السيدة عائشة تسأل النبي صلى الله عليه وسلم : ( هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ ) فقال : لقد لقيت من قومك ما لقيت يا عائشة ، وكان أشد ما لقيت يوم عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال ) ، وهو رجل من أشراف أهل الطائف ، فحينما خرج الحبيب صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الطائف ، ولم يخرج : ليطلب مالاً ، ولا ليطلب دنيا ولا جاهاً، ولا وجاهة ، ولا شهرةً ، ولا منصباً،
[[ وهذا ما يفعله كثير من الزعماء في زماننا إلا من رحم الله ]] وإنما ليخرجهم من ظلام الشرك والوثنية إلى أنوار التوحيد والإيمان برب البرية جل وعلا.
تصور معي أنه صلى الله عليه وسلم مشى من مكة إلى الطائف على قدميه أكثر من سبعين كيلو ، لا توجد سيارة ، ولا دابة ، بل مشى على قدميه المتعبتين الداميتين ، وتحت حرارة شمسٍ محرقة يعلمها كل من سافر إلى مكة للحج والعمرة ، شمس انعكست أشعتها على الرمال ؛ فكادت الأشعة المنعكسة أن تحرق الأبصار.
طريق غير ممهدة ، لم يركب حماراً ، ولا بغلاً ، ولا جواداً ، ولا ناقة ، ومع ذلك لمّا وصل إلى الطائف سلط الأشرافُ السفهاءَ والصبيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففعلوا به ما لا يتصور البتة أن يفعله إنسان صاحب مروءة بإنسان غريب رموه بالحجارة ، سبّوه، شتموه ، وعاد النبي صلى الله عليه وسلم حزيناً كئيباً ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فلما لم يجبني إلى ما أردت – أي : ابن عبد ياليل بن عبد كلال ، وهو شريف الطائف في يومه ذلك عدت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب ) ، وقرن الثعالب مكان يبعد عن الطائف حوالي خمسة كيلو .
تصوروا معي ، ما كان من الهمّ الذي يحطم فؤاده ، ومن الألم الذي يفتت كبده لا يعرف أين هو ، عاد وهو مهموم على وجهه : دعوة مطاردة ، أصحاب مشردون في الحبشة ، وصاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم يضرب ، ويُسب ، ويُشتم ، ويُرمى بالحجارة.
تصوروا الحالة النفسية التي كان يعيشها النبي عليه الصلاة والسلام في هذه اللحظات ، يقول : ( فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب ، فإذ بسحابة قد أظلتني ) هذه هي التي شدت انتباهه ، وهي التي أخرجته من الهموم والآلام والأحزان : ( فنظرت فرأيت جبريل عليه السلام والحديث في الصحيحين فنادى جبريل على النبي الجليل صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله ! إن الله قد سمع قول قومك لك ، وما ردوا به عليك ، وإن الله تعالى قد أرسل إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت ، بالله عليكم افترض أي بشر في هذا الموقف دماؤه تنزف ، مطرود ، مهان ، سبوه ، شتموه ، تصور كيف يكون الرد !
وإذ بملك الجبال ينادي عليّ : السلام عليك يا رسول الله ! لقد أرسلني الله عز وجل إليك لتأمرني بما شئت فيهم ، لو أمرتني أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت ) ما هما الأخشبان ؟ الأخشبان : جبلان عظيمان ، يقال للأول [ أبو قبيس ] ، ويقال للجبل للثاني [ الأحمر ]
والله الذي لا إله غيره لو كان الحبيب صلى الله عليه وسلم ممن ينتقمون لأنفسهم وذواتهم وأشخاصهم ، ولو كان الحبيب ممن خرج لذاته ،أو لمجد شخصي ، كما يفعله المراؤون في زماننا أو لانتفاع دنيوي حقير زائل كما يفعله المتنفذون في زماننا لأمر ملك الجبال أن يحطم هذه الرؤوس الصلدة ، والجماجم العنيدة ، ولسالت دماء من الطائف ليراها أهل مكة بمكة ، لكن اسمع ماذا قال صاحب الخلق الرفيع ؟ اسمع ماذا قال الرحمة المهداة لملك الجبال ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( بل أرجو الله عز وجل أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً ) لم يُبعث لعّاناً ولا فحّاشاً، وإنما كما قال هو عن نفسه صلى الله عليه وسلم: ( إنما بعثت رحمة ) وكما قال ربه جل جلاله : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] . وكما قال ابن عباس : هو رحمة للفاجر والبار فمن آمن به فقد تمت له النعمة ، ومن كفر به أمن من العذاب في الدنيا : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ } الأنفال:33 .