في أمسية رمضانية ، دعاني احد كبار وجهاء عدن إلى مأدبةِ عشاءٍ له ؛ وطلب مني أن أُعدّ وألقي كلمة توعوية للمدعوين فيها ( من واقع نشاطي الاجتماعي .. تتناسب وما يلُم بعدن من نكباتٍ سلوكاً ومسلكاً وعلى مختلف الصُعد .. وعن دور المواطنين الإيجابي الذي يمكن أن يمارسوه من خلال الجمعيات والمنظمات والاتحادات الاجتماعية الجماهيرية المختلفة للحيلولة دون .. الكارثة .. ) وهناك وبعد أن حمدتُ الله وشكرته ، وهو الذي لا يُحمد على مكروهٍ سواه ، حييتُ الحاضرين الذين كانوا قد ملؤوا سقيفة المكان ، ودعوتُ الله أن يكون هذا الجمع جمع خير وبركة .. ثم أنطلقت في حديثي عما طُلبْ مني .. وفي لمحةٍ تاريخية مقتضبة عن دور الجمعيات والاتحادات والمنظمات الجماهيرية في عدن ، وأشرت إلى أننا نحن من نرث ذلك التاريخ .. وينبغي أن نصونه ونبني عليه ، ثم قرًّبت الصورة بضرب مثلٍ : عن سكان عمارة فيها عدد من الشقق يتقاسم سكانها الجدران والسُلم والخدمات العامة الأخرى .. بالإضافة إلى قاسم .. الدين واللغة والتاريخ وغيره .. وهم بذلك يشكلون جمعية أو جماعة .. لهم هدف واحد هو الحفاظ على عمارتهم من أي خطرٍ .. كأن يكون شرخ في جدار أو شرخ أخلاقي وكلاهما يؤدي إلى الآخر ، وقد يُدمر أحدهما العمارة بمن فيها .. ثم قلتْ (موجزاً) : ليكن هذا المثل ينطبق على عدننا .. وما أن أتيت على أوجاعنا من سوء أحوال نظافة المدينة وهكذا الكهرباء والمياه والحالة الأمنية .. وأخريات كثيرات .. وكيف يمكن أن يتحمل المواطن مسئوليته من أجل أمنه وأِستقراره في عدن حتى هطلت زخاتٍ من المطر علينا جميعاً .. قلتْ (لافتاً نظر من في السقيفة) : هذه رحمة وبركة تغشينا من السماء في هذا الجمع الخير لدعوتنا للتغيير وتطهير النفوس .. وبداية الغيث قطرة . وكانت المفاجأة أن ناداني أحدهم بأسمي العائلي .. لافتاً نظري إلى أنه جائع مستغلاً تزايد سقوط قطرات المطر التي كنتُ أستمتع بهطولها ، بعد إنقطاعٍ طويل لها لمْ نرَ مثله في عدن .. و تمتمَ آخر يعيش الحالة نفسها متململاً رغم أنه ممن يتعاطون الثقافة – ولكن جوعه غلبه – وجبر خاطري ثالث بالقول : نحن أتينا لكي نسمع ونستفيد ولم نأتِ من أجل أن نأكل الطعام . تصرفتُ سريعاً وقرأت نقاط من وريقات كنتُ أسترشد بها هي جُل الأدوار والتمنيات التي يمكن أن يقوم بها المواطن المُحب لعدن، من أجل أمنها وأستقرارها بالمفهوم الشامل للمعنى .. وعندما تناول الجمع طعام العشاء ، ظلًّ المشهد ثابت أمامي وأنا أرى منهم رجالاً لا يسمعون إلاًّ من بطونهم ، وإذا أكلوا يملؤونها حتى شحمة الأذنين ، وإذا تحدثوا تطاير من أفواههم الأرز في الهواء ؛ في منظرٍ يذكرني بما روي عن الملك عبدالله الأول ملك الأردن في إحدى مآدبة ؛ وكان قد رأى الملكُ .. أحد ضيوفه يتناول الطعام في منظرٍ مقزز – يأكل بنهم شديد – أقترب الملكُ – من الضيف مستفسرًا وسائلاً أياه : كأنك لم تذق الطعام في بيتك ؟! فلمْ يستطع الضيف الرد على الملك .. لأن فاه مليء بالطعام ، وقد زفر شدقيه ووجنتيه، ولسانه محبوس بالخجل وثقل الطعام .. فما كان من الملك إلاًّ أن قال : مثلُ هذه المآدب للحديثِ الهام .. وأخذ البركة من الطعام .. – وحيَّ ضيفه الهُمام – وهكذا أنا ضربت كفٍ بكف مردداً ( باللهجة المصرية ) (( مفيش فيده )) – هي آخر كلمتين قالها زعيم ثورة 1919م المصرية ( سعد زغلول ) ؛ ثم ودع الحياة –