تتحول الروح الآدمية الى الفناء فتفقد قيمتها الإنساني في الحياة، وهذا غالبًا ما يفعله الموت، إلا أن الأمر يختلف باختلاف الناس، فثمة موت يحظى به أناس عاديون فينتهي بهم الحال الى الفناء الأخير، ويفقد المرء بذلك وجوده ويتحول الى ذكرى عرضية لا تلبث حتى تموت. وثمة موت آخر ينتقل بصاحبه الى ما هو أرفع من الفناء، موت يصب بمزيدٍ من الحياة ويعبر عن القيمة الوجودية للإنسان، ويستعيد بذلك حضوره الوجداني في صدور الناس، فيحقق صورة الحية لحياة تدب حتى على حبات الرمال وأسقاف القبور. ليس الموت بل الشهادة، وهي الانتقال بالروح الإنسانية من حياتها اللحظية الى حياة خالدة، والارتقاء بالقضية العادلة من رتابة الواقع الى صحوة الأجيال، وتحويلها بذلك الى فكرة يقظة يتبلور معها وعي الناس وتمنحها عمر مديد. يقدم الشهداء خدمة عظيمة لبلدانهم، فهم من يعيدون ترتيل أدبيات الحياة، وحتى إذا ما دفنت أجسادهم واعتقد البعض بذهابهم، تستمر أرواحهم الخالدة في حماية قضاياهم، فيغد الشهيد ملهمًا تنويريًا، وتستمر حياته الى ما بعد البعيد. عكازة الجمهورية. هناك أشخاص عظماء يصنعون تحولات في مسيرة الحياة... لكن الأعظم أن يكون هناك أعلام يصنعون تحولًا شعوريًا يفضي إلى تغيير ايجابي في تعامل الناس الرتيب مع القيم… وذلك بهندسة تحديثها في النفوس، وإجلاء الغبار الذي ران على رونقها… لتظهر تلك القيم متشحة بحلة بهية غالبا ما يكون لصانع التحول فيها بريقا يلمع في أفئدة المنضوين تحت عالمها أو المتأملين في أسباب إحيائها، وهو ما جسده الشهيد القشيبي. لم يكن الشهيد "حميد القشيبي" صورة مكررة لغيره من قادة الجيش اليمني الذين فرطوا بقسمهم العسكري وساندوا المد الحوثي في ابتلاع أمانة العاصمة صنعاء، وانما كان رجلًا صاحب قضية، ولطالما وصفه كثيرون بأنه ضمير اليمن وجيشها. ففي الوقت الذي تخلى فيه الجميع عن اليمن وانصاعوا لأوامر التسليم لجماعة الحوثيين، كان القشيبي بصدد خوض آخر وأشرس معركة في عمران، فكان يخوض معركته وجهاً لوجه مع ما عرف حينها ب كتائب الموت الخمينية في حوش الاتصالات. قاد العميد القشيبي معركته ضد الحوثيين برفقة اثنين من خيرة رجال اليمن، هم العقيد فهد المنقذي والمساعد ملاطف المطري، مدافعين على حق اليمنيين بدولتهم الجمهورية دون أن يتسلل الى نفوسهم معنى الانهزام، فلقنوهم خلالها أقسى الدروس وقتلوا منهم العشرات حتى استشهدوا وهم واقفون جوار غرفة حراسة مبنى الاتصالات. لم يعرف مسلحي الحوثيين أن من يواجههم في ذلك الوقت هو القشيبي شخصياً مع رفاقه إلا بعد استشهادهم، فاستشاطوا غضباً وأطلقوا على جثمانه وابلاً من الرصاص تعبيراً عن حقدهم وخساستهم المعهودة. بهذا أوفى الشهيد القشيبي ورفاقه بقسمهم العسكري وسطروا أعظم وأشجع المواقف البطولية في حين خانها الكثير من القادة العسكريين ولازال البعض حتى اليوم للأسف الشديد. حارس عرش بلقيس. وحدها دماء الأحرار من تجرف متارس الموت والحقد والاستبداد، ووحدهم الشهداء من يصنعون حياة ويزرعون أوطانا تنبت من بين الركام، في كل وطن تبرز ثُلة من القادة الذين يهبون دمائهم الغالية لأجل ارتقاء شعوبهم. وبمعنى أشمل لا تبنى الأوطان وتتحرر إلا بدماء أولئك الأبطال الذين لا يلتفتون لمصائرهم بقدر اهتمامهم بكرامة بلدانهم ويقدمون أرواحهم مهرا لهذه الكرامة التي يستحقها كل شعب ولا يضحي من أجلها غير المصطفين الأنقياء. في تاريخنا القريب والبعيد العشرات من النماذج التي تخلد في ذاكرة الأجيال ولا تكاد تنسى، كما لا تسمح الشعوب بمحيها من ذاكرتها الجمعية. قدم العديد من القادة أرواحهم في وقت كانوا قادرين فيه على أن يحافظوا عليها، وأن يفدوا أنفسهم بأرواح جنودهم وأتباعهم، لكنهم أبوا أن يقدموا أرواح غيرهم على أرواحهم، واختاروا أن يكونوا هم الفدائيين وأن يحوزوا هذا الشرف عن جدارة واستحقاق . كان اللواء الركن "عبد الرب الشدادي" أحد أبرز القادة الذين صنعوا مجدهم بجماجمهم لا بجماجم الآخرين، باني النواة الأولى للجيش الوطني في اليمن وقائد المنطقة العسكرية الثالثة الذي ارتقى شهيداً مساء السابع من أكتوبر 2016، هو أحد القادة الذين حجزوا لهم مكانة في قلب الشعب الذي يخوض معارك استعادة الجمهورية. ولأن الجمهورية قرار مصيري للشعب وطريق إجباري لم يكن الرجوع منها بالأمر الهين فقد اختار الشدادي كما اختار من قبله العشرات من القادة والآلاف من الضباط والأفراد مواصلة السير حتى تحقيق النصر أو الانضمام لمواكب الشهداء. حمل الرجل بندقيته وأكفانه منذ بداية الحرب الحوثية ، فلم يغادر اللواء الشدادي محافظة مأرب مقر المنطقة العسكرية الثالثة التي انتسب إليها ثم قاده. لم يكن من عشاق السفريات التي يهواها الكثير من القادة ولم يزر خلالها الفنادق التي يتشبث بها آخرين حتى هذه اللحظة، بل ظل متنقلا بين أشد الجبهات اشتعالا في مأرب، وشارك في صناعة النصر من أول كيلو متر وصل إليه الحوثيون على مشارف مركز المحافظة وحتى دحرهم إلى أطراف أطرافها البعيدة بقي الشدادي شديدا كاسمه مسجلاً شجاعة قل نظيرها، وأقداما يفوق قدرة الحرف على وصفه وإيفائه حقه، تنقل من منطقة الجفينة إلى تبة المصريين، ومن الوادي إلى السد، ومن الجفينة إلى صرواح وهنا قطع عهدا على نفسه مع انطلاق معركة "نصر 2" لتحرير ما تبقى من مأرب بأن لا يعود من الميدان ولا يدخل مبنى المحافظة ولا مقر المنطقة العسكرية إلا بالنصر أو الشهادة. في لقاء أخير أتى إليه ابنه الشاب الذي اختار أن يكون على ذات خط والده، خط التضحية والفداء فعانقه عناق مودع، فلم تتملكه أنانية الأبوة أو خوفها، بل أرسله إلى الجبهة وكأنه يقول خذ مكاني في ميادين الشرف من الآن ليصنع منه بطلا يخلفه. وعند اشتداد المعارك قبيل غروب الشمس، وحين كان الجيش الوطني يتقدم ويحرر مواقع جديدة، طالت قذيفة أطلقها الانقلابيون القائد الفذ، ليلحق مع عدد من المقاتلين الأبطال إخوانهم من الشهداء الذين تزداد بهم رقعة خريطة اليمن كل يوم.
وليرتقي في ذات المكان والزمان الذي ارتقى فيه شهيد الجمهورية الأولى "علي عبد المغني" في ستينيات القرن الماضي، وليكون الشدادي هو شهيد الجمهورية الثانية ووهجها الذي لا ينطفئ، وليتسلم راية قيادة شهداء الوطن الذين يحرسون أمجاد الشعب ويحمون كرامته من عليين. بطل الجمهورية. كان الشهيد اللواء "أمين الوائلي"، قائداً محنكاً وفارساً شجاعاً، وهب الوطن روحه مجسداً معنى الولاء الوطني، حيث قال "إن النصر لن يأتي إلا بتقدم القادة الصفوف" فكان الشهيد جدير بقوله متواجدا في أوائل الصفوف ليقدم روحه دفاعًا عن النظام الجمهوري. كانت الصحراء فراشًا له والسماء لحافه، والنجوم دليله، عانقته جبال اليمن فسكب دمه على سفوحها وهو يواجه جماعة الحوثيين الانقلابية ليصفه اليمنيين بعد ذلك ببطل جمهوري. معبرًا عن أسفه بفقدان الشهيد الوائلي، قال الناشط والصحفي غمدان اليوسفي في تدوينة له على تويتر "كم سنستغرق من الزمن لتعويض هذه الخسارات الفادحة. أي ألم في كل خبر، ثم يُراد لنا أن نقبل بالحوثي حاكما للبلاد بعد كل جرائمه وكل خسارات البلاد؟ ". فيما أكد الشاعر عامر السعيدي أن "اللواء أمين الوائلي لم يعد من رحلة علاجه إلا لنيل الشهادة، مشيراً إلى أن" الشهيد الوائلي كان يعاني من مرض السرطان الذي نهش جسمه، ووصل إلى مراحل متقدمة، ليقف بذلك الشهيد بين موتين، وقد اختار لنفسه موتا لائقا بالعظماء في اللحظات التي فر فيها الجبناء". محكمة الشهداء. في السياق، يقول الكاتب فؤاد مسعد في مقالة له، "تكشف الأحداث الكبيرة عن الشخصيات الكبيرة، وفي المواقف الكبرى تظهر معادن الرجال، وكما كشفت الثورة الشعبية اليمنية في العام 2011 عن كوكبة من أبناء اليمن الذين آثروا الانحياز إلى صف الوطن والشعب والثورة، ها هي الحرب الراهنة تفعل الشيء نفسه، لتتجلى الحقائق واضحة وناصعة، لا يتسرب إليها الشك ولا يطالها التضليل". وقال "من بين أولئك الافذاذ الذين اختاروا طريق المشروع الوطني ضد مشروع الإمامة، اللواء الدكتور/عبدالله الحاضري، مدير دائرة القضاء العسكري، الذي قضى نحبه شهيداً يواجه جحافل الغزو الحوثي السلالي في إحدى جبهات مأرب". واعتبر مسعد، أن الشهيد الحاضري اختتم باستشهاده ختم الفصل الأخير من حياته، بعدما جعله شطرين، شطر لمنازلة المشروع الإمامي في ساحات المحاكم، وشطر في مواجهة المشروع نفسه لكن في جبهات القتال وميادين الكرامة، دافع عن اليمن الجمهوري بصفته رجل قانون، وحاكم قادة الانقلاب الحوثي الإمامي معداداً جرائمهم ومفندا دعاواهم". وأضاف "مع ذلك لم يعف نفسه من شرف مباشرة القتال وخوض غمار المعركة الفاصلة والمصيرية، معركة اليمنيين مع مليشيات رهنت قرارها بيد الحرس الثوري الإيراني، وجعلت من نفسها أداة رخيصة، مهمتها القتل والتدمير والخراب". مشكاة شعلان. في قمة جبل البلق الاستراتيجي غربي مأرب، كانت رصاصاته الأخيرة التي أصابت هدفها تماماً، وأبعدت خطراً ليس على مأرب فقط، المحافظة التي يقود قواتها الخاصة، إنما على الجمهورية، التي وقف مدافعاً عنها من أول يوم انقلبت المليشيا الحوثية وأرادت إحياء تراث الإمامة الكهنوتي. مسيرة من القيادة والحرب، ختمها البطل العميد "عبدالغني شعلان" قائد قوات الأمن الخاصة بمأرب، كنهاية بطل استثنائي، طالما ملأ الأرجاء بحضوره الصاخب كباسل وشجاع قل نظرائه، لينضم بتضحياته النادرة الى أنصع صفحات التاريخ الخالدة، إذّ إنه رحل وقد خلّف وراءه مجداً تفخر به الأجيال وصنع أبطالاً ليكملوا الطريق والمهمة التي رسمها ورفاقه. مثّل رحيل القائد بطل الجمهورية وحارس الاستقرار بمأرب العميد شعلان خسارة فادحة للوطن، اتفق على ذلك اليمنيون إلا أنهم اتفقوا أكثر بأنه رحيلٌ لا يليق إلا بالأبطال أمثاله، والعزاء بما خلفه من مجد وعزيمة لدى رفاق سلاحه وكل البواسل من أبطال الجيش الوطني والأمن والمقاومة الشعبية، وكل من يناضل من أجل حماية الجمهورية واستعادة دولة المواطنة المتساوية ودحر أذناب الكهنوت العنصري. الإداري الشهيد. لم يكن الشهيد اللواء "عبد الغني سلمان" مدير دائرة شؤون الضباط بوزارة الدفاع، مجرد شهيد قدم روحه ببسالة وحماس منقطع النظير أو مدير دائرة استشهد وكان ظفره بالشهادة ليقف اليمنيين في رثائه والبكاء عليه. وإنما تفرد هذا الاسم السبئي بحيازته كل معان وصفات القائد الملهم والرجل العبقري والإنسان المثالي الذي بلغ مكانة سامية من النبل والوطنية والتأثير والوعي الفطن القادر على استيعاب أصعب المواقف والتحديات والانحياز لصوت الوطن والعزة ومن ثم الاندفاع خلف رؤيته ونظرته للحياة والعالم، والامتثال الجم لدوره كقائد عسكري يذيب الصخرة الصلبة ويشق طريقه عبرها دون تخاذل أو استسلام، كان الرجل محيراً في نجاحه، وبطلاً في جرأته ونبيلاً في مواقفه وإنسانيته وعبقرياً في نباهته وفطنته، تظافرت كل هذه السمات لتصنع منه قائدًا عسكرياً حداثياً في الخطط والوسائل القتالية والتأهيل التي مكنته من النصر على الخصوم مهما كان الفارق شاسعاً. ولطالما عرف الشهيد سلمان بكونه عقلية عسكرية وطنية وعقلية إدارية خالدة تستحق ألا يهدر أي قدر من إبداعها أو تجاهل طرفة من تفاصيلها كونها وصلت لمرحلة النبوغ والمثالية والتضحية في أرقى صورها. حصن جمهوري. حياة حافلة بالنضال سطرها الفريق الركن "ناصر الذيباني" على امتداد الوطن، ختمها بسبع سنين كاملة أو تزيد في مواجها المشروع الإيراني، وقاهراً له في مختلف جبهات القتال، ومنها مأرب التي أخذت نصيبا كبيرا من جهد وعرق ودم هذا القائد الاستثنائي. أبى الشهيد الذيباني إلا أن يكون دائما في مقدمة الصفوف، مخترقا تحصينات العدو، ومفرقا لعناصره الإجرامية التي رأت فيه فارسًا مقدامًا تخشى تواجده في ساح المعركة. وفي موقف بطولي وشجاع، لم يتوان الفريق الذيباني، عن أداء واجبه فقاد معركته الأخيرة بشراسة أرعبت مليشيا الإرهاب الحوثية، واستطاع خلالها ان يحقق نصرًا كبيرًا، شرد فيها مسلحي الجماعة الحوثية في الشعاب مهزومةً لا ترى غير نيران الأبطال تدك جحافلهم وتمزقها. اللواء الذيباني، أكد أكثر من مرة أن تواجده المستمر في خطوط التماس وحضوره البارز في المعارك ينطلق من دوافع وطنية ومن طبيعة عمله في العمليات الحربية وقبلها مديرًا لدائرة العمليات، المعنية بالإشراف على العمل العسكري والمهام القتالية.