كتب/سعيد عكاشه رتبت معاهدة السلام الموقعة بين مصر وإسرائيل عام 1979 برعاية الولاياتالمتحدةالأمريكية، التزامًا بين البلدان الثلاثة لتحقيق أهداف محددة، كان على رأسها خلق نموذج لحل الصراع العربي-الإسرائيلي يمكن تطبيقه مع دول الطوق (الدول المحيطة بإسرائيل، وهي تضم إلى جانب مصر كلا من لبنان والأردن وسوريا) بحيث يتحقق السلام والاستقرار الضروريان لحماية المصالح الأمريكية في المنطقة، كما يعتبر طرح واشنطن لحل الدولتين (إسرائيل، دولة فلسطينية) ملحقًا إضافيًّا لنفس النموذج. رؤية إسرائيلية لمصادر تهديد معاهدة السلام تتمثل المصالح الأمريكية في المنطقة في ضمان أمن إسرائيل، وتدفق النفط، وإزالة أسطورة عداء الولاياتالمتحدة للعرب والمسلمين لمنع وصول الأعمال الإرهابية إلى أراضيها، ومنع الإضرار بمصالحها الاقتصادية في المنطقة العربية. ويمكن القول إن معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل كانت الضمان الأهم لتحقيق الهدف الأول من الأهداف الثلاثة المذكورة، ومن ثم اقتضى الحفاظ عليها تقديم التزام أمريكي بحزمة مساعدات ضخمة جعلت من مصر ثاني أكبر متلقٍّ للمساعدات الأمريكية بعد إسرائيل. واعتبرت إسرائيل نفسها طرفًا لا يمكن أن يهدد بقاء المعاهدة، حيث استفادت منها، سواء بإنهاء فرص تشكيل جبهة عربية قد تشن حربًا عليها مرة أخرى على غرار حرب أكتوبر 1973، أو كون المعاهدة ذاتها لم تتعرض لانتقادات ذات بال من الكتل السياسية الكبرى فيها، بل إنها حظيت وما تزال بتأييد أغلبية الرأي العام الإسرائيلي. في حين كان هناك مصدران لتهديد المعاهدة، الأول يأتي من جهة مصر التي لم يرحب الرأي العام فيها بالسلام مع إسرائيل، وظلت المعاهدة إحدى أهم نقاط الضعف لنظام حكم الرئيسين السادات ومبارك، التي استغلت على الدوام من جانب المعارضة القومية واليسارية والإسلامية للتشكيك في وطنية النظامين، واعتبارها دليلا على عدم اعتنائهما بالمصالح الوطنية المصرية، ومبررًا للتهجم عليهما، أو حتى المطالبة بإسقاطهما، وإسقاط المعاهدة معهما. في ظل هذه الأوضاع، رأت إسرائيل أن بقاء المعاهدة سيظل مهددًا ما لم تصاحبه ضغوطات سياسية واقتصادية وعسكرية كان على الولاياتالمتحدة أن تؤمنها بحزمة مساعدات لمصر، ونمط من الاعتماد الكامل على السلاح الأمريكي يضمن عدم قدرة أي نظام حكم هناك على التضحية به، ومن ثم التضحية بمعاهدة السلام ذاتها حتى تحت الضغوط الشعبية في الداخل. أما المصدر الثاني الذي يهدد المعاهدة فهو الولاياتالمتحدة ذاتها التي يمكن أن تستغل المساعدات للضغط على مصر في ملفات أخرى ليس لها ارتباط بالمعاهدة، مما يخلق وضعًا قد تُقدِم فيه مصر على التخلي عن المعاهدة في حالة حرمانها من المساعدات بسبب الخلافات مع واشنطن في ملفات بعيدة كل البعد عن العلاقات مع إسرائيل. مخاوف تل أبيب وتجميد المعونة لمصر تاريخيًّا تخطت معاهدة السلام كل الاختبارات التي مرت بها وهددت بقاءها، بدءًا من التزام مبارك فور توليه الرئاسة بعد اغتيال السادات عام 1981بالحفاظ على التزامات مصر الدولية وعلى رأسها معاهدة السلام، مرورًا بالأزمات التي تعرضت لها العلاقات المصرية-الإسرائيلية بسبب سياسة إسرائيل تجاه لبنان والفلسطينيين خلال العقود الثلاثة من حكم مبارك، وانتهاء بما أحدثه سقوط نظام مبارك من تزايد قوة التيار الإسلامي في الساحة السياسية، ووصوله إلى الحكم. عبر كل هذه الأزمات تمسكت مصر بالحفاظ على المعاهدة، حتى أن الرئيس السابق محمد مرسي الذي ينتمي لجماعة الإخوان -صاحبة التاريخ الطويل في معارضة اتفاقية السلام- لم يظهر أي توجه نحو تعديل المعاهدة، فضلا عن إلغائها، كما كانت تطلب بعض التيارات السياسية.ولم تتحقق المخاوف الإسرائيلية إلا حينما قررت الولاياتالمتحدة البدء في استخدام المعونة المقدمة إلى مصر كأداة ضغط عليها في ملف معالجة الوضع الذي نجم عن عزل محمد مرسي من الرئاسة في الثالث من يوليو 2013. فعقب الإعلان الأمريكي عن تجميد بعض المساعدات العسكرية المقدمة إلى مصر من جراء استمرار الأزمة السياسية بها، وعدم مرونة الحكومة المصرية الحالية تجاه تحقيق مصالحة مع جماعة الإخوان؛ أبدت بعض المصادر في إسرائيل قلقها من القرار الأمريكي وتأثيراته المحتملة على معاهدة السلام مع مصر، فعلى سبيل المثال قالت افتتاحية صحيفة هآرتس (10 أكتوبر 2013): "إن إسرائيل تعتبر المساعدات الأمريكية ركنًا مركزيًّا في اتفاقية السلام مع القاهرة، ومركبًا ضروريًّا في الحفاظ على الاستقرار في المنطقة". ونقلت صحيفة نيويورك تايمز في نفس اليوم عن مسئول إسرائيلي رسمي قوله إن إسرائيل تشارك في المباحثات في الإدارة الأمريكية بشأن تقليص المساعدات لمصر. وحذر المسئول نفسه من أن أبعاد هذه الخطوات قد تتجاوز علاقات إسرائيل-مصر، وبحسبه فإن "الولاياتالمتحدة تلعب بالنار، كما أنه لا يمكن تفكيك اتفاقية السلام مع مصر، أو إخراج جزء منها، وأضاف أن هناك عناصر أخرى في هذه المشكلة، وهي غير مرتبطة بإسرائيل، بل مرتبطة بموقف الولاياتالمتحدة مما يجري في العالم العربي". بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن إسرائيل تخشى من أن تفسر مصر صدور القرار الأمريكي بتجميد المعونات على أنه نوع من التواطؤ من جانب إسرائيل، كونها لم تستخدم نفوذها في واشنطن لمنع صدور القرار، في ظل قناعة مستقرة في مصر بقوة نفوذ اللوبي الإسرائيلي في واشنطن. السعي الإسرائيلي للفصل بين المعونة والمعاهدة قد تسعى إسرائيل في ظل تهديدات واشنطن لمصر بمزيد من التقليص في المساعدات إلى محاولة الفصل بين المعونات المرتبطة بالحفاظ على معاهدة السلام وبين الضغوطات الأمريكية على مصر لإيجاد مخرج للأزمة بين نظام 30 يونيو وجماعة الإخوان المسلمين؛ إذ تدرك إسرائيل أنها لن تكون قادرة على منع واشنطن من اتخاذ قرارات إضافية لتقليص المعونة الموجهة إلى مصر، حيث إن واشنطن ترى أن الإبقاء على هذه المعونة سيرسل إلى الإخوان رسالة مؤداها أن الولاياتالمتحدة راضية عن السياسات التي تتبعها الحكومة المصرية الحالية تجاههم، الأمر الذي قد يزيد من حدة الأزمة بين الجماعة التي باتت تتبنى العنف صراحة وبين الولاياتالمتحدة، بما ينذر بعودة الإخوان وحلفائهم من التيارات الإسلامية لسياسة معاقبة واشنطن على تأييدها لأنظمة غير ديمقراطية كما كان الحال إبان حكم مبارك، أو بمعنى آخر بعودة التيارات الإسلامية إلى ممارسة العنف وتهديد المصالح والأمن الأمريكيين. ومن ثم تدرك إسرائيل هنا مدى محدودية قدرتها على ممارسة الضغوط على واشنطن في مسألة تخص الأمن القومي الأمريكي بشكل مباشر، مما يجعلها أقرب إلى محاولة إقناع واشنطن بأن تستخدم حلفاءها في أوروبا أو في الخليج العربي لمنع وصول استثمارات أو معونات إلى مصر بدلا من قطع المعونات الأمريكية التي باتت مرتبطه بمعاهدة السلام. وفي هذا الصدد كتب مايكل سينغ في فورين بوليسي 9 يوليو 2013 قائلا: "إن نفوذ واشنطن على مصر لا تصنعه سياسة المساعدات الأمريكية، بل قدرة واشنطن على الإضرار بمصر، كما أن هناك مصدر نفوذ آخر في غاية الأهمية، والذي ينبغي على الولاياتالمتحدة أن تسعى لتوظيفه وهو المساعدات الدولية. فالكارثة الاقتصادية التي لاحت في الأفق قبل الإطاحة بمرسي لا تزال تخيم على مصر، مهددة نجاح أي حكومة. وللخروج بنجاح من هذه الأزمة، ستحتاج مصر إلى التمويل الخارجي في شكل مساعدات رسمية واستثمار خاص. وعلى الرغم من أن المساعدات الأمريكية صغيرة جدًّا لدرجة أنها لا تصنع فارقًا حقيقيًّا في مجريات الأحداث القادمة في مصر فإن إجمالي المساعدات التي من الممكن أن يقدمها حلفاء أمريكا مهمة بشكل أكبر من ذلك بكثير". وما يقدمه سنج هنا هو الوصفة التي تراها إسرائيل ملاءمةً لكي لا تتعرض معاهدة السلام مع مصر للخطر في حالة قطع المعونة الأمريكية، دون أن يحرم ذلك واشنطن في الوقت نفسه من ممارسة ضغوط على مصر من أجل إنجاح المصالحة مع جماعة الإخوان. غير أن ذلك بدوره ليس أمرًا مضمونَ النجاح؛ حيث ستظل واشنطن عرضةً لانتقادات داخلية وخارجية بسبب الإبقاء على المساعدات لدولة لا تلتزم (في عرف المعترضين) بالديمقراطية وحقوق الإنسان، كما أنه يصعب إقناع حلفاء واشنطن -سواء في أوروبا أو بلدان الخليج- بتبني سياسات عقابية ضد مصر في وقت تستمر فيه الولاياتالمتحدة في تقديم مساعدات لها، ناهيك عن أن بعض هذه الدول ترى في الإخوان خطرًا كبيرًا على استقرارها في حالة عودتهم للحكم في مصر، أو حتى مشاركتهم فيه. خلاصة القول: تجد إسرائيل نفسها في مأزق شديد، فهي لا تريد أن تعطي لمصر ذريعة لإلغاء المعاهدة، أو على الأقل تعديلها، في حالة قطع المعونة الأمريكية، ومن الجانب الآخر لا تريد صدامًا مع الإدارة الأمريكية في أمر يخص القيم والمصالح الأمريكية، وبين هذا وذاك تتحرك إسرائيل لإيقاف السياسه العقابية الأمريكية لمصر عند حدود تجميد بعض أوجه المعونة، وعدم إلغائها بالكامل، أملا في أن تمضي خارطة الطريق في مصر على نحو يجعل الإدارة الأمريكية تمتنع عن قطع المعونة، وتهديد معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل عن/المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجيه