المزايدون في هذه البلاد كُثر . في الزمن السالف كان الواحد منهم إذا ما حلف وأقسم فإنه يقسم بشرف الحزب والثورة والوحدة أو بشرف فتاح وعنتر وهكذا . واحد من هؤلاء المزايدين نحت لمؤسس الحزب تمثالا من الجص ومن ثم وضعه في غرفته وبجوار مهجعه . هذا المزايد جمعتني به الصدفة في مقيل ثوري ساخط ، لم استغرب مما سمعته فمثلما عرفته حقبة طبلا فارغا إلا من صوته المزعج المؤذي لطبلة الاذن ها هو الآن يؤدي ذات الوظيفة وان كان عدوه اللدود هذه المرة فتاح المؤسس والزعيم الذي اطنب حقبة بتمجيده وتعظيمه ولحد الافتتان المجنون . المزايدون ما أكثرهم ، واحد أخر كان قوميا ثم امميا بروليتاريا ثم جنوبيا ثم حوثيا ثم قرويا ويعلم الله اين يستقر حاله ؟ هذا المزايد الكبير أعده وامثاله سببا في نكبة الحزب الاشتراكي وفي ضياع دولة الجنوب وثورتها واستقلالها ، واليوم اعتبر وجوده كارثة ماحقة بحق الجنوب واهله وقضيته . لكم زايد وافرط في مزايدته النضالية حين كان مسؤولا حزبيا عاديا ، كان إذا ما نطق كلمة اتبعها بتوكيد ويمين لا يقبل النكث قائلا : وشرف الحزب ، وشرف الثورة " إما الآن فيحلف تارة بحق تقرير المصير وتارة باسم الجنوب وشعب الجنوب . في الآونة الاخيرة ادهشني بقدرته الفائقة على ابتداع الايمان الغليظة إذ وبعد مشاركته في جنازة الشهيد حسين الحوثي كان قد استبدل هتافه الثوري " لينين انت معلمنا " بصرخة جماعة الحوثيين : الله اكبر ، الموت لأمريكا ، الموت لإسرائيل ، اللعنة لليهود " وإذا ما استدعت الضرورة فتسمعه قائلا : وشرف الشهيد الحسين ، وعزة انصار الله " قبل أيام فقط كان مزايد قد اختتم كلمته قائلا : الوحدة في شرايين دمائنا وسنفديها بأرواحنا ودمائنا واولادنا " ناقص ان يقول بانه سيعقر بقرته وسيضحي بنعاجه وغنمه كي تبقي الوحدة . هالني ما سمعته فرددت معقبا عليه : الوحدة أيها الفائض وحدوية ينبغي ان تكون في اذهاننا وعقولنا ووجداننا وفي حياتنا اليومية وفي سلوكنا وتعايشنا وتسامحنا . فالوحدة لم يفسدها سوى الموت والدم المهرق في سبيلها كما ولم يعبث بها ويشوه بصورتها غير المزايدين المتاجرين القاتلين لروحها وكينونتها . شخصيا لا اريد وحدة الدم والقتل والخوف والظلم والكره والحزن فمثل هذه الوحدة التي يحدثنا عنها بعض المهووسين بالقتل والدم تماثل مقبرة كبيرة لا متسع فيها لسوى الاموات . في احدث دراسة بحثية اوروبية حول ماهية التشاركية الديمقراطية والهوية الوطنية باعتبار الاثنين عنصرين مهمين في الثقافة السياسية كان الالمان قد تذيلوا قائمة الدول الاوربية اعتزازا بوطنهم . فمع ان الشعب الالماني لا يعاني من مشكلات لغوية او عرقية كتلك الممزقة لنسيج المجتمع البلجيكي نتيجة لنزاعاته الداخلية حول اللغة الأُم إلا ان الدراسة كشفت عن وجود طائفة من البلجيكيين الذين يعتزون بوطنهم وعلى عكس الالمان الذين لا يشعر الكثير منهم بهذا الاعتزاز . فتور الالمان مرجعه التجارب المريرة التي مرت بها المانيا إبان الاشتراكية القومية " النازية " فوفقا وهذه الدراسة فإن الهوية الوطنية الجامعة للألمان باتت مرتكزة على عناصر اخرى مثل سيادة القانون واعتزازهم بأدائهم الاقتصادي والاجتماعي وبتميزهم نظاميا وعائليا أكثر من اعتزازهم بوطنهم وبإنجازاته الابداعية والعلمية . حالنا اليوم مردة ربما تجربة مريرة ساد فيها القتل والدم والاخفاق فضلا عن تربع واستبداد للغة المزايدة والمتاجرة بقوت الناس وبطموحهم وكفاحهم وصبرهم وحتى هويتهم الوطنية التي صارت في قعر الاهتمام والاعتزاز . اليمنيون أسوأ حالة من الالمان الكافرين بانتمائهم لوطن واحد يتحدر معظم سكانه من قومية واحدة ولسان واحد ، فعلى الاقل اهتدوا لطريقة ما يواروا بها خيبة مرحلة تاريخية وسياسية افقدتهم اعتزازهم بهويتهم الوطنية . كان البديل الجامع لهؤلاء هو القانون والنظام وكذا احساسهم المتنامي بتفوقهم الاقتصادي والحياتي والاسري . إما اليمنيون فيبدو أن معانتهم اخطر واعمق وتتعلق هنا بفقدان الامل والامان ، وحين يتملك الانسان شعورا من هذا القبيل فإن حياته تصير بلا معنى او هدف وطني او شخصي . نعم ليس لدينا غوته او جوتنبيرج او نيتشه أو هيغل او كارل ماركس أو ألبرت اينشتاين أو بيتهوفن او بسمارك أو حتى منتخب كرة يضاهي الماتدور الالماني المتوج بكأس العالم قبل الاخيرة ؛ لكننا - ايضا - لدينا ما يستحق الاعتزاز والتباهي به كهوية جمعية لا ينبغي الاساءة لها وفي لحظة ارتكاسه محبطة مخيبة كهذه التي مازال وقعها وتأثيرها ماثلا ومنتهكا لكل ما تبقي لنا من جمال وجداني وشعوري وانساني وقيمي وتاريخي وووو. نعم كنا في الامس نردد اجمل نشيد في الدنيا : رددي أيتها الدنيا نشيدي " إما اليوم فلا تكترث إذا ما قيل لك ان نشيد دولة الجنوب بات : بلادي بلاد الجنوب .. جمهورية وعاصمتها عدن " أين كنا وكيف صرنا ؟ أين ثريا الفضول وايوب من ثرى الهباب والسقوط ؟ . المزايدون في الاصل جهلة لا يفقهون الفارق بين ان يخسر الانسان او المجتمع معركة سياسية أو حربية أو اقتصادية وبين خسارة الاثنين لتراثهما وتاريخهما ووجدانهما وذكرياتهما وهويتهما ، فهذه جميعها تماثل الجواهر النفيسة التي ربما اضاعها الاهمال والجحود او طمرها التراب لكنها ومع ذلك تبقى ثمينة وذات قيمة وجمالية وبريق يستحيل فقده ولمجرد سقوط او ضياع وقتي . الفضول والمحضار والقمندان والزبيري وجعفر امان وعبده عثمان والمقالح والبردوني والارياني والجابري والخالدي وسعيد شيباني وسواهم ممن كانوا وسيظلون جزءا من تاريخنا الجمعي الذي لا يقبل التجزئة . ايوب وابو بكر وفيصل والمرشدي واحمد قاسم ومحمد سعد والانسي والكبسي والعطروش واحمد فتحي ومنى علي والسنيدار وكرامة مرسال والزبيدي والقائمة لا تنتهي من القامات الغنائية المشكلة لذوقنا واحساسنا وذكرياتنا وكوامن اعماقنا الشعورية إزاء وطننا وذواتنا . الصنعاني والحضرمي واللحجي واليافعي والعدني والتعزي والتهامي الوانا اصيلة من تراثنا البديع المتنوع مثلها مثل اكتوبر وسبتمبر ونوفمبر ومايو كتواريخ لا تمحى من ذاكرتنا الجمعية . كذلك هو لبوزه وعبود ومدرم والثلايا واللقيه وعبد المغني والجاوي والربادي والشحاري وبن شملان وقحطان والسلال والنعمان وفتاح وعنتر والحمدي ونجوى مكاوي وباذيب وحتى اسماء نضالية وسياسية ماضيه وحاضرة ولا يتسع المقام لذكرها في تناوله كهذه . أيا كان موقفنا منها وأيا كانت نظرتنا حيال تجربتها تبقى اسماء عصية التجاهل والنسيان والتجزئة ولمجرد رغبة مزايد طافح بالغضب والعصبية المقيتة . ختاما اود تحذيرك ايها القارئ اللبيب ، فمتى سمعت احدهم محرضا لك بكراهية شكسبير او بودو بلير او بوشكين او غوته او قباني او درويش فتأكد انه شخصا مثل هذا مصابا بعاهة خطرة قد تفتك بك آجلا أم عاجلا ! إما وإذا قيل لك يوما بان الحق دربه يقتضي التضحية بوجدانك وتاريخك وانتمائك فكن على يقين بان محدثك إما معتوها كارها للحياة وإما مزايدا من جملة جهلة رعناء اغلاظ لا مندوحة لديهم إذا ما هتفوا للقبح والبغض او بدلوا قبلتهم واسمائهم مثلما يستبدل احدنا جاربيه أو نعليه .