الانتخابات العراقية التي جرت في 15 -12- 2005 كانت أهم محطة لعمل القنوات الفضائية العراقية، ومن خلالها انكشفت معظم أوراق القوى السياسية التي أنشأت تلك المحطات؛ اذ وقفت كل محطة في الدعاية الانتخابية لقائمة بعينها دون الأخرى، تبشر بمشروعها السياسي وتدعو العراقيين إلى انتخابها. وبينما يتم الكلام عن أكثر من أربعين محطة تلفزيونية أرضية وفضائية في العراق تتصدر إلى الواجهة مجموعة من القنوات التي تمثل في شكلها الأعم رسالة الطائفة التي تمثلها.ولأن العراق يمثل خليطاً واسعاً من الديانات والمذاهب والمعتقدات والقوميات فقد أصبحت تلك الفضائيات التي نشأت جميعها بعد الاحتلال أشبه ب"الناطق غير الرسمي" عن كل مكون من تلك المكونات؛ إذ تقوم كل واحدة من تلك القنوات التي أنشأتها المجاميع المتقاربة في اللون والمذهب بالذهاب إلى أماكنهم، وتتصدى لأخبارهم، وتظهر معاناتهم، ويقف على رأس التغطيات الإخبارية التي تخرج بها هذه القناة السياسيون والقادة الذين ينتمون إلى تلك الفئة. ولم يقف أمر الفضائيات العراقية عند حد اللون والمذهب بل يتعداه إلى فضائية الحزب الواحد، وإن كان الحزب الآخر الذي ينتمي إلى نفس التوجه المذهبي الذي ينتمي إليه هذا الحزب، و مثال ذلك أن المجلس الأعلى يحوز قناة الفرات، وكذلك حزب الدعوة يحوز قناة بلادي، وهي خطوة أخرى تنقل الشكل الإعلامي إلى الحزب الواحد، و هو أمر سنتكلم عنه تفصيلاً فيما بعدالحدث .. هو أكثر الأوقات وضوحاً لمعرفة مدى انحياز القناة لطرف بعينه بل وعلى حساب الطرف الآخر، سواء كان الحدث اليومي الأمني والسياسي، أو الأحداث الكبيرة التي تمر على العراق؛ إذ تتفاوت تغطية الأخبار بشكل كبير، ويتفاوت كذلك الضيوف، و طريقة عرض الخبر، بل وحتى الضيوف الذين يتصلون بالبرنامج أو التغطية عبر الهاتف ووجهات نظرهم.القنوات العراقية .. البداية والنشأة .. والتمويلعندما سقط النظام العراقي بعد الغزو كان الفضاء العراقي فارغاً تماماً إلاّ من سيل الأثير الغربي والعربي؛ إذ سقطت كل الآلة الإعلامية ووزارة الإعلام العراقية، وبدأت القوات المحتلة بإنشاء شبكة الإعلام العراقي الممولة أمريكياً؛ إذ استطاعت بعض القوى السياسية أن تدفع بعدد من أعضائها إلى داخل هذه الشبكة التي أخذت توجهاً أمريكياً واضحاً في البداية، وأخذت تتكلم عن التحرير وأيام صدام والحياة الوردية القادمة، وتستقبل آراء المواطنين العراقيين الذي يتقدمون بالشكر إلى المحتل الأمريكي على ما فعله من الإطاحة بالنظام.ثم ما لبثت القوى العراقية أن أنشات العشرات بل المئات من المجلات والجرائد الناطقة باسم قوى قد لا يُعرف اسمها إلا من خلال جريدة تُوزّع صباحاً بالمجان، وتحمل أهداف ورؤية حزب جديد يخرج كل يوم.وبعد الجرائد أخذت الأحزاب بإنشاء إذاعات محلية تغطي بغداد، ومن ثم قويت شبكتها حتى باتت تغطى العراق إلى أن وصلنا إلى القنوات المحلية، ومن بعدها الفضائيات.وبين كل هذا المد الإعلامي بقي السؤال عن التمويل حاضراً بقوة ومن غير إجابات شافية؛ إذ تقول الأحزاب غالباً إنها تقوم بتمويل ذاتي للقنوات والإعلام الداخلي لها، وهذا أمر قد يصعب بداية التصديق به إذا ما عُلم أن كل قناة من هذه القنوات قد يشترك في إدارتها والعمل فيها مئات الموظفين، بالإضافة إلى أسعار حجز الأقمار الاصطناعية التي قد تكلف ملايين الدولارات، فضلاً عن مصارف الأجهزة وسيارات البث الفضائي التي يصل سعر الواحدة منها إلى حوالي (750) ألف دولار، وهذه الأرقام قد تدلل على أن هذه الأحزاب تقف وراءها دول لتتمكن من إنشاء هذا كله.واذا كان الحديث الآن يدور حول الصراع الدائر في العراق ومدى تدخل القنوات التلفازية في التصدي له فإن الباب لا ينفك من حزمة من القنوات التي يتابعها الشارع العراقي عن كثب.قناة الشرقيةوتُعدّ من أهم القنوات العراقية، وتحوز غالباً على أعلى نسبة مشاهدة في العراق، وهي تُعد من القنوات المحايدة، وتحوي كادراً إعلامياً متمرساً قد عمل في السابق في الفضائية العراقية، وتلفاز الشباب المملوك من عدي صدام حسين سواء من ناحية المذيعيين أو الصحفيين وحتى الأقسام الفنية والهندسية. أهم ما تتميز به هذه القناة هي طريقتها في عرض الأخبار، والتي يجد فيها المواطن العراقي إلى حد بعيد حياداً يحاول الوصول إلى الجميع، ويأخذ أبعاد القضية من الجميع على المستوى السياسي والأمني. كما تميزت القناة بعدد من البرامج التي تمسّ الشأن العراقي بوضوح تام، وخاصة رعاية المشاريع الصغيرة لبعض الشباب العراقي، وبناء بعض البيوت التي تدمّرت جراء الحرب وبرامج مسابقات عامة يشترك بها بعض الممثلين الكوميديين الذين يجدون قبولاً في الشارع العراقي من أمثال ماجد ابو حنج. تمويل قناة الشرقية يبدو خفياً إلى حد بعيد؛ إذ يملكها سعد البزاز رئيس مؤسسة الزمان الإعلامية، والتي تصدر عنها جريدة الزمان، والغالب أن تمويلها ثلاثي بين السعودية والإمارات ولندن.تعرضت هذه القناة إلى ضغوط كبيرة من قبل وزارة الداخلية العراقية السابقة، ويبدو أنها أُجبرت لفترة من الزمن على أن تسمي الذين يُقتلون من الشرطة العراقية بالشهداء بعد أن كانت تسميهم مقتولين، بالإضافة إلى شكوى مراسيلها بشكل عام من عدم السماح لهم ببعض التغطيات التي تخص وزارة الداخلية.قناة العراقية أما قناة العراقية فهي مموّلة أمريكياً، و معظم العاملين المؤثرين فيها من الأحزاب الشيعية، لا سيما المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وتقوم هذه القناة بعرض وجهة نظر الحكومة العراقية في الأحداث، وتبنت الدعاية الكاملة لبرنامج الحكومة والمصالحة الوطنية مع بعض الاستثناءات التي تقوم على جلب ضيوف يخالفون توجّه الحكومة. أكثر ما يُؤخذ على قناة العراقية هي عرضها للتحقيقات التي تجري مع متهمين أُدينوا بقتل شرطة أو عراقيين من غير أن تثبت عليهم التهمة في برنامج الإرهاب في قبضة العدالة، و أكثر من 90 % من الذين كانوا يخرجون في هذا البرنامج هم من السنة، وكثير منهم من أئمة وخطباء المساجد السنية، بل وصل الأمر حتى إلى اتهام أحد الأئمة والخطباء بالاغتصاب والسرقة داخل المسجد.هذا البرنامج الذي جوبه بطعون قانونية كثيرة، ورُفعت عليه الكثير من القضايا في المحاكم العراقية أدّى إلى جعل قناة العراقية تُحسب بشكل كامل على التوجه الشيعي في العراق، ولا سيما في اهتمامها بطقوس الشيعة، وخاصة في وفاة الإمام الحسين -رضي الله عنه- إذ تقوم بوضع شارة سوداء تدل على الحزن لمدة أربعين يوماً، ويتمكن غالباً مراسلوها من عرض تقاريرهم من النجف وكربلاء و مدن كردستان العراق، لكن المناطق السنية قد تكون نادرة الظهور في تقارير مراسليهم.ولا يخلو الشريط الأخباري في قناة العراقية من وَصْم من تعتقلهم وزارة الداخلية بالإرهابيين على الفور من غير التحقيق معهم؛ إذ يُقال بعد كل اعتقال مثلاً "أبطال الشرطة العراقية يعتقلون أربعين إرهابياً مجرماً في منطقة الدورة".ومع هذا فإن الكثير من الأخبار، لا سيما المتعلقة بقتل الجنود الأمريكيين والجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال في العراق لا تجد لها طريقاً على الشاشة؛ فنادراً ما يُقال إن جندياً أمريكياً قد قُتل، أما حادث الاغتصاب الذي تعرّضت له فتاة عراقية في المحمودية فلم تلتفت إليه قناة العراقية بداية إلاّ بعد الخبر الأخير من النشرة، وبجملة عرضية لا تكاد تخرج عن سياق نقل الخبر من الجانب الأمريكي.ولا يقف الأمر عند هذا الحد فكثير من الأخبار التي تصل إلى قناة العراقية بل وتكون هي موجودة في موقع الحدث لا تخرج على شاشتها، ومن بينها استشهاد الشيخ يوسف الحسان مسؤول هيئة علماء المسلمين في المناطق الجنوبية من العراق؛ إذ لم تذكر الخبر أبداً قناة العراقية، كما أنها تمكنت من التقاط صور بعدستها للتشييع لكنها لم تخرجه على شاشتها.وتستقر مكاتب القناة العراقية في المنطقة الخضراء تحت البرلمان العراقي تقريباً ويحتاج موظفوها قبل الدخول إلى المبنى إلى استخراج بطاقات موثقة من قبل الجانب الأمريكي ليتسنى لهم عبور عشرات الحواجز ونقاط التفتيش للوصول إلى مقر العراقية.قناة الفرات وتُعدّ هذه القناة أهم قناة شيعية في العراق، وترتبط بشكل مباشر مع عبد العزيز الحكيم رئيس قائمة الائتلاف العراقي الموحد، ويعمل بها أكثر من ثلاثمائة موظف، ليس فيهم سني واحد كما صرح مسؤولها محسن الحكيم، وتستقر مكاتبها في منطقة الكرادة التي تحوي العديد من مقرات المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، بالإضافة إلى مجموعة من المكاتب المنتشرة في محافظات النجف والبصرة وغيرها.أهم سبق صحفي حصلت عليه هذه القناة منذ أُنشئت هو التصوير النادر جداً، والذي يظهر المراجع الشيعية الأربعة مجتمعين في بيت السيستاني بعد ساعات من تفجير قبة مرقد الإمام علي الهادي في سامراء.تسمي هذه القناة العمليات المسلحة بالإرهابية، وتبالغ في عرض الدعايات التلفازية المندّدة بهذه العمليات، وتصف فاعليها بأشد الألفاظ النابية.حشدت قناة الفرات شيعة العراق للتصويت على القائمة (555) قائمة الائتلاف العراقي الموحد، وكانت تنقل -وبشكل مباشر- أيام التصويت على الدستور وقائع المؤتمرات الصحفية التي يجريها عبد العزيز الحكيم وابنه عمار وجلال الدين الصغير، وكلها تدعو للتصويت بنعم على الدستور.قبل التصويت على الدستور لم تكن قناة الفرات تمتلك سيارات بث فضائي، لكنها وبشكل عاجل تمكنت من حيازة ثلاث سيارات للبث الفضائي يصل سعر الواحدة منها إلى ما يقرب (750) ألف دولار أمريكي، كما أن شاشتها تغيّرت، وازداد عدد العاملين فيها بشكل واضح وحتى الشكل العام للشاشة.اشتهرت قناة الفرات بالتحشيد لشيعة العراق في معظم القضايا الأمنية التي يصابون بها، لا سيما أحداث تفجيرات دور العبادة عند الشيعة، وضرب مواكب الزيارات الحسينية، لكن أحد أهم التحشيدات التي تبنتها قناة الفرات هي ما كان قبل الانتخابات العراقية بيوم واحد بعد أن تكلم أحد الضيوف في برنامج فيصل القاسم في قناة الجزيرة على "السيستاني" ودوره المساند للاحتلال، مما أدى إلى تحشيد الشارع الشيعي؛ إذ كانت مفوضية الانتخابات العراقية يومها قد منعت أي تكتل سياسي من إجراء دعاية انتخابية له قبل يومين من موعد هذه التظاهرات، فاستغلت التظاهرات لرفع صور "السيستاني"، وبجانبها الدعاية لقائمة الائتلاف العراقي الموحد، ومن بعدها أجبرت قناة الفرات الصحفية أطوار بهجت رحمها الله التي كانت تعمل وقتها بقناة الجزيرة بتهديدها بأنهم يعرفون مكان منزلها الكائن وقتها في العامرية، فأُجبرت على أن تعتذر لقناة الفرات عبر الهاتف فاتصلت بهم، وقالت: إن جميع العاملين في قناة الجزيرة في بغداد قدّموا استقالة جماعية، وهي من بينهم احتجاجاً على الانتقاص من "السيستاني" على الجزيرة.تحاول الآن قناة الفرات التغطية الكاملة لعمليات الهجرة التي تطال الشيعة في العراق، وتسميهم تهجير وإرهاب أبناء اهل البيت من غير النظر إلى المهجّرين من السنة، وخاصة في مدن البصرة والجنوب فضلاً عن مناطق واسعه من بغداد ويمكن بشكل عام أن يتابع أي أحد قناة الفرات ليوم واحد فقط ليكتشف خبرها وطريقة تغطيتها للأحداث.قناة بغداد تُعدّ من القنوات الجديدة، وقد خرجت بشكل قوي قبيل الانتخابات، وكانت تتحدث بالدعاية عن جبهة التوافق العراقية السنية بشكل شبه كامل، ومن الملاحظ أن هذه القناة هي القناة الأفقر بين كل القنوات، و حتى الاستوديوهات التي تخرج منها نشرات الأخبار متواضعة للغاية، كما أن موظفيها البالغ عددهم حوالي (70) موظفاً معظمهم من الجدد على العمل الإعلامي، وتحوي بين جناحيها موظفين من السنة والشيعة والأكراد، ومقرها غرب بغداد، وهو لايصلح بداية لأن يكون مقراً لقناة فضائية بل يصلح أن يكون مقر إدارة لقناة فضائية فقط، وحتى إن موظفيها يقولون إن مرتباتهم هي الأقل من بين كل مرتبات القنوات الفضائية الأخرى، ومع قلة الإمكانات تُعدّ قناة بغداد الآن أهم قناة سنية على الإطلاق بل هي الوحيدة التي تتكلم باسم السنة، وتمكّنت بشكل واضح من تحريك الشارع السني بعد الانتخابات عندما خرج السنة في أكبر تظاهرة لهم للطعن في نتائج الانتخابات؛ إذ كان لقناة بغداد الفضائية الدور الأكبر لتحشيد االسنة، ومن بعدها انبرت هذه القناة وبشكل منفرد للتصدي لجميع العمليات الأمنية لحظة وقوعها حيث ينتشر المؤيدون لها في كل المناطق العراقية، وعندما تتعرض منطقة لهجوم من قبل المليشيات أو الشرطة العراقية أو قوات الاحتلال تفتح القناة خطاً مباشراً مع منطقة العمليات وتتلقى اتصالات هاتفية من قبل المواطنين بشكل حر من غير مقاطعة، وقد تسببت بالإحراج لقيادات الشرطة والجيش، وقد فضحت أو قللت من خطر هجمات المليشيات على مناطق معينة. تمتنع قناة بغداد وربما هي الوحيدة في هذا الباب في العراق من إظهار الأغاني والدعايات التفازية التي تتكلم بشكل سافر عن المقاومة العراقية، وتصفها بالإرهاب، وإن كانت هذه الدعايات توفر أموالاً طائلة. تسمي قناة بغداد -وهي الوحيدة كذلك في هذا الباب- العمليات التي تطال القوات الأمريكية بعمليات المقاومة العراقية، كما تسمي القوات الأمريكيةبالمحتلة، وتنتصر في برامجها بشكل واضح للعمليات المسلحة التي تطال القوات الأمريكية، وهو الأمر الذي زاد من حدة الضغوط عليها ليتعرض بعد ذلك مقرها إلى سقوط عدد من القذائف الصاروخية، وجرح عدد من موظفيها، كما استشهد من الصحفيين العاملين فيها أكثر من خمسة صحفيين، واعتقل من صحفييها الكثير، الأمر الذي قد يجعلها أكثر قناة قدّمت تضحيات في هذا الباب.أهم سبق صحفي حصلت عليه القناة هو تصويرها للصحفية الأمريكية (جيل كارول) عندما أتى بها الخاطفون إلى مقر الحزب الإسلامي. أما عن الدعم المالي للقناة فهي تعتمد في نسبة كبيرة منها على الدعايات والتبرعات العينية من قبل تجار من السنة. وينتقد القائمون على القناة الدول السنية الكبرى التي تقاعست عن دعمها، في الوقت الذي تتكفل إيران بدعم المشروع الشيعي في المنطقة.المصدر : الإسلام اليوم