شكلت المواجهات الأخيرة بين قوات الجيش اليمني وعناصر تنظيم القاعدة عنواناً جديداً للصراع الطويل والذي أصبح مؤرق لمختلف فئات الشعب وبالأحرى للجنوبيين الذين يناضلون في اتجاه البحث عن وطن كان إلى الأمس القريب عبارة عن دولة توحدت ثم تلاشت بفعل مؤامرة قذرة لم يحسب لها حساب آنذاك..والتي أفرزت معادلة سياسية جديدة، بعد ما خرج خصم الطرفين من الحكم، وهو الحزب الاشتراكي اليمني . وجاء بث الروح في “جماعة أنصار الشريعة الإسلامي في أبين ” من قبل تنظيم القاعدة في جزيرة العرب خلال الأشهر الأخيرة، ليعطي الصراع بعداً درامياً إضافياً تمثل في أن محور الصراع بات يتركز في الجنوب، بخاصة تلك المناطق التي كانت ملجأ آمناً لتنظيم الجهاد قبل ظهور أنصار الشريعة التابع لتنظيم القاعدة، والذي يعد الوارث الشرعي لكل التنظيمات الجهادية التي ظهرت في اليمن خلال تسعينيات القرن الماضي، وهي التنظيمات التي أدت أدواراً مختلفة في إطار الصراع بين فريقي الحكم في البلاد بعد الوحدة، وهما المؤتمر الشعبي العام وحلفاؤه من جهة والحزب الاشتراكي من جهة ثانية . وتبدو الساحة اليمنية حبلى بالتساؤلات عن مغزى تركز المواجهات الدامية بين صنعاء وأنصار الشريعة في جنوب البلاد، وبخاصة أبينوشبوة، حيث تؤكد المعطيات على أرض الواقع أن تنظيم القاعدة بشكل عام يحصل على هامش كبير من المناورة في إطار صراعه مع النظام ، ويعود ذلك إلى المساحة الجغرافية الكبيرة التي يتحرك فيها التنظيم، والطبيعة التي توفرها هذه الجغرافيا لحماية عناصره من الملاحقة، خاصة الجبال التي تشكل سياجاً آمناً إلى حد كبير في وقت تنعدم هذه الظروف في مناطق أخرى من البلاد,وربما لأهداف سياسية غير معلنة أو حتى تسجيل أهداف من قبل الأطراف المتنازعة هناك في صنعاء.. إضافة إلى ذلك هناك تساؤلات عن التوقيت الذي اشتدت فيه المواجهات الأخيرة بين الجانبين لدرجة أصبحت يومية، وتنتقل بين أبينوالبيضاء، وهل لهذا التوقيت صلة بالضغوطات الأمريكية على اليمن لإنجاز أجندة واشنطن للقضاء على القاعدة على الأراضي اليمنية أو القبول بالواقع والاحتكام للسياسات الأمريكية العفنة. لكن التساؤلات الكبرى هي تلك التي تتعلق بنتائج هذا الصراع، وهل يمكن أن يفضي إلى نهاية واضحة، بمعنى هل يمكن أن ينجح النظام في القضاء على تنظيم القاعدة، أم يتمكن التنظيم من توطيد أقدامه في الجنوب ويبقي المنطقة كلها تحت نفوذه، الأمر الذي يعطي لواشنطن المبررات للدخول بشكل أكبر في معمعان الصراع الدائر في البلاد . تقول التطورات الميدانية إن منطقة جعار ولودر ومودية أصبحت من المناطق المهمة لعناصر أنصار الشريعة التي توجد وتتوزع بشكل كثيف في محافظة أبين، بالإضافة إلى منطقة الحوطة وجبال كور العوالق بمحافظة شبوة المجاورة لأبين، وبعض مناطق البيضاء المجاورة لأبين وتكمن الخطورة في ذلك أن المساحة الجغرافية للمحافظتين كبيرة وتسمح للتنظيم بالتحرك بحرية ومرونة أكبر من أي مكان آخر . ومن اللافت أن تنظيم القاعدة"أنصار الشريعة" أعاد إحياء دور التنظيمات الجهادية السابقة في اليمن، حيث عاد هذا الدور على شكل أنشطة للجماعات الجهادية المسلحة، من أبرزها ما كان يسمى “جيش عدنأبين الإسلامي” الذي أسسه في العام 98 أبو الحسن المحضار، بائتلاف مجاميع من الأفغان اليمنيين العائدين من أفغانستان وبعض مراكز القوى القبلية، والذي جاء بالتزامن مع اتساع نطاق وحدة المواجهات المسلحة بين قوات الأمن وعناصر تنظيم القاعدة لتشمل مناطق جديدة في لحجوشبوة المجاورتين . الظهور العلني لتحركات مجاميع مسلحة تابعة لهذه الجماعات ، أثار قلقاً متنامياً تجاوز الأوساط الأمنية إلى الشعبية في أبين حيال ارتباط مثل هذه الجماعات بتنظيم “القاعدة”، بخاصة أن هذا الظهور يأتي في غمرة حالة متصاعدة من استشراء المظاهر المسلحة المتزامنة مع تصعيد تنظيم القاعدة لأنشطته في أبين ومحافظات مجاورة مثل شبوةولحج، وعقب ما يزيد عن سنوات من الانحسار الاضطراري لأنشطة وتحركات هذه الجماعات وانحسارها في منطقة “جبال سرار ومأرب فقط.. ويقول الباحث في شؤون الجماعات الجهادية والأصولية في اليمن عبدالرزاق بادي إن منطقة جعار في أبين ومنذ العام 2003 وتحديداً عقب احتلال العراق من ذات العام، تحولت فعلياً إلى حاضنة لمعسكرات تدريب اقتصرت على السعوديين الراغبين في السفر إلى العراق بغرض المشاركة في “الجهاد” ضد قوات الاحتلال الأمريكية والبريطانية ومعظم هؤلاء كانوا يفدون إلى اليمن بطرق شرعية وعبر المنافذ البريةأوالجوية ثم يتوجهون إلى أبين للانخراط في معسكرات التدريب مقابل دفع نفقات للقائمين على عمليات التدريب الذين كانوا في أغلبهم يتبعون جماعات جهادية شاركت في حرب السوفييت بأفغانستان وبعضهم من جيش عدنأبين الإسلامي المنحل. ويشير "بادي" إلى طبيعة التدريبات التي كانت تقدمها معسكرات جعار للوافدين إلى محافظة أبين قبيل سفرهم إلى بلاد الرافدين للجهاد بالقول إن “معسكرات جعار كانت تقدم تدريبات مختلفة للوافدين من قبيل إطلاق النار باستخدام أسلحة مختلفة وكيفية نزع صواعق القنابل اليدوية وغيرها من المهارات اللازمة للقتال، وقد أسهم ازدياد أعداد الوافدين إلى معسكرات التدريب في توفير مداخيل استثنائية للكثير ممن اضطلعوا بمهام التدريب، والذين كانت تقتصر مهامهم على إكساب الوافدين مهارات استخدام الأسلحة وإطلاق النار ؛ فيما تضطلع قيادة هذه الجماعات بمساعدتهم على السفر إلى العراق عبر سوريا التي كانت محطة العبور الأكثر أماناً للراغبين في التسلل إلى العراق للجهاد” . في العام 2006 دشنت السلطات اليمنية حملة أمنية موسعة استهدفت السيطرة على الأوضاع الأمنية في منطقة “جعار” بالتزامن مع إجراء مفاوضات غير معلنة مع قيادات في جماعات جهادية ناشطة في المنطقة من أهمها “منظمة جيش عدنأبين الإسلامي”، وتنظيم القاعدة لتسفر تلك المفاوضات التي شملت قياديين كخالد عبدالنبي،، زعيم جيش عدنأبين وجمال البدوي، عن اتفاق بإغلاق معسكرات التدريب بجعار مقابل تسهيلات أمنية وامتيازات وظيفية ومعيشية، وذلك عقب تصاعد الضغوط الأمريكية والغربية على الحكومة اليمنية اثر ازدياد تدفق المسلحين إلى العراق عبر سوريا قدوماً من بلدان كاليمن والسعودية . وعلى الرغم من نفي السلطات اليمنية استمرار وجود معسكرات تدريب مفتوحة في منطقة “جعار” أو أن يكون ثمة معلومات حول وجود سعوديين في مناطق نفوذ الجماعات الجهادية بالمنطقة بغرض التدريب أو الاختباء، إلا أن الحضور الطاغي لتنظيم “القاعدة” في أبين يؤكد أن التنظيم استطاع إعادة ترتيب أوراقه في المناطق متكيفاً مع الأوضاع الجديدة التي أعقبت ظهور الحراك الجنوبي خلال السنوات الماضية 'ومع ثورات الربيع العربي وبالأخص ثورة اليمن وماصاحبها من أحداث.. الحراك والقاعدة والاختلاف الايديولوجي.. ويرى مراقبون أن بروز الحراك الجنوبي كلاعب رئيس في المحافظات الجنوبية وانهيار منظومة الحكم في صنعاء من العوامل التي شجعت على عودة المواجهات، ويشير هؤلاء إلى أنه على الرغم من أن الحراك الجنوبي لا يدعم خطط القاعدة وتوجهاتها في الجنوب، وأن هناك فروقاً أيديولوجية واضحة بين الجانبين، إلا أن تنظيم القاعدة"أنصار الشريعة" استغل حالة الفوضى في هذه المناطق،وانشغال الأطراف في صنعاء بالأحداث الدراميتيكية حيث بدأ بالتمدد في هذه المناطق. وينفي قادة كبار في الحراك الجنوبي أن يكون هناك أي نوع من العلاقة أو التعاون بين الجانبين، على الرغم من حديث النظام السابق والحالي المتكرر عن هذا التعاون “الحراكي - القاعدي”، وهو مصطلح صار يتكرر كثيراً في وسائل الإعلام الرسمي في الفترة الأخيرة.
سيناريوهات متشائمة لا يوجد من يمكن أن يتنبأ بالنهاية التي ستؤول إليها المواجهات القائمة في ابين وبعض مناطق شبوة بين السلطات وانصارالشريعة، فبقدر الشراسة التي يخوض فيها الطرفان الحرب، فإن تصور نهاية هذه الحرب تبدو بعيدة على الأقل في المدى المنظور، فالقاعدة تريد توسيع حجم الصراع مع صنعاء ليشمل مناطق متداخلة من الشمال والجنوب والشرق معاً، ولا تمانع في أن تخوض بعض الهجمات الخاطفة في العاصمة صنعاء نفسها،بحسب تصريحات احد قيادات انصار الشريعة مؤخرا, حيث مقرات السفارات والمصالح الأجنبية، أما صنعاء فإنها تسابق الزمن لاحتواء خطر تهديدات تنظيم القاعدة في المناطق الجنوبية من البلاد، حتى لا تخوض معركتين في آن معاً، الأولى ضد تنظيم القاعدة والثانية ضد الحراك الجنوبي الذي بدأ يتمدد ليشمل مناطق عدة في الجنوب ايضا، وبدأ يأخذ حيزاً غير هين من اهتمام الشارع الجنوبي، على الرغم من الانقسامات الحاصلة في صفوفه . وتراهن صنعاء في حربها ضد تنظيم القاعدة على القبائل التي استعداها تنظيم القاعدة، بخاصة في العمليات التي نفذها التنظيم واستهدفت عدداً من الرموز وأبناء القبائل في مناطق مختلفة، خاصة في أبينوشبوة، ولهذا لوحظ اشتراك رجال القبائل في المواجهات الأخيرة التي اندلعت بمحافظة أبين جنباً إلى جنب مع الجيش . وعلى الرغم من حاجتها للدعم الأمريكي لمواجهة القاعدة على الأراضي اليمنية ؛ فإن صنعاء تخشى أن يتحول هذا الدعم إلى عامل سلبي، خاصة في ظل التحفظات التي تبديها القبائل اليمنية في الجنوب والشمال على السواء من مغبة موافقة صنعاء على السماح لقوات أمريكية بالوجود في البلاد تحت حجة ملاحقة عناصر القاعدة . ويرى مراقبون أن الإدارة الأمريكية الحالية هي أكثر الإدارات نشاطاً واهتماماً بالشأن اليمني، وتقول دراسة أمريكية إن الولاياتالمتحدةالأمريكية تسعى إلى تولي مهمة الحرب على الإرهاب في شبه الجزيرة العربية بشكل كامل، غير أن اليمن لا يزال بمثابة الحقل الجديد غير المستكشف لوكالة الاستخبارات الأمريكية “سي آي إيه” الأمر الذي يجعل الاستراتيجية الأمريكية محفوفة بالمخاطر . وترسم بعض الأطراف الداخلية في اليمن سيناريوهات متشائمة حيال الصراع القائم بين السلطات وعناصر تنظيم “القاعدة”، أسوأها دخول البلاد في مرحلة الفوضى الذي لن يستطيع النظام أن ينهيه، وهو ما قد يعني أن يكون تنظيم “القاعدة” قد تمكن من الجنوب، وصار خروجه منه صعب المنال.. من يسبق الآخر,,, الانهيار أم الحوار الخطوة التي يمكن أن تعمل على تقليص نفوذ القاعدة في الجنوب تكمن في وصول الأطراف السياسية إلى حلول للأزمة المركبة في البلدوعدم تحولها إلى جزر متناثرة تتنازعها أطراف عدة، والنموذج الصومالي لا يغيب عن بال الجميع هنا في اليمن، مع اختلاف لظروف التي كان يعيشها الصومال آنذاك والظروف التي يعيشها اليمن اليوم . ويراهن الكثير من المراقبين في الداخل والخارج على الحوارات الدائرة اليوم بين القوى السياسية في البلد للوصول إلى “وصفة ناجعة” للأعراض التي يعاني منها جسد الدولة اليمنية، لكن الوصفة تحتاج إلى جدية وإرادة وتنازلات سياسية من كافة الأطراف، بالإضافة إلى رعاية خارجية حقيقية، خاصة أن الخارج صار على قناعة من أن فشل السياسيين في ترجمة حواراتهم إلى حلول سيدخل البلد في أتون أزمة عميقة لن يكون لليمن قدرة على تحمل تبعاتها في المستقبل . من إبراهيم علي ناجي