كان اليمنيون المتواجدون في القاعة قليلون، لكن دموعهم كانت كثيرة وغزيرة، وتهدج صوت أحدهم وهو يحاول الحديث، وتقلبت ملامحه فيما أخفى الآخرون وجوههم عند سطوع الأضواء بعد نهاية العرض في الصالة. كان صالة عرض سينمائي تابعة لمركز "دبي فيستيفال"، وكان العرض للفيلم الوثائق "الوحش الكاسر" ضمن فعاليات عروض مسابقة الأفلام الوثائقية في الدورة الرابعة من مهرجان الخليج السينمائي، واليمنيون المتواجدون هم مخرجة الفيلم خديجة السلامي، والمخرج الدكتور سمير العفيف والمصور السينمائي أيمن المخلافي، ومغترب يمني في الإمارات، وكاتب هذه الأسطر.. فما الذي أبكاهم..؟ هل هي ملامح الأطفال المتجولين في الشوارع وتقاطعاتها لبيع بضائع تنوء بحملها أكتافهم، تلك الملامح التي لم تعد تعرف البهجة إليها طريقاً، أم هو منظر المرأة العجوز المعاقة تزحف على بطنها باتجاه المجهول ربما للتشبث ببقية أمل بحياة كيفما كانت، فلا حياة كريمة أو عادلة يمكن أن تحياها تلك العجوز في تلك الوضعية البائسة، إذ لا أحد جوارها، ولو كان ثمة أحد.. لا يمكن تخيل أنه يستطيع مساعدتها، ولو أنه فعل فما قيمة تلك المساعدة..؟ أم أن المبكي هو ذلك الواقع الذي نقلته الشاشة كئيباً وحزيناً وخانقاً، من ملامح الناس المكسوة بالتعب والألم، وأصواتهم الباهتة إلى المشاهد العامة للشوارع والسيارات وأروقة الإدارات الحكومية بجدرانها وأرضياتها المتسخة وآثاثها المهترئ، والفوضى والعشوائية التي تسودها وتظهر على تصرفات وأحاديث وتعامل موظفيها الرسميين.؟ أم أن المبكي هو كل ذلك، وكل تلك الأشياء معاً، فما بين الواقع الذي نقلته الشاشة، والمكان الذي يتواجد فيه هؤلاء ثمة بون فسيح، ومعانٍ كثيرة للحرمان والخسارات والألم، وخلف تلك الشاشة وخلف الجدران التي تحيطهم ثمة رفاهية مفرطة، هي النقيض التام لما كان في الشاشة من وقائع وحكايات خاسرة وقصص مزدهرة بالتعب، حتى أن أحد متابعي الفيلم قال معلقاً: "إنه يجيب لنا عن سؤالين هامين.. لماذا تأخرت الثورة في اليمن؟ وأيضاً لماذا قامت هذه الثورة؟". وسوى ذلك أصاب الفيلم متابعيه بالدهشة والصمت، ومنع عنهم الكلام، وكان الأسى هو عنوان وجومهم الذي اكتشف إجابات كثيرة لنفس السؤال. تتصاعد سيرورة الوقائع في فيلم "الوحش الكاسر" في سياق درامي كأنما نتابع فيلماً درامياً، ومع كل جزء من التفاصيل التي يقدمها يزداد التشويق حتى نصل إلى مجموعة نقاط يمكن القول أنها تمثل ذروة الفيلم، وتأتي النهاية مفتوحة على أكثر من تساؤل وأفق. يبدأ "الوحش الكاسر" بسؤال بصري وشفهي معاً عن سبب عمالة الأطفال ومعاناتهم، وخلال لحظات ينتقل إلى قاعة البرلمان التي تشهد جلسة عاصفة بالنقاشات بين أعضاء برلمان الأطفال، وأحد أعضاء الهيئة العليا لمكافحة الفساد، وخلال عرض مكثف ودقيق لنماذج من الفساد الصغير في اليمن؛ تتصاعد حبكة شبه درامية فيه بتكثيف لمشهدية معاناة الباعة وأصحاب المحلات، وتنتقل الكاميرا إلى معاينة الحدث من داخل مركزه متحركة بين وجوه الباعة وملامح جنود وموظفي البلدية العامة، قبل أن تصل إلى داخل إحدى الإدارات الحكومية لتنقل من هناك تفاصيل العشوائية والعبث والرشوة. وبين أكثر من شاهد وناقد لما يجري تنتقل الكاميرا أيضاً، ويبدأ الفيلم بالتصاعد التدريجي، والانتقال من فساد إلى آخر لتصل في نهاية المطاف إلى التركيز على بؤرة الفساد الأكبر، وكي لا يكون الحديث عن الفساد مجرد حكايات لا تحقق تأكيد ما يحدث؛ فإن المخرجة تنتقل بنفسها لتبحث عن التفاصيل من مواقع حدوثها، ومباشرة تنقل ما يجري دون زيادة أو نقصان، هي فقط توثق ما يحدث بعينها دون الحاجة لعملية تمثيلية. ركزت الكاميرا على التفاصيل الصغيرة والكبيرة معاً، لم تترك حتى حال آثاث وجدران المكاتب الحكومية وأدراجها وأرضياتها دون معاينتها والاقتراب منها، دون الحديث عنها أو سؤال الظاهرين على الشاشة كرواد وموظفين في تلك الأماكن. توثق الكاميرا أيضاً حالات فساد ورشوة تحدث مباشرة أمام المشاهد، وتنقلها له بعد إخفاء وجوه القائمين بها، بيد أنها لا تكتفي بذلك، بل تنتقل بحركة تصعيدية متجردة من أي تحيز نحو الأعلى، فما يحدث في الأسفل هو الأقل ضرراً ربما، لكنه ليس سوى نتاج طبيعي لما يحدث في الأعلى، وكما يحدث في الأفلام السينمائية الروائية تصل إلى مرحلة الذروة بتوثيق حالة فساد تداولها الرأي العام، لتجيب عن سؤال البداية الذي يبحث في سبب عمالة الأطفال. جاءت الإجابة مباشرة مرة من خلال عضو هيئة مكافحة الفساد سعد الدين بن طالب الذي أكَّد أن الفقر هو السبب، وأن سبب الفقر هو الفساد، وليس العكس كما يتم الترويج لذلك، لكن الإجابة الحقيقية غير المباشرة، والتي يقرأها المشاهد ببصيرته التي تابعت ألم اليمنيين وبؤسهم جراء ذلك من خلال ملامح ومظاهر البؤس التي يحياها العديد منهم، وعمالة الاطفال الذين فقدوا معاني براءتهم حين لم يكن أمامهم طريقة للحياة إلا العمل قبل أن يعرفوا ماذا تعني الدنيا. نقلت الكاميرا تفاصيل صغيرة، ومشاهد دقيقة فيما يبدو أن المخرجة تعمدت التركيز عليها لنقل دلالات معينة، لكنها ركزت أيضاً على نقل صور ومشاهد من البيئة اليمنية خارجة عن سياق الوقائع، لكنها لم تكن خارجة عن سياق الفبلم ذاته، فهي حمالة دلالات كثيرة، فمشاهد الضباب الذي يهبط ببطء ثقيلاً وكئيباً ليحجب المناظر الجبلية الخلابة لها معنى مقصود حتماً، وبالمثل عبور الكاميرا في طريق ضيق بين جبلين لا يفضي إلى مكان معلوم، ويبدو خلفه الأفق مجهولاً وبلا ملامح، وكذلك الأمر بالنسبة لنهاية الفيلم التي ركزت من أعلى جبل على طريق متعرج وضيق للسيارات على سفح الجبل، والسيارات تتحرك عليه بسرعة كبيرة. نيوزيمن