كثرت التوقعات منذ فترة ليست بالبعيدة عن قرب انهيار النظام السياسي الأمريكي الذي قاده المحافظون الجدد، وظهر جليًا واضحًا على الساحة الدولية منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، واقتربت تلك الصورة من التبلور رويدًا بعد انحسار المد والتأييد الشعبي عن الجمهوريين، خاصة بعد الفشل الجلي في السياسة الخارجية وخوض تجارب فاشلة سواء في أفغانستان أو العراق. وصاحب هذه التوقعات، بالسقوط الأيديولوجي لأحد رافدي السياسة الأمريكية، أخرى ترتكز على عدة عوامل تراها مؤذنة بتبدلات دولية، ستسفر في النهاية عن سقوط الولاياتالمتحدة كدولة من عرش التفرد الدولي والهيمنة إلى عهد الشراكة الدولية، التي تتساوى فيها الرءوس بين أكثر من قطب دولي، وتعود إلى حجمها ومكانتها الطبيعية بين الدول. وتستند هذه التوقعات على الخسارة العسكرية البينة للقوات الأمريكية في أفغانستان، والفشل المذل في تحقيق أي نتائج مرضية على المستوى الحربي في العراق، إلى جانب صعود القوة العسكرية الروسية التي استعادت قدرًا من عافيتها وثقتها بنفسها بعد حرب جورجيا. ولم يكن هناك في الأفق القريب أو البعيد من يفكر في نهاية تراجيدية للقوة الأمريكية، خاصة في جانبها المادي والاقتصادي، أو يفكر في نهاية عصر هيمنة هذه القوة، غير ما ورد في خطابات القاعدة من رغبة في تدمير البنية الاقتصادية الأمريكية بالاستنزاف بعيد المدى في حرب طويلة من الكر والفر، على غرار ما وقع للاتحاد السوفيتي في ثمانينات القرن الماضي عقب خسارته لحرب طويلة في أفغانستان. وقد وصلت درجة الغرور والصلف بالداخل الأمريكي، والنظريات التي يتبناها، ومدى قدرتها على الصمود في وجه التغيرات والتقلبات العالمية، إلى حد غير متوقع من المخالفة للأصول والقواعد العلمية المتعارف عليها بالنص الصريح والمباشر والحتمي على "نهاية التاريخ"، ووصول البشرية إلى درجة من التطور والرقي المعرفي الذي ليس من بعده من شيء، وهو ما نحا إليه ونحته وصاغه المفكر الأمريكي فرنسيس فوكوياما في كتابة المشار إليه آنفًا. وهذا الفيلسوف الأمريكي فوكوياما حقيقة لا يعبر عن ذاتية منبتة اعتراها تضخم الذات، والشعور بالغرور المتناهي، بل يعبر حقيقة عن الشعور الأمريكي العام بالتفوق والعلو على كافة الأجناس الأخرى بفضل ما توصل إليه من فكر وممارسة على كافة الأصعدة، خاصة في المجالين السياسي بتبني الخيار الديموقراطي، والاقتصادي بابتداع النظام الرأسمالي. وهذا الشعور الكامن في النفس الأمريكية والذي وجد مثل فوكوياما من يخرجه إلى الإطار النظري والمعرفي، كان هو الدافع في الحقيقة لمحاولة الأمريكان فرض النموذجين السابقين على البشرية جمعاء، لا لأن هذه الجموع البشرية تستحق هذا التطور، ولكن لكونهما عند فرضهما يقللان من المخاطر والأضرار التي قد تصيب الفرد والمواطن والوطن الأمريكي. ومع هذا الشعور بالاستعلاء الأيديولوجي، على المستوى الفكري والنفسي، أتت حوادث الانهيار الاقتصادي في الولاياتالمتحدة لتحدث الصدمة على المستويين معًا. فعلى المستوى الفكري كانت الصدمة أكبر من المتوقع، فالنظام الذي تم تسويقه على أنه الغاية في التطور البشري، الذي لا يحتاج البشر بعده إلى تفكير في أنظمة أخرى، اتضح بصورة جلية أنه واهن. . . وأنه يحمل في طياته وبين جوانحه عوامل فشله وانهياره. . . وأنه كذلك ليس بحال أفضل من الاشتراكية التي انهارت من داخلها، ولم يملك أصحابها من الأمر شيئًا حينما هوى صنمها. بل والعجب أن يلجأ متشددو الرأسمالية وروادها إلى آليات اشتراكية لتصحيح الخلل والعوار الظاهر في النظرية الرأسمالية، وهي أي الاشتراكية كانت إلى وقت قريب هي الفساد بعينه عند الرأسماليين، وكان مجرد التعرض لها ذكرًا ضربًا من التخلف الاقتصادي والغوص في كهوف الدجل الفكري الذي لا يعود على أصحابه إلا بالخبال والضياع. وعلى المستوى النفسي، فقد زلزلت تلك الحوادث الاقتصادية، ثقة المواطن الغربي بالعموم والأمريكي بالخصوص بأنظمته التي ألبسوها زورًا وزينوها بهتانًا بمسوح القداسة والعصمة، كأنها دين منزل لا يلحقه النسخ أو يعتريه القصور والضعف. فالمواطن الأمريكي، على وجه الخصوص، وإلى وقت قريب، كان يصدق بهذه النظرية، على اعتبار أنها تحقق له الأمن الاقتصادي في أعلى درجاته، وتسمح له بأن يصل إلى المدى الذي تمكنه منه قوته، لا يعوقه عائق، ولا تصده قيود، ولا تضبطه أخلاق أو قيم مجتمعية، وحينما سقطت الاشتراكية وبقيت إلى حين النظرية الرأسمالية انتعش عنده الأمل بأنه بحق يملك الحق المطلق غير القابل للانكسار. فماذا يمكن أن يكون عليه حال هذه النوعية من البشر، وكيف تنظر إلى الدولة التي أذهبت مدخراته، وأضاعت له ماضيه ومستقبله، وأعطت ظهرها لهذا النظام الذي روجت له، وولت وجهها شطر الاشتراكية مجددًا، بعد أن لفظها أصحابها. إن المشكلة في الولاياتالمتحدة، ليست إذن مشكلة عارضة، أو خللاً يحتاج إلى خطة إنقاذ بمليارات الدولارات واستنفار الهمم للخروج منها بأقل الخسائر الاقتصادية والمالية الممكنة، المشكلة في الحقيقة في سقوط عمود الفسطاط على رأس أصحابه، وعدم قدرة النظام الرأسمالي على معالجة اختلالات هو وحده السبب الرئيس فيها، ووقوفه عاجزًا مع تطورات الأزمة وامتدادها إلى خارج النطاق الجغرافي الأمريكي إلى الغرب الأوروبي. والمشكلة كذلك في فقد ثقة المواطن الأمريكي في أصل النظرية، وكونها توفر له الحرية المنشودة غير المؤطرة بالقيود والمعارف الأخلاقية، والتي لا تحدها إلا المصلحة الذاتية، ومن ثم في قدرة الدولة على توفير الأمان الاقتصادي الذي هو الرابط الرئيس الذي يجمع بين الطرفين، وما يستتبع ذلك من انكسار نفسي، وتراجع عن الاستعلاء الذي طالما اتسم به الأمريكي شعورًا وممارسة في تعامله مع الآخر على اختلاف أيديولوجيته وواقعه. ويضاف إلى ذلك تخلي الولاياتالمتحدة وأوروبا واقعيًا عن النظرية الرأسمالية والهرولة ناحية التدخل المباشر في تصحيح المسار الاقتصادي، وهو ما يعني تحولاً حقيقيًا ناحية الاشتراكية واعترافًا مقنعًا بفشل هذه النظرية، والاقتباس من أخرى هي في عرف التاريخ قد انهارت وتلاشت بعد أن أخذت دورتها في الحياة. وهذه الثلاثة مجتمعة تجعل السؤال الذي يتوجب طرحه عن موعد وليس إمكانية سقوط هذا الصرح القائم على أعمدة خاوية. . . ثم هو يطرح تساؤلاً آخر عن أي تلك الأودية المهلكة التي سيسلكها هذا المغرور الأمريكي ليلفظ فيها أنفاسه، وهي قد تعددت وتنوعت ما بين سياسية وعسكرية واقتصادية. . . إن النسر الأمريكي وقف على قمة ظنها قامة لا تبلغها عقول البشر فأعماه الغرور، وبلغ به الطيش مبلغه وبات قريبًا من التردي من هذه القمة المتوهمة الزائفة، ومع ترديه ستسقط نظرية "نهاية التاريخ" بعد أن عاد فوكوياما إلى الواقعية معترفًا بأن "مفاهيم الرأسمالية" سقطت مع الانهيار الأخير في أسواق المال، وأن الولاياتالمتحدة لن تنعم بوضعها الذي ظلت تتمتع به حتى الآن كقوة مهيمنة على العالم.