بلغات قوقازية رئيسية ثلاث هي الأرمنية والجورجية والأذربيجانية، فضلاً عن اللهجات المتعددة أيضاً، وما بورتريه شاعر الأثنيات هذا في فيلم "لون الرمان" إلا توظيفاً من مخرجه كنوع من السيرة الذاتية له شخصياً، والتي تعكس الإيكامينيزم الخاص (الحركة التي تسعى لوحدة العالم) لسينماه، تلك التي تخلق على الشاشة توليفة من الثقافات الأكثر تنوعاً، أو نمطاً من النظام الإثني الثقافي المنفتح على بعضه البعض والذي يتشكل من عناصر تم جمعها داخل حوار حميم يدور بين كل تلك الثقافات. في حديث له في مجلة الفيلم السوفييتي وقبل تصويره لفيلم سايات نوفا قال باراجانوف:"إن عصر النهضة الأرمنية وهب العالم رسامين وشعراء وفلاسفة بارعين من بينهم سايات نوفا الذي كان ذو شخصية ساطعة موهوبة ولامثيل لها. لقد ولد سايات نوفا في تبليسي مدينة طفولتي حيث أعرف كل شارع وبيت فيها. وربما كان هذا هو السبب في حبي لأغانيه التي تشدو بها شعوب ماوراء القفقاس".

ولد هذا الطفل الحالم والمدهش سيريوجا "هكذا يكنّى سيرغي لوسيفوفيتش باراجانوف" في التاسع من شهر يناير كانون ثان 1924 في أحضان عائلة غنية لتاجر أرمني يدعى يوسف باراجانوف ووالدة اسمها سيرانوش بيجانوف في مدينة تبليسي "عاصمة جورجيا" وكانت طفولته مليئة بجمال لايمكن وصفه على حد تعبيره.

أكمل باراجانوف دراسته الثانوية عام 1942 والتحق بكلية الهندسة المدنية التابعة لمعهد السكك الحديدية في تبليسي، إلا أنه غادر المعهد فوراً لدراسة الغناء والعزف على آلة الكمان في الكونسرفاتور "معهد الموسيقى والرقص"، وأخيراً في عام 1945 قدم إلى موسكو والتحق بمعهد السينما "فگيك" حيث درس الإخراج السينمائي تحت إشراف المخرج الروسي إيغور سافتشينكو الشهير بفيلمه "غارمون" 1934، ومن بعد تحت إشراف الكساندر دوفجنكو مخرج فيلم "الأرض" 1930، الفيلم الذي غرس البذرة الأولى للواقعية الشعرية في السينما السوفييتية آنذاك.

الخطوة الأولى هي التي تقرر كل شيء. هكذا بدأ سيريوجا، نجل تاجر القطع الأثرية خطوته الأولى في اختياره طريق الفن مساراً نهائياً مخيباً رغبة والده الذي كان يحلم بأن ولده سيتابع السير على خطى مهنة العائلة. لكن، وبعد سنوات سيلعب عصيانه لوالده دوراً حاسماً في المآسي القادمة التي ستنعكس على مجمل حياته وفنه.

تزوج باراجانوف أثناء دراسته في معهد السينما من الفتاة الشابة التتارية "نيغيار" ذي الأصول المولدافية. وبعد وقت قصير من تلك الزيجة وصل أخوة الفتاة إلى موسكو مطالبين بأموال العروس أو الفدية وهذا عُرف سائد لدى الشعب التتاري. حينها كتب باراجانوف رسالة إلى والده "مرغماً" يتوسل أن يقرضه المبلغ المطلوب واعداً إياه بتسديده في وقت لاحق. إلا أن الأب الذي شعر بإساءة نجله في وقت سابق حين خان تقاليد مهنة العائلة ما دفعه إلى أن يرفض طلبه. وهكذا أرغمت نيغيار من قبل أخوتها على التخلي عن زوج مفلس والعودة إلى وطنها، إلا أن الفتاة الشابة رفضت ذلك، حينها وطبقاً للتقاليد البربرية قام الأقارب بقتل الفتاة حيث قام أحدهم بدفعها من على رصيف المحطة لتسقط تحت عجلات القطار في إحدى ضواحي موسكو.

لم يستطع باراجانوف التغلب على حزنه العميق لوقت طويل جداً، لذا غالباً ما نرى في أفلامه المبكرة ما يشار دائماً إلى الثيمة المولدافية لارتباطها بفقدان حبيبته التتارية نيغيار.

تزوج باراجانوف ثانية في عام 1956 من شابة أوكرانية هي سفيتلانا إيفانوفنا شيرباتوك التي أنجبت له الولد الوحيد سورين عام 1958. إلا إن تلك الزيجة لم تستمر طويلاً حيث تم طلاقه من زوجته الأوكرانية عام 1962 إلا أنهما بقيا أصدقاء مقربين.

أنجز باراجانوف في هذه الفترة ستة أفلام وثائقية هي: "دومكا"، "ناتاليا أوزفي" و "الأيادي الذهبية"، "الصبي الأول"، "إنشودة أوكرانية"، ثم "زهرة وسط الصخر".

إن بداية المسيرة الفنية لهذا الرجل الذي سمي بعد وفاته ب"العبقري الأخير لسينما القرن العشرين"، لم تكن تبشر بخير، ولم توحِ بداياته بأنه سيكون أكثر السينمائيين السوفييت مشاكسة أو مثار للجدل، إذ أن أغلب أفلامه التي أخرجها في العقد الأول من عمله كانت أفلاماً تسجيلية قصيرة عادية تتناول حياة فنانين جورجيين أرمن وأوكرانيين ولم تجلب له لا الشهرة ولا القناعة الذاتية.

إن التحول النوعي في الرؤية الفنية لباراجانوف حدث فقط بعد مشاهدته فيلم تاركوفسكي "طفولة إيفان" 1962، الفيلم الذي قلب رؤاه وغير مساراته الفنية تماماً، ليس هذا فحسب، إنما كان سبباً في اكتشافه لذاته كمخرج مجّدد، ودافعاً حقيقياً في مغادرته لأسلوب الواقعية الإشتراكية دون رجعة. ففي حديث له مع الفنانين والعلماء الشباب في بيلاروسيا "روسيا البيضاء" في ديسمبر عام 1971 قال باراجانوف:

"لقد صدمت بسينما أندريه فايدا ولايمكنني التفكير مطلقاً أن أكون أحد معلميه أو ناصحيه. لكنني بنفس الوقت عثرت على معلم وناصح مخلص في شاب موهوب بشكل هائل هو المخرج أندريه تاركوفسكي. ربما هو نفسه لايدرك تماماً أي عمل عبقري كان فيلمه (طفولة إيفان) وأي إرث مذهل كشف النقاب عنه ليتم نهبه، وأي تفكير ليتم نسخه ومحاكاته في الطريق نحو سينما تعني بتداعي الدلالات".

وهكذا دشن رؤيته الجديدة بفيلمه المميز "ظلال أجدادنا المنسيين" عام 1964 الذي صوره في ستوديو دوفجينكو في كييف عاصمة أوكرانيا. الفيلم الذي قورن حينها بفيلم أيزنشتين "المدرعة بوتيومكن"، وأعتبر أعظم وأهم فيلم أوكراني منذ فترة الأفلام الصامتة لدوفجنكو. فيلم شعري مفعم بالأساطير الشعبية والرموز والأغاني والثيمات الفولكلورية. حينها علق باراجانوف على جل أفلامه التي سبقت هذا الفيلم قائلاً أنها لم تكن سوى محض "قمامة".

وهكذا ولد نجم جديد في سماء السينما السوفييتية. إلا أن ضوء تلك النجمة كان ضوءاً غير عادي، ضوء يغشي العيون ويصعب التنبؤ بمساراته، لا بل أصبح مصدر تهديد لرؤوساء إدارة السينما السوفيتية برمتها. يقول باراجانوف بهذا الشأن:

"حين شاهد الرسميون في وزارة السينما الفيلم فهموا أنه بمثابة تقويض لقواعد الواقعية الاشتراكية والقذارات الاجتماعية تلك التي أدارت وتحكمت في السينما السوفييتية آنذاك. لكنهم لم يستطيعوا فعل شيء لأن الوقت كان قد تأخر جداً: فبعد يومين جرى الاحتفال اليوبيلي بالذكرى المئوية لمؤلف قصة الفيلم ميخائيل كوتسيوبنسكي (*)، لذلك قالوا:(دعوه يذهب ويعرض فيلمه).

عرض الفيلم لكنهم أوقفوا عرضه ثانية فيما بعد بالطبع. لكن حين شاهد المثقفون الفيلم أثار فيهم شيء ما وسبّب ردة فعل مضطربة في أوساطهم مادفع الوزارة أن تطلب مني عمل نسخة للفيلم باللغة الروسية. الفيلم بالطبع لم يكن باللغة الأوكرايينية فحسب إنما باللهجة الهوتسللية (لهجة القبائل السلافية كالرومانية). إلا إنني لم أستجب لطلبهم وامتنعت بشكل مطلق في ذلك الحين من عمل نسخة باللغة الروسية، وهكذا وضع اسمي حينها في القائمة السوداء".

ينبغي القول إن القدرات التعبيرية لبراجانوف لم تتجلى في أفلامه ورسوماته فحسب، إنما تجسدت في حياته وسلوكه الشخصي أيضاً. بمعنى آخر، كان باراجانوف يحيا حياته كفنان، وليس ثمة حدود فاصلة بين سيرته كأنسان ومهنته كفنان، وهذه واحدة من معضلاته الكبرى. فمن الأشياء الطريفة وربما الغريبة أيضاً في سلوكه مثلاً أنه أراد أن يحتفل ذات مرة بعيد ميلاده في كييف فخرج إلى الشوارع وصار يعلن عن عيد ميلاده ويدعو جميع معارفه لحضور الحفل.

وحين بدأ الحفل كان عدد ضيوفه يقارب المائة ضيف. حينها حشر عشرون منهم في شقته الصغيرة، أما البقية، ومن دون اسئذان من سكنة المبنى، فقد أجلسهم على سلالم وممرات المبنى من الطابق الأول وحتى الطابق الخامس، بعد أن غطى تلك السلالم بالسجاد وزينها بالإكسسوارات والفضيات العتيقة. وكان يستقبل الضيوف بنفسه صعوداً ونزولاً في المصعد وهو يرفع نخب كل ضيف ويضحك فرحاً مثل طفل. وفيما كانت ابواب المصعد تفتح وتغلق كان هو يتنقل بين الطوابق أشبه بمهرج في سيرك.

وثمة مثال آخر على حبه للمشاكسة وكراهيته للنظام، أن استعراضاً عسكري رسمي كان يمر في الشارع الذي يقيم فيه ما أثار غضبه ونقمته فخرج من شرفة شقته المطلة على الشارع وراح يضرب السجادة بحذاءه بقوة لنفض الغبار العالق بها وكان الغبار يتساقط فوق رؤوس المستعرضين والجمهور معاً.

كان سيريوجا عاشقاً لإحداث نوعاً من الصدمة عند الجمهور بإعلانات وتصريحات فاضحة وكان مبتكراً ولعوباً في عمل ذلك. ففي مقابلة له في صحيفة دنماركية مثلاً صرح بأنه كان يتلقى تحرشات جنسية قاربت العشرين من أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي، وكان ذلك مجرد مزحة بالطبع، لكن كان لتلك المزحة صدىً واسعاً في جميع بقاع العالم.

وصل باراجانوف إلى أرمينيا في عام 1966 وفي العام الذي تلاه أخرج فيلماً وثائقياً بعنوان "هاكوب هوفناتانيان"، والتقى في ذات العام بالمصور والسيناريست والمخرج ميخائيل فارتانوف الذي سيصبح صديقه الأقرب والذي سيكمل إخراج آخر فيلم له وهو "الاعتراف" في عام1990 بسبب وفاته، الفيلم الذي حمل عنواناً آخر هو "باراجانوف" الربيع الأخير.

شهد عام 1968 تصوير فيلم "لون الأرض الأرمنية" أو "سايات نوفا" في الإستديوهات الأرمنية. الذي هو بمثابة تحفة باراجانوف المطلقة وجوهرة السينما الأرمنية والعالمية على حد سواء. وبسبب من عدم تطابق أسلوب الفيلم مع متطلبات الأيدولوجية السوفييتية أرغم باراجانوف على تغيير اسم الفيلم باسم آخر هو "لون الرمان"، لكن وبالرغم من كل التعديلات التي تم إجرائها على الفيلم إلا إن الفيلم لم يلقَ قبولاً من لجنة الدولة لصناعة السينما أو وزارة السينما، فقد خبئوا جميعاً عجزهم وضعفهم وراء القرار الذي أصدروه بجملة مبتسرة:"إن الشعب السوفييتي ليس بحاجة إلى مثل هذه السينما".

المخرج السوفييتي سيرغي يوتكيفيتش أعاد مونتاج الفيلم بعد عام من إنجازه وعمل نسخة منه باللغة الروسية لكن الفيلم بقي محظوراً لفترة طويلة جداً.

أنجز باراجانوف خلال تلك الفترة كتابة أربعة سيناريوهات اشترك معه في الكتابة فيكتور شكولوفسكي إلا أنها رفضت جميعها، وهي:"اللحن الفاصل"، "آرا الجميلة"، "الشيطان"، "معجزة أودينس".

أفرج أخيراً عن فيلم "لون الرمان" في عام 1973 أي بعد مرور خمس سنوات على انتاجه لعرضه في الصالات. ومع ذلك لم يعرض الفيلم إلا لشهور قليلة فقد تم توقيف عرضه نتيجة لتهم جديدة لفقت لباراجانوف في ديسمبر من العام نفسه حيث تزايد لدى السلطات السوفياتية الشك في النزعات التخريبية لمداركه وأحاسيسه لاسيما الجنسية منها متهمين إياه بالمثلية ونشر الإباحية وبأنه ولص ومجرم ومحرض واستفزازي ومحب لانتهاك الأعراف الاجتماعية والثقافية على حد سواء، وهذه كلها تعتبر جرائم كبرى في الإتحاد السوفييتي. وهكذا تم اعتقاله وحكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات في معسكر للأشغال الشاقة في سيبيريا. يومها وجّه المخرج أندريه تاركوفسكي رسالة إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في أوكرانيا قبل ثلاثة أيام من قرار الحكم قال فيها:

" في السنوات العشر الماضية حقق سيرجي باراجانوف فيلمين فقط، فيلم "ظلال أجدادنا المنسيون" وفيلم "لون الرمان" وكان لهذين الفيلمين تأثير هائل على السينما في أوكرانيا أولاً، وفي البلاد ثانياً وفي العالم بأسره ثالثاً.

فنياً، ثمة عدد قليل جداً من الناس في العالم بأسره ممن يمكن أن يحّلوا بدلاً من سيرغي باراجانوف في هذا الميدان. إنه مذنب - مذنب بسبب تفرّده. نحن جميعاً مذنبون لأننا لم نفكر به يومياً، مذنبون لأننا فشلنا في اكتشاف أهمية هذه الفنان البارع".

رسائل إلى المنطقة المعزولة
هذه رسالة كان قد بعث بها أندريه تاركوفسكي إلى صديقه باراجانوف في 18 أكتوبر 1974 وقد تم نشرها في مجلة إيسكوستفا كينو (فن السينما) العدد 12 عام 1990. كتبت المحررة سفيتلانا شيرباتيوك:

"هذه الرسالة بعثها لي باراجانوف كي أحتفظ بها وهي تستحق النشر كاملة لأنها كانت عزيزة إلى قلب باراجانوف بشكل خاص، وهي من بين الرسائل المدهشة التي بعثها لآخرين أمثال ليلي بريك وفاسيلي كاتانيان وفاسيلي شوكشين ويوري لوبيموف وكيرا موراتفا وإيميل لوتيانو وسواهم. »

نص الرسالة
18أكتوبر 1974
عزيزي سيريوجا
أنت على حق إن وفاة فاسيا (**) هي بمثابة حلقة في سلسلة تربطنا جميعاً معاً.

إننا نفتقدك هنا ونحبك كثيراً حقاً ونحن في انتظارك بطبيعة الحال. كيف هو وضعك الصحي؟ وهل بمقدورك أن تستلم كتباً؟
أكتب لي "حين تكون لديك فرصة" إذا ما كان بإمكاني أن أفعل أي شيء لك الآن.

هنا في موسكو، الأشياء القديمة هي نفسها: فيلمي "المرآة" لم يُقبل وهو ينتظر منذ نصف عام. لكنني آمل الآن أنهم سيوافقون عليه، سواء اليوم أو في الغد.

متعب أنا إلى أبعد الحدود من هذه البيروقراطية التافهة التي تتعامل معنا بمثل هذه القسوة. سأغادر موسكو لأمضي هذا الشتاء في الريف قرب نهر أوكا.

ينبغي أن تعرف ياسيرغي أن الجميع هنا في موسكو قد صعق بتجربتك الملحمية في السجن. إنه لشيء غريب كيف سمحنا لأنفسنا من قبل أن لانهتم ونحب أحدنا الآخر. إجمالاً، نحن ننتظر المصائب التي لاتحصى أن تحدث أولاً. وهنا، في الواقع، "لايُقبل نبّي في وطنه".

إن الشيء الوحيد الذي أنا واثق منه تماماً هو استبسالك الذي هو بمثابة خلاصك.

أنت، قبل كل شيء، إنسان موهوب جداً "وهذا الوصف غير كاف!" والناس الموهوبون يكونوا أقوياء عادة. دع كل ما هو أفضل أن يبقى في داخل روحك ليمنحك القوة الآن.

أعانقك ايها الصديق العزيز!.
* لاريسا (***) تبعث تحياتها وكذلك غاله شيبانوفا.
صديقك أندريه تاركوفسكي

هامش:
(*) الكاتب الأوكراني الديموقراطي الثوري ذو النزعة الانطباعية 1864-1913.
(**) المقصود فاسيلي شوكشين الممثل والسيناريست والمخرج الروسي. توفي عام 1974.
(***) لاريسا هي زوجة تاركوفسكي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.