بين 10 دواننج ستريت في لندن والمسجد الأزرق في إسطنبول، قضى الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما جولته الخارجية الأولي له منذ توليه منصبه قبل شهرين ونصف. الجولة استغرقت ثمانية أيام، زار فيها أوباما ست دول، والتقى 19 رئيس دولة، وحضر أربع قمم (لندن، والناتو، وبراغ، وتركيا)، وقطع مسافة 12500 ميلا في جولته الأوروبية، كما زار منطقة الحرب التي يود الانسحاب منها،العراق. بدا أوباما وكأنه يصافح التاريخ ويطوي حضاراته يين راحة يديه؛ فقد زار ثلاث إمبراطوريات عظمى غابرة، البريطانية والفرنسية والعثمانية، وكأنه يأخذ العبرة من مصير قد يواجه بلاده قريباً قبل أن يذوب حلمها الإمبراطوري. إعادة هندسة العالم جولة أوباما هي جولة تاريخية فكراً ورمزاً ومنهجاً، وهي بالأحرى جولة "اللبنات الأولي"، فقد تم وضع اللبنة الأولى في أساس نظام عالمي جديد جاء من رحم الأزمة المالية العالمية التي تهز الاقتصاد العالمي بعنفوان. وتم الاعتراف صراحة بانتهاء عصر الاحتكارية الغربية والتبعية الشرقية، كي يبدأ عصر التكافؤ والشراكة في تحمل المخاطر وجني المكاسب. واتفق الجميع على ضخ تريليون دولار لإنقاذ البشرية من كساد محقق وكوارث واقعة لا محالة. أيضا تم وضع اللبنة الأولى في علاقة إستراتيجية تمر عبر الأطلسي وتمحو بعضاً من الإرث الثقيل للمحافظين الجدد الذي قسموا أوروبا إلى قديمة وجديدة، حسب تصنيف وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد. وقد نجح أوباما في إعادة ترسيخ الشراكة التاريخية بين أوروبا والولاياتالمتحدة، من خلال الاعتراف بعدم قدرته على قيادة العالم منفرداً، وكأنه يستنجد باليد الأوروبية كي تخرجه من دوامة الأزمات التي تواجهه بلاده، بدءاً من أفغانستان مروراً بالأزمة المالية وانتهاء بالملف الإيراني. أما اللبنة الثالثة فقد وضعها أوباما في أساس العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي، وهو يحاول ترميم صورة بلاده "السوداء" التي رسختها إدارة بوش في عقول مليار ونصف مسلم حول العالم. وقد كان أوباما ذكياً حين سحب فتيل التوتر في العلاقة بالتأكيد على أن الخلاف مع العالم الإسلامي ليس دينياً بقدر ما هو اختلاف سياسي. وهو ناشد المسلمين من أرض "الخلافة" الزائلة، أن يعيدوا التفكير في علاقاتهم ببلاده انطلاقاً من المصالح المشتركة والاحترام المتبادل. واللبنة الرابعة هي وضع أساس لعالم خال من الأسلحة النووية، وهي إن كانت مجرد خطوة صغيرة في طريق طويلة لنزع الأسلحة النووية، إلا أنها مبادرة كانت مفاجئة للكثيرين خاصة في ظل احتفاظ الولاياتالمتحدة بنحو عشرة آلاف رأس نووي، قد تحتاج لعقود للتخلص منها. أما اللبنة الأخيرة فقد جاءت في إطار إعادة هندسة العلاقات الأمريكية - الروسية على أساس من الاحترام والتعاون، والتخلص التدريجي من عقدة المحافظين الجدد الذين أفسدوا العلاقة مع موسكو وتعاطوا معها كأسد بلا أنياب. تسويق "السحر" الأوبامي في كتابه "جرأة الأمل" يشير باراك أوباما إلى أن أقصر الطرق لتحقيق أي هدف هو إغراء الآخرين بقبوله، وهذا ما فعله أوباما خلال جولته الأوروبية. وهي وإن تمت وفق أسلوب "حملات العلاقات العامة"، إلا أنها كانت كفيلة بتسويق الأفكار الجديدة التي يسعى أوباما لإقناع العالم بأنها تمثل طريقته في "التغيير". وكانت رافعته الأساسية ليس جودة أفكاره، بقدر جودة عرضها ونجاحه في أسر القلوب وتخدير العقول؛ فعلى مدار الأيام الثمانية لجولته، استحوذ أوباما على الاهتمام الأكبر بين الكبار، وبدا كساحر، أو تاجر ماهر، يسوّق بضاعته على الملأ دون وجل. وهو لم يأت لأوروبا كي يستعرض "عضلات" بلاده على الأوروبيين وذلك على غرار ما كان يفعل دائماً سلفه جورج بوش، وإنما جاء وفق قاعدة "لا شيء عندى أخسره" بعدما خسرت بلاده مكانتها وهيبتها بفعل الأزمة المالية من جهة، والكارثة الأفغانية من جهة أخرى، والصورة النمطية السلبية عن بلاده من جهة ثالثة. وفي كل الأحوال لم يعد أوباما من جولته خاوي اليدين، وإنما حقق نجاحات ملموسة يمكن رصدها في أربعة رئيسية، أولها، أنه نجح في تسويق مفهومه الجديد للعلاقات الدولية والذي يقوم علي فكرة التعددية القطبية، أو الشراكة الدولية، مقابل "دفن" القطبية الأحادية التي بدأت قبل عقدين بالتمام حين انهار جدار برلين عام 1989. وهو جاهر بذلك صراحة حين كرر في جميع خطبه عبارة واحدة مفادها أن "دولة واحدة ولو كانت عظيمة كبلاده، غير قادرة على مجابهة المشاكل العالمية دون مساعدة الآخرين". وقد بدأ بتكريس هذا المفهوم اقتصادياً من خلال إعطاء شهادة ميلاد للوافد الجديد لقمة النظام الدولي ممثلاً في "مجموعة العشرين" التي قررت ضخ ما يقرب من تريليون دولار من أجل مواجهة الركود العالمي الذي قد يأكل الأخضر واليابس خلال العامين المقبلين ما لم تتم مواجهته بجدية. وقد دشنت "قمة العشرين" أساساً جديداً للعلاقات بين الشمال والجنوب، ينهي عقوداً من النظرة الحضارية "الدونية"، ويصحح صورة الشمال والجنوب، باعتبارهم على قدم المساواة، على الأقل اقتصادياً. وقد يصبح هذا الاعتراف أول مسمار في نعش البناء الهندسي لنظام "بريتون وودز" الذي رسخته الحرب العالمية الثانية، كما أنهى عملياً فكرة "إجماع واشنطن"Washington Consensus التي روّجت لأفكار النيوليبرالية الاقتصادية. وثاني المكاسب هو نجاح أوباما في إقناع أوروبا بخطورة الوضع في أفغانستان وأنه يجب على حلف الناتو الاضطلاع بمهمة أكبر لتنفيذ إستراتيجيته (أوباما) الجديدة لكيفية علاج المسألة الأفغانية، وحشد الدعم الأوروبي خلفها. وعلى الرغم من تململ فرنساوألمانيا من البعد العسكري لهذه الإستراتيجية، إلا أنهما أكدا دعهمها لها مادياً وفنياً. وثالثها، نجاح أوباما في تهذيب العلاقة مع روسيا، وإبداء مرونة في مسألة خفض الأسلحة التقليدية، وإقناع الروس بإمكانية المقايضة حول الدرع الصاروخية التي تنشرها بلاده في أوروبا. ورابعها، نجاح أوباما في ترسيخ نفسه شخصية كاريزمية ملهمة للكثير من الأجيال الشابة في أوروبا، وهو بذلك يمسح كثيراً من المثالب التي طمست صورة بلاده خلال السنوات الثماني الماضية. أفغانستان.. قشة القطبية الأحادية لا شك أن الرئيس أوباما قد قرأ جيداً كتاب المؤرخ الأمريكي المعروف "بول كيندي" عن "صعود وهبوط القوى العظمى"، وبدأ يتحسب للشرطين اللذين وضعهما كيندي لزوال الهيمنة وهما زيادة العجز الاقتصادي والتجاري للقوة العظمى، وزيادة الأعباء العسكرية للعمليات ما وراء البحار. وهو يدرك تماماً أن أفغانستان هي بمثابة "القشة" التي سوف تنهي عملياً مرحلة القطبية الأحادية. لذا فقد استغل أطروحة نهاية مرحلة العولمة "الاقتصادية" عبر تتويج "مجموعة العشرين" قطباً دولياً جديداً، كي يدعو إلى بداية مرحلة "العولمة السياسية" التي ترسخ عملياً عودة "التعددية القطبية" للنظام الدولي. وقد ترجم ذلك عملياً من خلال دعوته الصريحة لأوروبا والصين والهند وإيرانوروسيا للمشاركة في حل المسألة الأفغانية ليكون ذلك بمثابة بداية للعولمة السياسية، وعودة "التعددية" إلى قمة النظام الدولي. لذا فقد كان حريصاً على "بعث الروح" في حلف الناتو، ومحاولة إعادته مجدداً لدائرة الضوء عبر دعوته لقيادة الإستراتيجية الجديدة للتعاطي مع الأزمة الأفغانية. ذهب أوباما لأوروبا كي يسوّق إستراتيجيته الجديدة لمعالجة الوضع في أفغانستان التي كان قد طرحها قبل أيام من جولته الأوروبية، والتي تقوم علي ثلاثة أسس رئيسية، أولها زيادة الدعم العسكري واللوجيستي لقوات الدعم والإسناد الدولية (إيساف) الموجودة في أفغانستان، وذلك من خلال توسيع مهام حلف "الناتو" وزيادة مشاركة أعضاءه في تحمل أعباء المسألة الأفغانية. ولكن يبدو أن نجاح أوباما في قمة العشرين كان مناقضاً تماماً لوضعه في قمة الناتو. فحتى الآن لم تبد الدول الأوروبية الكبرى مثل فرنساوألمانيا دعماً كافياً لأوباما، خاصة وأن الأولى لديها ما يقرب من 3000 آلاف جندي، وقد رفض ساركوزي زيادة هذا الرقم، ولكنه وعد بزيادة الدعم الفني واللوجيستي لقوات الناتو، في حين أن الثانية (ألمانيا) لديها ما يقرب من 3500 جندي، ولا تبدو مستعدة لإرسال المزيد خاصة في ظل الأزمة العاصفة التي يمر بها الاقتصاد الألماني حالياً. أما الأساس الثاني فهو زيادة الدعم المالي والاقتصادي لكل من أفغانستانوباكستان، وقد نجح أوباما في الحصول على تعهدات من الدول الأوروبية بضخ مزيد من المساعدات والأموال لرفع مستويات التنمية في كلا البلدين. والأساس الثالث هو البحث عن إطار إقليمي ودولي يمكن من خلاله معالجة الأزمة الأفغانية، وهنا يجري الحديث عن صيغة أممية تضم دول الجوار الأفغاني مثل باكستان والهند وإيرانوروسيا، بالإضافة إلى القوى والمنظمات الدولية مثل الصين والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وحلف الناتو. وعلي الرغم من محاولات أوباما لإقناع الأوروبيين بالمخاطر المحتملة لعدم معالجة الوضع في أفغانستانوباكستان، إلا أنه حصل على كلمات ووعود وليس أفعال حقيقية. تركيا.. أكثر من مجرد دولة مسلمة إحدي تجليات ذكاء أوباما هو اختياره تركيا ضمن أول جولة خارجية له، وهو اختيار لم يكن محدداً سلفاً، وذلك على الرغم من نية أوباما عقب توليه الرئاسة بإلقاء خطاب في دولة إسلامية خلال المائة يوم الأولى له في الحكم. فتركيا بالنسبة لأوباما أكثر من مجرد دولة إسلامية، وهي قد تلعب دور "حصان طروادة" في إطار رؤيته لإعادة هندسة العلاقات الدولية. ولتقريب الصورة، فإن أوباما يتبع نهج "دبلوماسية الدول الطامحة"، التي تقوم على توظيف دول محورية إستراتيجياً ولديها طموح يتعدى محيطها الجغرافي والسياسي، وهو ما يتجسد بوضوح في شخصية رئيس وزراءها "رجب طيب أردوغان" الذي يرى نفسه بمثابة "أوباما تركي". وبالإضافة إلى الوظائف التقليدية التي يمكن لتركيا القيام بها مثل دورها المتزايد في ملفات الشرق الأوسط، ودورها الرمزي كجسر جغرافي وثقافي بين الغرب والشرق؛ فإن ثمة وظائف جديدة سوف تتطلبها إستراتيجية أوباما، ليس أقلها الدعم العسكري واللوجيستي الذي قد تقدمه تركيا للقوات الأمريكية في أفغانستان، وقد أعلنت أنقرة صراحة إمكانية قيامها بزيادة عدد قواتها الموجودة في أفغانستان ضمن قوات حلف الناتو والتي يبلغ عددها نحو 1200 جندي، كذلك يمكن لتركيا تفعيل "دبلوماسية الوساطة" بين باكستانوأفغانستان، وبين إيران وأمريكا، وذلك على غرار وساطتها بين إسرائيل وسوريا. ومن جهة ثالثة بإمكان تركيا أن تمثل "رئة" اقتصادية لإمدادات النفط والطاقة بالنسبة لأوروبا وذلك بعيداً عن القبضة الروسية، وذلك إذا ما نجحت أنقرة في تطبيع علاقاتها مع أرمينيا وأذربيجان. وقد كان أوباما حصيفاً حين زار تركيا ضمن جولة أوروبية، وليس شرق أوسطية، كي يعطي للأوروبيين انطباعاً بجدارة تركيا بالانضام للاتحاد الأوروبي، وهو دعم ذلك بدعوة صريحة للقبول بها عضواً كاملاً وليس مجرد مراقب. كما كان ذكياً حين تجنب الإشارة إلى "مذابح الأرمن" صراحة، في حين دعا تركيا وأرمينيا إلى تطبيع علاقاتها الدبلوماسية ونسيان الماضي. الأكثر من ذلك أن تركيا نجحت في مساومة أوباما على القبول بتعيين الدانماركي أندرس راسموسن أميناً عاماً لحلف الأطلسي مقابل تعيين نائب تركي له، ودعم انضمامها للاتحاد الأوروبي. ذهب أوباما إلى أوروبا ولديه كثير من الأمنيات، وعاد منها محملاً بمزيج من النجاحات والإخفاقات، وبين الذهاب والإياب يبدو أوباما أمام نقطة فارقة في مسيرة النظام الدولي، إما أن ترسخه زعيماً عالمياً باقتدار، وإما أن تسقطه نهائياً من حسابات التاريخ على غرار سلفه الذي رحل غير مأسوف عليه. * نائب مدير تحرير مجلة السياسة الدولية - الأهرام