لا تملك وأنت تقرأ الرواية الموجَّهة للفتيان بقلم الروائي عبده وازن (الفتى الذي أبصر لون الهواء) إلا الإعجاب والتفاعل والتعاطف مع بطلها. وتتمحور القصة حول كفيف في الثالثة عشرة من عمره يعيش في قرية لبنانية مع عائلته، ومجاورًا لعمه وعائلته. الكاتب يشرح بداية كيف اكتشف الأهل أن طفلهم كفيف، وردة فعل الأب المؤلمة، ثم تردده في كيفية إخبار الأم، واستعانته بأخيه وزوجته لإخبارها، وصدمتها الكبيرة عندما عرفت. وبتصوري أن العوائل لا تستوعب الأمر في بداية الأمر عند اكتشافهم للإعاقة التي حدثت للطفل، وتختلط مشاعر الألم والحزن مع شعور بالشفقة تجاهه، وتجاه مستقبله، وكيف سيتعامل مع المجتمع؟! وأسئلة كثيرة محيرة. الكاتب هنا سرد بعض الأحداث بأسلوب جميل وبسيط مفهوم لدى كل الفئات السنية، ملخصًا فيه بعض التساؤلات التي ذكرناها، ومنها والدة الكفيف، وكيف تقبَّلت -بعد إلحاح- سفره إلى معهد لتعليم المكفوفين، حيث يتعلم ضمنها لغة “برايل” الخاصة بهم. كما فصَّل في مشاعر الفتى المضطربة، وقلقه وخوفه من فراق عائلته التي يعتمد عليها كثيرًا، إلا أنه تغلَّب على كل هذه الهواجس بثقته بنفسه، ومثابرته على التعلم، وطموحه الكبير للعلم والمعرفة. وفي نهاية روايته أبدى “وازن” الجانب المشرق المتفائل عندما تقدَّم الابن لامتحان ثقافي على مستوى الجمهورية، وحاز به على المركز الأول، واستلم الجائزة وسط تشجيع كبير من حفل حضرت فيه العائلة الذين بكوا جميعهم من فرط السعادة. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل إن إدارة المعهد عينته لديها؛ لبراعته في التعامل مع “برايل” في اللغة العربية. في السعودية أتعامل مع حالات الفئات الخاصة بحكم العمل، وبالتالي ألتقي مع الأهالي كثيرًا، وكم يعجبني هذا الإصرار والتفاني الذي يبذلونه لمساعدة أطفالهم على التكيف مع حالاتهم، فمنهم من يترك عمله ويرافق ابنه إلى الخارج؛ لكي ينخرط الابن أو الابنة في معاهد متخصصة، ومنهم من ترافقه والدته، ويبقى الأب في عمله للصرف عليهم، والبعض يسجله في مراكز داخلية؛ بحكم أنه لا يستطيع أن يهتم به؛ لأن حالته إما صعبة، أو لأن لا علاج في السعودية. ومن دون مبالغة فإن الكثير من هؤلاء -أي ذوي الفئات الخاصة- لديهم ذلك الذكاء الفطري الذي يعوضون به بعض دواعي الإعاقة في حالاتهم. ومن شاهد الفيلم العظيم “رجل المطر” -بطولة داستن هوفمان، وتوم كروز- لشاهد تجسيدًا لقصة حقيقية عن شاب أمريكي لديه توحد شديد، إلا أنه مع ذلك كان عبقريًّا بالأرقام بشكل لا يصدق. وقد نشرت صحيفة “الشرق الأوسط” في تاريخ 14/11/2004 تقريرًا عنه بعنوان (ناسا تدرس دماغ الشخصية الحقيقية لفيلم “رجل المطر” المصاب بالتوحد)، وذكرت فيه: والمعلوم أن “بيك”، 53 عامًا، يلقب ب«العالم المتعدد المواهب»؛ لكونه أكثر من عبقري في أكثر من 15 موضوعًا، يراوح بين التاريخ والأدب الإنجليزي والجغرافيا والأرقام الحسابية والرياضة والموسيقى والتواريخ المختلفة، لكنه في المقابل محدود جدًا في أشياء أخرى، مثل عدم قدرته العثور مثلاً على الدرج التي توضع فيه سكاكين المطبخ وملاعقه في منزله، وعجزه عن لبس ثيابه من دون مساعدة. كما أضافت أنه ضليع في خمسة عشر موضوعًا مختلفًا، ويحفظ تسعة آلاف كتاب عن ظهر قلب، بما في ذلك دليل الهاتف. صحيفة “اليوم السابع” نقلت عن الدكتور عبد الهادي مصباح، -أستاذ المناعة، عضو الأكاديمية الأمريكية للمناعة- قوله: بداخل كلٍّ منا براعم للإبداع والعبقرية في كلٍّ من مجالات الرسم والموسيقى والرياضيات، والقدرة على إنماء هذه البراعم وإظهارها تعتمد على إيقاف جزء من المخ وهو الجانب الأيسر المسئول عن المنطق، والذي يكبح بدوره الجانب الأيمن، المسئول عن الفن والإبداع والموسيقى والرياضيات، ولعل من دلائل العدل الإلهي أن الخالق -عز وجل- عندما ينتقص من الإنسان جزءًا من نعمه التي وهبها لكل البشر، فإنه يمده بجزء آخر ليس موجودًا عند كل البشر، ولكن المهم أن ندرك ما هو هذا الجزء الذي يكمن فيه النبوغ والعبقرية، ونركز عليه ونبرزه. ولقد توصل العالم “آلان شنيندر ” إلى هذا الاستنتاج من خلال بحث نشر أخيرًا في مجلة Proceedings Of The Royal Society”". وقد استشهد “شنيندر” ببعض الأمثلة لعبقريات مختلفة في مجالات الرسم والموسيقى والرياضيات في أشخاص بعضهم مصابون بداء التوحد، والبعض الآخر أصيب في حادث أفقده النطق وأثَّر على مخه، وعلى عدد آخر من ذوى الإعاقة الذهنية نتيجة لسبب أو لآخر.