أكثر شيء يفجّر المرارةَ هو موقف إخوتنا المثقفين، في الطرف الآخر، من قضية الجنوب، لأنهم يتحدثون عن كل قيَم الدنيا ... وحقوق الشعوب، والإنسانية وغير ذلك، لكن وحين يأتي ذكر الجنوب تنسد الأفواه كمن ألقمها حجراً بركانياً. حسناً يا إخوةَ الصبر والثبات ! انتم مع حقوق الجنوبيين بشكل عام، ومع ان القضية الجنوبية قضيةٌ عادلة ومحورية وبدون حلها حلاً ناجعاً فانه لا استقرار ولا أمن ولا مستقبل... كل ذلك تسلّمون به تماماً كما يجب. ولكن حينما يأتي السؤال ؛ ما هو الحل إذن ؟ تصبح الإجابة ضرباً من الشعوذة وقراءة الودع فتأتي حلولكم كالآتي ؛ ينبغي ان تكون هناك دولة مدنية ليبرالية ديمقراطية عادلة لا شرقية ولا غربية وينبغي ان يكون هناك لا مركزية وتوزيع عادل للثروة وينبغي ان تنتهي القبلية والطائفية والجهوية وينبغي وينبغي ... وتعددون ... وتعدّون آلاف ال( ينبغيات) حتى يتخيل المستمع أنكم تبنون فردوساً حقيقياً في الجمعة المباركة القادمة فقط. كمن لا يدرك بان المعضلات والأزمات والنزاعات واستعادة الحقوق لا يتم حلها على أسس واقع افتراضي سيأتي العمل على تشييده، أو كمن يعرّش اغصاناً خضراء فوق نفاية سامة !.
وحين يأتي السؤال ؛ (كيف) اذاً تُبنى كل تلك المزدحِمات بالاستحالة في زمن قياسي ؟، يتمدد ال(كيف) العصي وتمر تداعياته المتحولة، فالتاريخ مشحون بألوان ال(كيف) التي لم يتم تطبيق ذرة منها على ارض الواقع منذ ان عرفنا قراءة الأبجدية الاولى للكلام في السياسة . وربما سيحتاج كيفنا هذا الى ملايين من المراجع وأمهات الكتب وآلاف المفكرين ليضعوا شفرةً لترياقٍ نظري نمكث تاريخاً في تفكيكه والاتفاق عليه.
كان العرب وما يزالون اكثر شعوب العالم رومانسية، خاصة بوصفاتهم السياسية الجاهزة وتعليبها لتظل صالحة عبر التواريخ والعصور فيموتون ويتعفنون لتبقى طازجة في وجه الأجيال. ومنذ داحس والغبرا حتى داعش والنصرة ( مع الاعتذار للفرسَين الجاهليَين ) تتساوى دوافع الحروب والموت وتتوسع الفكرة في أفق التضاد ومحاولات الهيمنة تحت أسماء وغايات مختلفة لكنها جميعاً تقوم على مبدأ الجهل ونزعة الاستملاك الغريزية.
لهذا يفعل فينا إرث العقليات المتطرفة في مقارباتنا للحياة فعله العميق ويطوق أعناقنا ويؤخرنا ويؤجل كل طاقاتنا الى عهود غير محددة او منظورة. فمن يثور يفترض ان الثورة بعد يومين ستخلع عنه ألبسَةَ الدهر العتيقة وتعدّ حريراً ناعماً لكل مشاهد الحياة، وان الديمقراطية يتم تجهيزها بعقد جلسة عامة وعلنية وان الاقتصاد سيدخل من بوابة المجالس العليا ( جمع مجلس أعلى )، وان الوحدة او الخلافة الاسلامية تأتي على اجنحة الخطاب السياسي الديني فتنتظر على ناصية الشارع المجاور وهكذا. وبما ان كل شيء مقدس في حياتنا فلا أهمية للتفاصيل ! مع انها هي المحددات الاساسية لكل بناء ولأي شيء، وهكذا يضيع التاريخ و(تتطعفر) الأزمنة من بين أيدينا وتُستنسخ الثورات والأجيال والوعي.
الان على مذبح الموفمبيك يمتد الجسد الجغرافي على الطاولة متبلد بارد وجاهز للتشكيل حسب الطلب، وترتفع السواطير والأزاميل بأنواعها للقصّ واللصق والنحت دون تكبير (إبراهيمي) على الأضحية، في عملية محفوفة بتصريحات الساسة العظام ومهرّجيهم. بينما خارج الموفمبيك واقع لا قِبل لاحد به. ومن خلفه ومن حوله صراخ الدهاة المثقفين وأصواتهم المتكسرة باعتبارهم الوجه الاخر للمشكل الكبير، فلا حلول حقيقية يقدمونها بشكل كامل وواضح وصريح لقضية كبيرة كقضية الجنوب، مثلما يريد أهله، بل يرفعون ذات الشعار، بنفس الصلابة كما يفعلها الزعماء والشيوخ ولكن بطُعمٍ خفيف الظل ؛ بروفايل منخفض، أقل وطأة وأشد حرفنة، وبملحقات اصطلاحية حول الواقع الافتراضي الموعود، يبشرون به فوق وطن الميعاد الذي لم تأت على ذكره الكتب المقدسة بل يجيء عند كل صباح على صحائفهم .
كلنا جميعاً كنا نحلم ذات يوم ولكن حين انفجر الواقع امام أعيننا رأينا ان النقش الفردوسي على بوابة جهنم مستحيل، وان التلاوة لحظة الغرق متأخرة، وأن الوحدة لن تقوم من موتها. فهل ستحملون نعشها الى ما لانهاية أم سيحين الوقت لان تترجل، ثم نترك الحياة تجري على طبيعتها بسجيتها وواقعيتها، ونحاول جميعاً غرس المحبة والسلام وشروط البقاء المتكامل السَوي.