سورة الكهف ليلة الجمعة.. 3 آيات مجربة تجلب راحة البال يغفل عنها الكثير    عملة مزورة للابتزاز وليس التبادل النقدي!    نقطة أمنية في عاصمة شبوة تعلن ضبط 60 كيلو حشيش    مركز الإنذار المبكر يحذر من استمرار تأثير المنخفض الجوي    مليار دولار التكلفة الأمريكية لإحباط هجمات الحوثيين في البحر الأحمر    إنهم يسيئون لأنفسم ويخذلون شعبهم    مولر: نحن نتطلع لمواجهة ريال مدريد في دوري الابطال    رغم وجود صلاح...ليفربول يودّع يوروبا ليغ وتأهل ليفركوزن وروما لنصف النهائي    طاقة نظيفة.. مستقبل واعد: محطة عدن الشمسية تشعل نور الأمل في هذا الموعد    الفلكي الجوبي: حدث في الأيام القادمة سيجعل اليمن تشهد أعلى درجات الحرارة    "ابتزاز سياسي واقتصادي للشرعية"...خبير اقتصادي يكشف سبب طباعة الحوثيين للعملات المزيفة    الحكومة تطالب بتحرك دولي لوقف تجنيد الحوثي للأطفال تحت غطاء المراكز الصيفية    شقيق طارق صالح: نتعهد بالسير نحو تحرير الوطن    الدوري الاوروبي ... ميلان وليفربول يودعان البطولة    الدوري السعودي ... الشباب يكتسح ابها بخماسية    "لا حل إلا بالحسم العسكري"..مقرب من الرئيس الراحل "علي صالح" يحذر من مخيمات الحوثيين الصيفية ويدعو للحسم    "طاووس الجنان" و"خادمة صاحب الزمان"...دعوة زفاف لعائلة حوثية تُثير الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب مافيها(صورة)    نقل فنان يمني شهير للعناية المركزة    إصابة 3 أطفال بانفجار مقذوف شمالي الضالع    ريال مدريد وبايرن ميونخ يتأهلان لنصف نهائي دوري ابطال اوروبا    تنفيذي الإصلاح بالمحويت ينعى القيادي الداعري أحد رواد التربية والعمل الاجتماعي    لجنة الطوارئ بمأرب تباشر مهامها الميدانية لمواجهة مخاطر المنخفض الجوي    انطلاق أعمال الدورة ال33 للمؤتمر الإقليمي لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) لأفريقيا    ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة الى 33.970    مصرع وجرح عدد من العناصر الإرهابية على يد القوات الجنوبية بوادي عومران    سقوط 9 مدنيين في الحديدة بسبب الألغام ومخلفات الحرب خلال مارس الماضي مميز    الرئيس: مليشيا الحوثي تستخدم "قميص غزة" لخدمة إيران ودعم الحكومة سيوقف تهديداتها    بمناسبة الذكرى (63) على تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين اليمن والأردن: مسارات نحو المستقبل و السلام    قبل قيام بن مبارك بزيارة مفاجئة لمؤسسة الكهرباء عليه القيام بزيارة لنفسه أولآ    إسقاط طائرة تجسس حوثية في شقرة بمحافظة أبين    دراسة: اقتصاد العالم سيخسر 20% بسبب التغيرات المناخية    وفاة مواطن وجرف سيارات وطرقات جراء المنخفض الجوي في حضرموت    ترحيل آلاف اليمنيين من السعودية    أضرار مادية وخسائر بشرية بسبب الفيضانات شرقي اليمن وإغلاق مدينة بالكامل    ركلات الترجيح تحمل ريال مدريد لنصف نهائي الأبطال على حساب السيتي    ليلة للتاريخ من لونين.. وخيبة أمل كبيرة لهالاند    أهلي جدة: قرار رابطة الدوري السعودي تعسفي    آية تقرأها قبل النوم يأتيك خيرها في الصباح.. يغفل عنها كثيرون فاغتنمها    غرق شاب في مياه خور المكلا وانتشال جثمانه    بن بريك يدعو لتدخل إغاثي لمواجهة كارثة السيول بحضرموت والمهرة    "استيراد القات من اليمن والحبشة".. مرحبآ بالقات الحبشي    اليمن: الكوارث الطبيعية تُصبح ظاهرة دورية في بعض المحافظات الساحلية، ووزير سابق يدعو لإنشاء صندوق طوارئ    مأساة إنسانية: صاعقة رعدية تُفجع عائلتين في تعز    على رأسهم مهدي المشاط ...ناشطة حوثية تدعو إلى كسر الصمت حول قضية السموم الزراعية في اليمن    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    مفاجأة صادمة ....الفنانة بلقيس فتحي ترغب بالعودة إلى اليمن والعيش فيه    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    10 أشخاص ينزحون من اليمن إلى الفضاء في رواية    خطة تشيع جديدة في صنعاء.. مزارات على أنقاض أماكن تاريخية    وللعيد برامجه التافهة    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تراث الجنوب وفنه يواجه.. لصوصية وخساسة يمنية وجهل وغباء جنوبي    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    تخيل أنك قادر على تناول 4 أطعمة فقط؟.. شابة مصابة بمرض حيّر الأطباء!    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خرافة اسمها: أهل البيت!
نشر في الأهالي نت يوم 01 - 05 - 2012

جاءت "الوثيقة الفكرية والثقافية" التي ذيّلها عبدالملك بدر الدين الحوثي بقوله: "هذه رؤيتنا وعقيدتنا"، ووقّع عليها حسين مجدالدين المؤيدي، لتسدل الستار على مرحلة من التباينات والخلافات التي عصفت بآل "الحوثي" وبيت "المؤيدي" والعديد من رموز الزيدية في صعدة، من الهاشميين وغيرهم، منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، على خلفية اشتغال ما كان يُعرف حينها ب "الشباب المؤمن" وما أثاروه من جدل فكري تعدّى ملامسة فروع المذهب فقهيا وكلاميا إلى مرتكزات الزيدية السياسية وأصولها العقدية ذاتها.
وكغيرها من المحاولات الرامية إلى التخفف من أوزار "العنصرية" التي أثقلت كاهل المذهب الزيدي، وألقت به في ظلمات "التمييز" على أسس عرقية، لا تقيم للكفاءة العلمية والعملية مقابل "النسب" أي وزن، فإن تجربة "الشباب المؤمن" ليست بمعزل عن سيرورة تجارب إصلاحية ضاربة الجذور في تاريخ الزيدية، لم تكن بداياتها متوقفة على نشوان بن سعيد الحميري في القرن السادس الهجري، بذات القدر الذي لم تتوقف فيه عند منتصف القرن الثالث عشر الهجري ورحيل القاضي الشوكاني.
محطات السجال
وقبل التوقف بالنقد والتحليل والمراجعة أمام بعض ما جاء في "الوثيقة" أرى أن التعريج، ولو سريعا، على أبرز محطات السجال "الزيدي-الزيدي" خلال الفترة الممتدة بين عامي 1995 و2012 لن يخلو من فائدة لفهم "الوثيقة" وأبعادها الفكرية والسياسية، وفي الوقت نفسه لاستيضاح كيف أنها كما لو كانت في المقام الأول إنما نهضت لإهالة التراب على أطلال المنحى التجديدي الذي كان "الشباب المؤمن" قد ساروا فيه بضع خطوات جريئة، على صعيد الفصل بين المذهب الزيدي ومعضلته التاريخية المتمثلة في جعل "النسب" مدار الأحقية والفضل والتفضيل.
وإذا كنت أقصد عند إطلاق "الشباب المؤمن" ما يومئ إليه هذا المصطلح – كما عايشته أنا - في العنوان العام من توجه فكري مستنير ومتسامح، يتبنى التجديد والمواكبة من داخل المنظومة الفكرية والفلسفية والأصولية للمذهب الزيدي، فإن الإنصاف يقتضي الإشارة إلى علي أحمد الرازحي ومحمد يحيى عزان، بوصفهما – أبرز من غيرهما في إطار "الشباب المؤمن" - الأكثر تمثلا لذلك التوجه الذي أغضب الزعامات التقليدية للزيدية في صعدة.
على الرغم من أن تعاطي "الشباب المؤمن" مع مسألة "الإمامة" وما يتفرع عنها من عناوين لم يكن مقطوع الصلة كليا بالنتاج الفكري للزيدية، بقدر ما كان يستلهم المرجعيات التي سار عليها عدد من قدماء رموز المذهب وأئمته، إلا أن ردة الفعل من قبل العلامة مجدالدين المؤيدي – رحمه الله – كانت حادة وقوية، إذ اتخذ من "الشباب المؤمن" في منتصف تسعينيات القرن الماضي موقفا عدائيا، قال فيه بخروجهم عن المذهب، وشايعه في ذلك لفيف من رموز الزيدية في صعدة وعلى رأسهم حينها حسين يحيى الحوثي (أحد الموقعين حاليا على الوثيقة الفكرية والثقافية).
غير أن "الشباب المؤمن" لم يعدموا نصيرا في ذلك الحين، إذ أن وجود محمد بدرالدين الحوثي بينهم، على الرغم من اقتصاره علميا وعمليا على المسائل الأخلاقية والتنظيمية في "المراكز الصيفية"، ساعد على أن ينهض إلى جانبهم والده العلامة بدرالدين أمير الدين الحوثي، فشكل وجوده قبالة المؤيدي توازنا كبيرا، إذ اتخذ عدد من رموز الزيدية جانب بدرالدين الحوثي، وكسب "الشباب المؤمن" بالعلامة بدرالدين تعاطف أسماء كانت بارزة حينها من مثل أحمد صلاح الهادي وآخرين، فضلا عن أنهم أمنوا على أنفسهم بعض الشيء من أن تصيبهم تبعات الأحكام التي أصدرها في حقهم فريق العلامة مجدالدين المؤيدي، والتي أثارت عليهم إلى جانب سخط كثير من علماء المذهب نقمة مشايخ القبائل الذين أبدى بعضهم استعداده لإلحاق أقصى العقوبات وأقساها ب"الشباب المؤمن" جرّاء مجاهرتهم بمخالفة العلامة مجدالدين. وهكذا كان جنوح "الشباب المؤمن" صوب مسارات فكرية "مغايرة بعض الشيء للمألوف" بمثابة الباعث الظاهر على انقسام الزيدية في معقلها التاريخي إلى فريقين، أحدهما ساخط على "الشباب المؤمن" وعلى رأس هذا الفريق مجدالدين المؤيدي وأشياعه، والثاني مدافع عن "الشباب المؤمن" وعلى رأسه بدرالدين الحوثي.
وهنا من المهم التأكيد على أن "الشباب المؤمن" وإن بدوا لفترة من الفترات على أنهم من فريق بدرالدين الحوثي الذي دافع عنهم إلا أنهم في العمق من مرجعياتهم الفكرية كانوا على فصال كامن حتى مع مرجعيات الحوثي بدرالدين نفسه. ما يعني أن سيرورة اشتغالهم الفكري صوب مسارات سيضيق بها ذرعاً العلامة بدرالدين الحوثي، هو الآخر، كان مسألة وقت ليس إلا.
إيقاع السلالة
لقد كان "الشباب المؤمن" بما يمثله التوجه الفكري المشار إليه سلفا حالة يرى فيها العديد من رموز الزيدية في صعدة تهديدا لمركزية "النسب" الهاشمي في قوام السلطة الدينية الزيدية، أو ما تعارفوا على التعبير عنه بمقام "أهل البيت" كقرناء للكتاب الكريم، وما يلحق بذلك من أحقيتهم وحدهم بأمور الزعامة الدينية والدنيوية على حد سواء. وعلى هذا الأساس كان من الطبيعي أن يخلف الانقسام الأول لرموز الزيدية في صعدة (الذي تناءى بسببه مجدالدين المؤيدي وبدرالدين الحوثي وفريقاهما) انقسام لاحق يحمل عنوانا مضللا هو مزيد من التشظي لرموز الزيدية التقليديين في صعدة، بينما عنوانه الحقيقي هو محاصرة "الشباب المؤمن"، أو بالأصح الفكر التحرري الذي يمثلونه، ووصمه بجريرة الردة والخروج عن الزيدية!! ومن ثم الإتيان عليه، أو تهجيره وتغريبه، كي تخلو الساحة أمام الإيقاع المتعاظم لأفضلية "السلالة" وحقها الإلهي.
وهكذا فإن ملامسة بواكير المراجعات التي خاض فيها "الشباب المؤمن" لأصول المذهب الزيدي واقترابها من الدوائر الخطرة التي أسفرت عن الانقسام الأول هي عينها، بشيء من التوسع، التي ساقت إلى الذي تلاه. إذ ما إن مرت سنوات من الوفاق السطحي بين "الشباب المؤمن" والعلامة بدرالدين الحوثي حتى آذن اعتراض حسين بدرالدين الحوثي على مسار "الشباب المؤمن" المشوب – حينها - بالتحرر النسبي من هيمنة شخوص أئمة المذهب الزيدي ورموزهم، المتقدمين منهم والمتأخرين، بتداعي صلة الوصل بين الجانبين منذ أواخر تسعينيات القرن المنصرم. لتبدأ بعدها في مطلع الألفية الثالثة مرحلة التمايز الواضح بين الزيدية التقليدية في صعدة من جهة، وما تبقى من حضور لتوجه "الشباب المؤمن" الفكري والتحرري من جهة ثانية.
غدت الزيدية التقليدية أكثر التفافا حول مقولاتها "العنصرية"، وفي الوقت نفسه أضحى الفريق الذي يختصر المذهب في شخوصه الذين تربطهم بمؤسسه صلة النسب – قدماء أو معاصرين - هو الفريق الأوسع، فقد ضمت الزيدية التقليدية في الجوهر فريقي الراحلين مجدالدين المؤيدي وبدر الدين الحوثي، رحمهما الله، وإن كان الظاهر من مسارات بعض أتباعهما الإنكار على بعضهما البعض، كما هو على سبيل المثال حال الذين أخذوا على حسين بدرالدين الحوثي مقولاته التي ظهرت على خصومة حادة مع التراث الفقهي والأصولي والفلسفي والاستدلالي للزيدية أنفسهم. وما أخذه حسين بدرالدين على هؤلاء من مفارقة مسلكه الشعاراتي.
مبادئ لا أشخاص
حينها كان مدار اشتغال "الشباب المؤمن" وجلّ همهم - بعد أن صاروا منبوذين حتى من بدرالدين الحوثي وأبنائه وأشياعه – وضع إطار نظري يتم في ضوئه التحقق من صحة نسبة أي إنسانٍ كان إلى الزيدية من عدم صحة النسبة، وذلك على أمل أن ما سيوفره هذا الإطار النظري سوف ينفي الحاجة إلى الوقوع تحت رحمة هذا الرمز الزيدي أو ذاك (حوثيا كان أو مؤيديا أو غيرهما) من أجل استصدار صك البراءة وشهادة "سلامة المعتقد!!" وحسن السيرة والسلوك. إذ لم يكن ثمة استعداد لدى "الشباب المؤمن" الاتكاء للمرة الثانية على حامٍ يجيز اشتغالهم الفكري، وينفي عنهم "تهمة!!" الخروج عن المذهب الزيدي. باعتبار أن الفيصل في سريان الانتماء إلى الزيدية من عدمه لا يكون بشهادة هذا "المولى العلامة الحجة" أو ذاك (والمولى العلامة الحجة هي الصفات التي تتقدم رموز الزيدية اليوم) وإنما بما تقرره القاعدة المفاهيمية التي يسهل الاستدلال عليها والتعرف إليها واستنباطها في ضوء المبادئ الكلية للمذهب.
ومع أن الخروج عن المذهب الزيدي ليس خروجا عن الإسلام على أية حال، وأن تاريخ الزيدية يشهد على بلوغ العديد من رموزه درجة من الاجتهاد المطلق تجاوزوا معها ما هو من أصول المذهب، وخرجوا على الكثير من مسلّماته، واقتربوا – بقدر ابتعادهم عنه – من مذاهب فقهية وتيارات فكرية ذات كينونة منفصلة عن الزيدية، إلا أن التهويل والاستنكار والتجريم الذي قوبل به ما قال خصوم "الشباب المؤمن" إنه خروج منهم عن المذهب الزيدي ربما يفسر ما كان حينها من حرص "الشباب المؤمن" وإصرارهم على تأكيد اتصال انتمائهم مذهبيا بالزيدية.. (وربما نعود في وقت لاحق للحديث بشيء من التفصيل عن دلالات رفع فريق مجدالدين المؤيدي ثم بدرالدين الحوثي دعوى الخروج عن الزيدية في وجه "الشباب المؤمن" وإصرار الأخيرين على براءتهم منها).
يمكن تلخيص الإطار النظري الذي اشتغل عليه "الشباب المؤمن" كتعريف للمذهب الزيدي يستبين في ضوئه متى يكون المرء زيديا ومتى لا يكون (أو حسب تعبير القدماء: "الحد الجامع" لمختلف أتباع المذهب الزيدي "المانع" لسريان التسمية على غيرهم) في تأكيدهم – أي الشباب المؤمن – على أن الزيدية مبادئ وليست أشخاصا. وذاتها الأصول الخمسة بصيغتها عند المعتزلة قال بها "الشباب المؤمن" كأصول للزيدية، أي أنهم استثنوا "الإمامة" من أن تكون أصلا من أصول الزيدية، وجعلوها فرعا يلحق بأصل هو "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
وخطورة هذا الطرح في نظر خصوم "الشباب المؤمن" لا تتوقف عند كونه لا يقيم وزنا لما ذهب إليه الإمام الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي من اتخاذ "الإمامة" أصلا خامسا أراده أن يحل بديلا لدى الزيدية "الهادوية" عن "المنزلة بين المنزلتين" عند المعتزلة، وإنما تتجه خطورة ما ذهب إليه "الشباب المؤمن" من أن الزيدية مبادئ أو أصول خمسة ليست "الإمامة" من بينها أبعد من ذلك، كونها تجعل من الكفاءة العلمية والعملية، لا النسب أو العرق، معيارا للريادة واستحقاق الفضل والأهلية في شئون الدين والدنيا على حدٍ سواء.
وفوق ذلك فإن هذا المستوى من التأصيل الذي نادى به "الشباب المؤمن" كحاكم على المذهب الزيدي وعنوانا له قد جعل من "الزيدية" إطارا فكريا واسعا لا يكاد يستثني من الدخول فيه إلا المعروف من المذاهب والتيارات بذهابه إلى النقيض من "أصول" الأصول الخمسة، أما فروع هذه الأصول ذاتها فإنها هي الأخرى مجال لأخذ ورد كبيرين. ومن هنا صح لدى "الشباب المؤمن" إمكانية وصف أي إنسان بالزيدي طالما وهو يقر بالمبادئ أو الأصول الخمسة، حتى وإن كان في ما عداها حنفي أو مالكي أو شافعي أو أباضي أو أي شيء آخر.
مركزية النسب
لقد اتخذ تعاطي الزيدية التقليدية مع هذا الطرح مسارات عديدة التقت كلها على مركزية النسب وأفضلية "أهل البيت" بما يُظهر المذهب الزيدي كما لو لم يكن معنيا إلا بتأكيد اختصاص سلالة معينة بحاكمية "ثيوقراطية" مطلقة سياسيا واجتماعيا وروحيا.
وفيما رأى حسين بدرالدين الحوثي في مقولة "الشباب المؤمن" تلك "الزيدية مبادئ وليست أشخاصا" ما اعتبره حينها "تمييعا للزيدية" وتبديدا لها بين المذاهب والفرق والتيارات المختلفة، فقد اعتبر أن صياغة "الهوية الزيدية" في ضوء محددات صارمة هو ما يضمن للمذهب الزيدي التميز. وحينها كانت فكرة أن يستقر الزيدية على مرجعية "علمائية" واحدة هي المطلب الملح الذي دفع بحسين بدرالدين إلى تكريس سلطة والده بدرالدين الحوثي العلمية كمرجعية للزيدية، ثم ما لبث– حسين بدر الدين – بعدها بقرابة عامين أن اشتغل على فكرة "الاصطفاء" كمعطى إلهي يتجسد في قائم من "أهل البيت" يقوم بأمر الله وشئون دينه وعباده.
وبين ذلك التاريخ في السنوات الأولى من العقد الأول في الألفية الثالثة وحتى ابتداء العقد الثاني كان ما كان من أحداث ومتغيرات أسفرت عن عودة محافظة صعدة إلى عمق المسار الذي تناوب على رسمه حراك تاريخي ابتدأ مع الإمام الهادي في الربع الأخير من القرن الثالث الهجري واستمر حتى القرن الرابع عشر الهجري، متخذا شكل دولة زيدية شملت في النادر من امتدادها كل اليمن، وكادت تضيق في حالات انكماشها المتكرر بمدينة صعدة ذاتها.
لست في معرض التنبوء بما يمكن أن تتخذه من شكل سلطوي "ثيوقراطية" الزيدية الحوثية، في القرن الخامس عشر الهجري/ الحادي والعشرين للميلاد، انطلاقا من صعدة، إلا أنه لا يمكن تجاهل ما تحمله "الوثيقة الفكرية والثقافية" من دلالات يكفي من بينها الإشارة هنا إلى أن تداعي الموقعين عليها - وبين بعضهم خصومة متقادمة – لم يكن إلا على أمر جامع يلامس شغاف قلوبهم أجمعين، وما ذاك إلا ما أسرفت فيه الوثيقة من تكريس أن سلالة يسمونها "آل البيت" هم "أبناء الله وأحباؤه" فيما البقية ليسوا سوى بشر من طين..
وفي الحلقات القادمة سوف تكون لنا وقفات تفصيلية أمام مضامين "الوثيقة الفكرية الثقافية" بمقاربات نقدية، تأخذ في تفكيكها وبيان تهافتها منحى استدلاليا لا يقتصر على الصدور عن الضرورات العقلية والثوابت الإنسانية من ناحية، والمنطلقات الكلية للإسلام كدين ومنهج حياة من ناحية أخرى، وإنما أيضا في ضوء مرجعيات المذهب الزيدي الذي يزعم أصحاب هذه الوثيقة أنهم هو، وليس جزءا منه فحسب.
‏في نقد "الوثيقة الفكرية والثقافية"..‏
‏لعل أول ما ينبغي التوقف عنده في "الوثيقة الفكرية والثقافية" اختزال الموقعين عليها مسمى "الزيدية" في أنفسهم، ومن يواليهم ويقول بقولهم. ففي الوقت الذي يتحدثون فيه عن اجتماع لجنة مكلفة "لصياغة الاتفاق بين أبناء الزيدية عموما" إلا أن الوثيقة لا تذكر سوى فريقين، يمثل أحدهما عبدالملك الحوثي على مسار شقيقه حسين ووالدهما بدر الدين، بينما يمثل الفريق الثاني عبدالرحمن شايم وحسين مجدالدين المؤيدي وحسين يحيى الحوثي (وهذا الأخير على قرابة مع محمد عبدالعظيم الحوثي الذي خاض هو وشيعته صراعا مسلحا مع جماعة عبدالملك الحوثي). وهم – أي شايم وحسين يحيى الحوثي وحسين مجدالدين– على مسار مجدالدين المؤيدي، وقد كان بين الفريقين (الحوثي-المؤيدي) من الخلاف ما سبق التعريج على شيء منه في الحلقة الأولى.‏
أبناء "الزيدية" أم تيار فيها فقط؟
من البديهي أنه إذا كان ثمة داع أو مبرر في هذا التوقيت "لصياغة اتفاق بين أبناء الزيدية عموما" فإن ذلك يقتضي إشراك من ينوب عن مختلف تيارات الفكر الزيدي، واستيعاب من يمثل الرؤى التجديدية، طالما وهي لا تعدم الصدور عن مرجعيات المذهب وثوابته الكلية، فضلا عن استيعاب ما يمكن اعتبارها امتدادا لمدارس فكرية ضاربة الجذور في التاريخ والتراث الزيديين، إن على مستوى تعدد وجهات النظر في منظومة الفكر السياسي للزيدية، أو تعدد المنطلقات الفقهية والأصولية والفلسفية، التي أسست لتعدد واسع، عُرفت معه "الزيدية" على امتداد تاريخها بكونها تنطوي على مدارس وتيارات يجمعها - على تباينها وتمايز بعضها عن بعض بمستويات متفاوتة – الانضواء تحت مسمى الزيدية في العنوان العام.‏
هذا إذا كان "الاتفاق" الذي يُراد صياغته "بين أبناء الزيدية عموما" مقتصرا على الحالة المذهبية كشأن ديني وفكري خالصَين، أما وهو يتعدى ذلك إلى الشأن السياسي "الدنيوي" فإن الحضور سياسيا على أساس مذهبي لهو كارثي في حد ذاته. بيد أنه سيكون أكثر كارثية بالتأكيد وهو يستحضر – فوق البعد المذهبي - عصبوية "النسب" ومركزية "السلالة" مدارا للولاء والانتماء والأهلية، حال خوضه غمار التدافع السياسي والاجتماعي.‏
في ضوء ذلك سيكون من الإجحاف النظر إلى "الوثيقة الفكرية والثقافية" على أنها تعبّر عن عموم "الزيدية"، أو أنهم جميعا يقولون بما تضمنته جملة وتفصيلا. وإذا كان هذا واضحا فإنه من البديهي القول بأن تلك "الوثيقة" صادرت، أول ما صادرت، حق الكثير من أبناء "الزيدية" في الانتساب للمذهب الزيدي، إلا وفق المحددات "العنصرية" التي استدعتها من نسق تاريخي وتراثي، في الوقت الذي لا يمكن القول بأنه مقطوع الصلة ب "الزيدية" إلا أنه سواء كان يمثل المسار الأوسع حضورا فيها منذ نشأتها وحتى اللحظة، أو يمثل الخط الأقل حضورا، أو مهما كانت نسبة هذا النسق، فإن النظر إليه على أنه الجانب المظلم في "الزيدية" محل اتفاق، ليس لدى الناظرين إليها من خارجها فحسب، وإنما أيضا لدى الكثير من أتباع المذهب الزيدي الذين يرون في استدعاء ذلك النسق التاريخي والتراثي في عصرنا الراهن تقديما ل "الزيدية" في لبوس قاتمة، ثمة مندوحة عن التسربل بها اليوم، لاسيما وأن تاريخ وتراث "الزيدية" أنفسهم لا يخلو من نماذج هي الأولى بالإحياء في عصرنا الراهن.‏
اتفقوا على ما لم يختلفوا فيه!!
ثم إن "الوثيقة" التي أسمت ما توصلت إليه "لجنة الصياغة" بأنه "اتفاق" لم تتضمن ما يمكن أن نعتبره قبلها محل خلاف جوهري بين الموقعين عليها. بل الصحيح أنهم تداعوا على ما هم متفقين فيه أصلا منذ وقت مبكر. وقد سبقت الإشارة في الحلقة الأولى إلى تلاقي فريقي مجدالدين المؤيدي وبدرالدين الحوثي، نظريا وعمليا، على المضامين التي ليست "الوثيقة الفكرية والثقافية" إلا اختصار لها. ومن هنا فإنه ليس من قبيل الاعتباط أو المصادفة أن يكون على رأس الموقعين عليها ابن لبدرالدين الحوثي وآخر لمجدالدين المؤيدي.‏
ومن الجدير بالتأمل أنه إذا كانت الصولة والجولة في منتصف تسعينيات القرن الماضي لمجدالدين المؤيدي إبان الخلاف مع بدرالدين الحوثي، حيث كان يُنظر إلى المؤيدي بوصفه الاسم الأبرز والأكبر بين علماء الزيدية (من الصفات التي أُطلقت عليه: حجة العصر، وكرسي الزيدية..) فإن ابنه حسين مجدالدين المؤيدي يحضر اليوم أمام عبدالملك بدرالدين الحوثي، وللأخير الصولة والجولة، على الرغم من كونه يصغره بما يربو على العقدين من الزمن. وفيما لا يملك ابن مجدالدين ‏"الستيني" ولو يسيرا مما كان عليه والده على مختلف المستويات المعرفية فإنه من المكانة الاجتماعية في مستوى مغمور، بل يكاد يكون - لولا اقتران اسمه بشهرة والده - مجهولا بالكلية. بينما في المقابل نجد ابن بدرالدين "الثلاثيني" الذي هو عبدالملك، وإن كان بينه ومستوى والده المعرفي بعد المشرق والمغرب، إلا أنه في موقع اجتماعي وقيادي وسلطوي ليس هناك الآن في أوساط الزيدية من يضاهيه فيه.‏
التسليم بزعامة عبدالملك الحوثي
يتضح بالتالي أن الاتفاق على "الوثيقة" لا يزيد في جوهره – أو في واحد من أهم معانيه - عن كونه تسليما من فريق مجدالدين المؤيدي، أو لنقل إقرارا، بأن الغلبة من دون ريب لآل بدرالدين الحوثي في شخص ابنه عبدالملك، وأن سلطانه لم يعد مقتصرا على جماعته فقط، بل تعداه ليشمل وارثي مجدالدين المؤيدي وحلفائه وشيعته بعد أن أعيتهم الحيلة، ليس في الحد من نفوذه وسلطته - فهذا ما وصلوا إلى قناعة بخصوص فشلهم حياله منذ وقت مبكر - وإنما الاحتفاظ لأنفسهم ببعض الثقل والحضور.
‏وبعبارة أخرى: فإن جوهر الخلاف بين الفريقين لم يكن - منذ أكثر من عقد من الزمن على الأقل - سوى في تنازع الزعامة والقيادة والسلطة الروحية والمكانة الاجتماعية، بما يعني أن ما كان يحول دون تلاقيهما ليس أن أحدهما يرى أفضلية سلالة معينة يسمونها "أهل البيت" وتختص باصطفاء إلهي يخوّلها وحدها حق الريادة في شئون الدين والدنيا على السواء، وأن الفريق الآخر يرى عكس ذلك.. كلا، فالطرفان في تكريس هذه النزعة "العنصرية" سيّان.‏
‏لعل هذا يكفي على سبيل نفي ما قد يظنه المتابع تناقضا بين ما سبق في الحلقة الأولى من ذهابي إلى أن هذه "الوثيقة الفكرية والثقافية جاءت لتسدل الستار على مرحلة التباينات والخلافات التي كانت، منتصف تسعينيات القرن الماضي، بين فريقي مجدالدين المؤيدي وبدرالدين الحوثي في صعدة" وبين ذهابي هنا إلى أن ‏"الوثيقة" التي قال الموقعون إنهم اتفقوا على ما ورد فيها "لم تتضمن ما يمكن أن نعتبره قبلها محل خلاف جوهري بين الموقعين عليها". ففي طيات ما سبق ما يدرأ التناقض، من خلال ما أرى أنه تحديد لا تنقصه الدقة والموضوعية لمحل الخلاف.‏
لماذا ثنائية (الحوثي-المؤيدي)؟
من المهم التأكيد على أن إصراري على قراءة "الوثيقة" في ضوء ثنائية جماعة بدرالدين الحوثي وفريق مجدالدين المؤيدي له ما يبرره، بل ويعزز من موضوعيته ومصداقيته. وحسبي هنا أن ألفت عناية المتابع إلى إلقاء نظرة على الصفحة الأخيرة من "الوثيقة" التي تحتوي على أسماء الموقعين عليها. ففي الصف الأول من التوقيعات يمكن بوضوح ملاحظة أن الأسماء توزعت على كتلتين منفصلتين عن بعضهما، في الكتلة الأولى التي اتخذت جهة اليمين يظهر عبدالملك بدرالدين الحوثي منفردا وقد كتب فوق اسمه "هذه رؤيتنا وعقيدتنا". بينما في الجهة الثانية - جهة اليسار - تراصّت ثلاثة أسماء ملتصقة ببعض، هي على التوالي: حسين يحيى الحوثي، وعبدالرحمن شايم، وحسين مجدالدين المؤيدي. وهذا التموضع في حد ذاته كافٍ للتدليل على أن "الوثيقة" بين طرفين هما اللذان سبقت الإشارة إليهما، بوصفهما امتدادا لثنائية (الحوثي-المؤيدي).‏
أما مجيء توقيعي (المؤيد والمنصور) أسفل التواقيع السابقة، وحرصهما على إخراج حضورهما في الوثيقة مخرجا خاصا قدّما له بالتأكيد على "أن كلا من المختلفين لا يريد إلا الحق" وقولهما: "وعلم الجميع أن الاختلاف هو فيما لا يمس، ولا يبعد عن، أصول السنة المطهرة ولا القرآن الكريم.." الخ، ففيه إخراج لموقفهما على أنهما ليسا سوى أشبه بشاهدين أو مباركين للاتفاق بين طرفين ليسا – أي المؤيد والمنصور – منهما، وإن كان هذا لا ينفي عنهما التصديق على ما ورد في ‏"الوثيقة" وسريان الاعتقاد بها عليهما، ومن ثم يلزمهما ما لزم الطرفين (المشار إليهما سلفا بفريقي الحوثي-المؤيدي) من احتكار مسمى الزيدية في أشخاص، هما من ضمنهم. وكذلك مصادرة حق الكثير من أبناء الزيدية في الانتساب للمذهب الزيدي (إلا، كما سبقت الإشارة، وفق المحددات "العنصرية" التي استدعتها من نسق تاريخي وتراثي). وهو ما يعني في الوقت نفسه أن انتظار موقف منصف من أي من أولئك الأشخاص الموقعين على تلك "الوثيقة" تجاه المذاهب والفرق والتيارات الإسلامية الأخرى (وأتباعها) لهو شبه مستحيل إن لم يكن مستحيلا، ذلك أن "وثيقة" يزعم أصحابها أنها تضم أبناء "الزيدية" عموما، فيما هي بكل وضوح تصادر حق الكثير من أبناء "الزيدية" في الانتساب للمذهب الزيدي، فإنها من باب أولى ستكون أكثر نفيا للآخر، وإلغائه، والقطع بأنه ليس على شيء.. ‏(والمقصود بالآخر هنا غير "الزيدية" من المذاهب والتيارات الإسلامية).‏
بقي أن أشير في هذا السياق إلى الاسم الأخير في "الوثيقة" وهو (علي بن علي مسعود الرابضي) فهو الوحيد غير الهاشمي من بين الموقعين عليها، وتأتي أهمية حضوره في "الوثيقة" ليس مما يحظى به وسط عدد محدود من الزيدية في صعدة (هم طلابه بالخصوص، وربما في الأوساط القبلية في عزلة "بني مسعود" من مديرية سحار) إذ أنه لم يكن في يوم من الأيام إلا مغردا في سرب العلامة المؤيدي، وبالتالي حسين يحيى الحوثي وأخيه محمد، وأبناء مجدالدين، كما أنه ليس ببعيد من محمد عبدالعظيم الحوثي. ومن هنا فإن أهمية توقيع الرابضي على ‏"الوثيقة" لا تأتي من ثقل يمثله بذاته، وإنما تأتي مما يعنيه حضوره من أنه وطلابه لن يكونوا – كما في السابق – إلى جانب محمد عبدالعظيم الحوثي في الصراع مع جماعة عبدالملك بدرالدين الحوثي. هذا إن لم يكن حضور (الرابضي) في ‏"الوثيقة" كمن ينوب عن محمد عبدالعظيم الحوثي، باعتبار ما هو معروف في أوساط زيدية صعدة من ارتباط للرابضي بالحوثي محمد عبدالعظيم، وكون الأخير - الذي اشتهر عنه ادعاؤه أن ليس هناك من هو أحق بالإمامة منه في هذا العصر - قد استنكف الحضور بنفسه إلى "وثيقة اتفاق" هي في واحد من أبعادها الرئيسية تسليم بسلطة وزعامة عبدالملك بدرالدين الحوثي.‏
خلافٌ (لفظيٌ).. وانتهى!‏
إذا كان ما تقدم واضحا ومفهوما في سياقه فإنه من غير المنطقي أن يتم تجاهل ما يمكن اعتبارها في "الوثيقة" توضيحات لنقاط، يمكن أن يقال أنه كان بين الفريقين خلاف (لفظي) – وليس في المضمون – حول بعض عناوينها. أو بالأصح أراد الطرف الأضعف – حسين مجدالدين المؤيدي ومن هم إلى جانبه - أن يظهروا من خلال إيلائها بعض الذكر كما لو كانت هي الأسباب الحقيقية وراء عدم انضوائهم تحت لواء آل بدرالدين الحوثي منذ نهاية الألفية الثانية ومطلع الألفية الثالثة وتسليمهم لهم بالقيادة من ناحية، وإظهار أن لديهم اشتراطاتهم للوفاق من ناحية أخرى. هذا وإن كان القول باتفاقهم المسبق على مضامين تلك المسائل، وما تستلزمه، وأن لا خلاف جوهري بينهم حولها، مما فاضت أقوالهم وأفعالهم بالدلالة عليه وتأكيده.‏
ولعل من أبرز تلك النقاط تخريج ما كان فريق مجدالدين المؤيدي يأخذونه على حسين بدرالدين الحوثي وجماعته من بعده (بخصوص موقفه من علم الكلام) على أنه من المسائل التي كانت محل خلاف بين الطرفين، وأنهما قد اتفقا اليوم – كما في ‏"الوثيقة" - على أن "ما يقال من النقد على علم الكلام – في إشارة إلى ما كان من حسين بدرالدين – فليس المراد به علم أصول الدين ولا العقائد التي مشى عليها أئمة الآل الطاهرين، وإنما المراد التعمق والأسلوب الذي انتهجه الفلاسفة والمعتزلة وغيرهم وفق منهجيتهم وطريقتهم التي هي مغايرة لطريقة ومنهج أهل البيت عليهم السلام".‏
‏هكذا نصت "الوثيقة"، وكذلك الحال بالنسبة لعلم أصول الفقه، إذ أخرجت ما كان من حسين بدرالدين الحوثي في الترغيب عن الاشتغال به وذمه، على أنه ما كان من أصول الفقه "مخالفا للقرآن الكريم أو بدلا عن آل محمد"، إذ ما كان كذلك فإنه كما نصت "الوثيقة" أيضا:"مرفوض ومنتقد من الجميع" (أي ليس من حسين بدرالدين لوحده وإنما أيضا من الموقعين على الوثيقة الذين يتوسعون بلفظ "الجميع" قاصدين "الزيدية" عموما!!). وتضيف "الوثيقة" عن أصول الفقه: أما "ما كان منه موافقا للقرآن ويستعان به على فهم النصوص الشرعية في إطار آل محمد "..." فهو مقبول معتمد لا اعتراض عليه ولا إشكال".‏
‏وغير بعيد من ذلك ما نصت عليه "الوثيقة" بشأن السنة النبوية من "أنها مرتبطة بالهداة من آل محمد كأمناء عليها في اعتماد الصحيح من غيره، وهذا فيما نسب إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن متواترا، ولا مجمعا عليه". وأيضا ما نصت عليه - "الوثيقة" - من أن "ما قد يقع من النقد للعلماء لا يقصد به علماء أهل بيت رسول الله وشيعتهم العاملين ولا علومهم..". إلى ما هنالك من نقاط ينطوي ما سيق في "الوثيقة" بشأنها على توضيحات أراد الموقعون عليها جلاء ما كان من ريب لدى البعض منهم بخصوص مقولات حسين بدرالدين الحوثي حيالها. وسوف نتوقف لاحقا – في غير هذه الحلقة - عند كل جزئية من تلك المسائل بالقراءة والتحليل والنقد.‏
الوثيقة و"جبرية" معاوية
إن تمثيل "الوثيقة الفكرية والثقافية" لعموم أبناء المذهب الزيدي مما لا يمكن التسليم به. أما لماذا؟ فلأن صدق تمثيلها لعمومهم اليوم يتوقف على استيعابها لكل التيارات والمدارس والنظريات التي تكوّنت ضمن دائرة "الزيدية" بأنساق متعددة، لم ينف تباينها عن بعضها البعض إمكانية تلاقيها في ذلك العنوان العام. ومع التأكيد على أن من النظريات والتيارات والمدارس التي تكوّنت تاريخيا في إطار مسمى ‏"الزيدية" لم يزل للكثير منها امتداد حتى اليوم – وبالتالي أنصار وتابعون - فإن تجاهل الوثيقة لتلك التيارات، واختزالها "الزيدية" في نسق فكري تاريخي وتراثي واحد، يعني تجاهل البقية ونفيهم وإلغائهم. وهو نفي بقدر ما يرضي هوس أصحاب الوثيقة في إقصاء من لا يذهب مذهبهم ويقول بقولهم، إلا أنه لا يعدو حكما جائرا هم أعجز عن إثبات صحته واستقامته.‏
وهكذا يمكن القول إن ثمة رابط بين مجيء "الوثيقة" على ما هي عليه من مثالب ومعايب وبين اختصارها ل "الزيدية" في فريقي (الحوثي-المؤيدي) واختزالها الفكر الزيدي في نسق تاريخي وتراثي واحد ووحيد، واستبعادها ما عداه. فلو اتسعت "الوثيقة" لمختلف تيارات الفكر الزيدي، وضمت لجنة صياغتها ممثلين عن تلك التيارات مجتمعة – لاسيما التي لها امتداد على مستوى الأتباع إلى اليوم – لأمكن إلى حد كبير أن تأتي متخففة من أثقال "العنصرية" التي اختصت سلالة يسمونها "أهل البيت" بالسلطة "الإلهية" المطلقة، ك"قرناء للكتاب"!! لا يصح أخذ الدين إلا عنهم!! ولا تصلح الإمامة والزعامة إلا فيهم!!‏
أما وقد جاءت "الوثيقة" على طريقة الذين قالوا من قبل: ‎}‎نحن أبناء الله وأحباؤه‎{‎‏(1) فإن السلطة المطلقة ل"سلالة"، يزعم هؤلاء باسم "أهل البيت" أن الله اختصهم بها، لا تعدو الصدور عن "الجبرية" التي اشتغل عليها معاوية بن أبي سفيان منذ أمد بعيد، قائلا إن اعتلاءه سدة الحكم "إنما كان "بقضاء الله وقدره" وبالتالي فالله هو الذي قضى "بسابق علمه" أن يتولى الأمويون الحكم "..." وقد ردد عماله هذه الفكرة نفسها، ومنهم زياد بن أبيه في خطبته المشهورة ب "البتراء" التي قال فيها: "أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا..". وخطب معاوية أمام معارضي تولية ابنه يزيد وليا للعهد فكان مما قاله: "وإن أمر يزيد قد كان قضاء من الله وليس للعباد خيرة في أمرهم".(2)‏
استثمار العاطفة الدينية
الدلالة الإحصائية (الكمية) في استحضار "الوثيقة" قرابة العشرين مرة لمصطلح "أهل البيت" بهذه الصيغة غالبا- ونادرا بأخرى مثل "آل محمد" و"الآل" ‏– تكشف عن تعاطي (براغماتي) يقصد الموقعون على "الوثيقة" من خلال الاشتغال على مصطلح "أهل البيت" استثمار العاطفة الدينية المفعمة بحب محمد ‏(ص) وأهل بيته، في تراتبية تحيل إلى أشخاص "الوثيقة" وما انتهوا إليه فيها، على أنهم - هم أنفسهم - "أهل البيت" وأن حبهم من حب النبي (ص) وطاعتهم من طاعته.‏
إن هذا الاشتغال الذي يعتمد التهويل والترهيب سبيلا للاستحكام على العاطفة الدينية، لاسيما في أوساط العامة والبسطاء، يخلط عن عمد بين ما هو مطلوب لأهل بيت النبي (ص) من مودة، هي ذاتها ما يجب على المسلمين كافة تجاه بعضهم البعض، وبين (التمييز) على أساس عرقي، يقسم الناس إلى قسمين: الأول (متبوع) ب (الضرورة الدينية!!) لا على أساس مؤهلات اكتسبها وإنما مزية (فطرية!!) اختصه الله بها، والثاني (تابع) لا يمكن له أن يكون إلا تابعا (بالضرورة الدينية ذاتها!!) حتى وإن اكتسب كل المؤهلات، ما عدا انتسابه إلى (سلالة) معينة!!‏
وعلى الرغم من أن الاعتقاد بمثل هكذا (ضرورة دينية) التي يعبّرون عنها ب ‏(الاصطفاء) لهو أمر يصطدم، أول ما يصطدم، بقانون العدل الإلهي، والضرورة العقلية، فضلا عن أنه يصطدم بالمعلوم من الشرع بالضرورة أيضا، إلا إنه لم يعدم من يتخذه عقيدة، لم يزل الذي أرضت، هذه العقيدة، هوس"العنصرية" والاستعلاء لديه مولعا بها مدافعا عنها، كما لم يزل الذي استمرأ، في ظل هذه العقيدة، اعتبار ذاته "منقوص الأهلية والكفاءة" مغرما بها ومفتونا فيها، على قاعدة أن "من الحب ما قتل".‏
‏"أهل البيت".. من، ولماذا؟
قبل الخوض في نقد مقولة (الاصطفاء الإلهي) سالفة الذكر، يُستحسن الوقوف أولا على مدى انضباطية مصطلح (أهل البيت) ومدى إحالته إلى محدد معلوم لا يطاله التنازع. ثم بعد ذلك ما إذا كان للانتساب إلى آل بيت النبي (ص) ميزة وأفضلية دينية، على طريقة وراثة موقعه (ص)، واحتكار حق فهم دينه، ورئاسة وسياسة أتباعه، وما إلى ذلك مما تزخر به "الوثيقة الفكرية والثقافية" من مزاعم.‏
لقد "أثيرت خلافات كثيرة حول مدلول لفظ "أهل البيت" لاسيما في قوله تعالى: ‎}‎إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا‎{‎‏(3) وأشهر ما قيل في ذلك: أن المقصود رسول الله "ص" وعلي وفاطمة والحسن والحسين "رض" وهم الخمسة أهل الكساء. أو أن المقصود الخمسة أهل الكساء ومن تناسل من أولاد الحسن والحسين. أو أن المقصود نساء النبي "ص". أو أن المقصود الأمة المرسل إليها. فهنالك من يؤكد المعنى الأول والثاني ويحتج له بحديث الكساء وغيره من الأدلة. ويتحمس للقول الثالث جماعة، حتى أن بعضهم كان يقول: من شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي "ص". ونال القول (الأخير) بعض الرواج، وفي ذلك يقول أنصاره: آل النبي هم أتباع ملته، من الأعاجم والسودان والعرب".(4)‏
‏وفي الآية السابقة "تتنازع المعنى قرينتان، الأولى قرينة السياق الدالة على أن المقصود نساء النبي "ص". والثانية قرينة تحويل الخطاب باستبدال ضمير خطاب جماعة النسوة إلى ضمير خطاب جماعة الذكور".(5) وهنا أرى أن تحوّل الخطاب إلى الذكور مع أن السياق للإناث يشي باشتمال مصطلح"أهل البيت" الوارد في الآية على ذكور وإناث، ذلك أن لغة النص الديني – بطابعها الذكوري، وهو مبحث ليس هنا مكانه – تدعم استخدام ما يفيد (التذكير) في حال الحديث ليس عن الذكور وحدهم فحسب، وإنما أيضا إذا كان معهم نسوة ولو كنّ أكثر. في حين يقتصر الخطاب بما يفيد (التأنيث) على الحديث عن إناث لوحدهن.‏
كما القول في "الهدى"‏
وسواء كان المقصود ب "أهل البيت" في الآية نساء النبي "ص"، أو هن ‏"رض" بالإضافة إلى من عُرفوا ب "الخمسة الكساء"، أو هؤلاء الأخيرين سواء لوحدهم أو معهم أيضا من تناسل من أولاد الحسن والحسين، فإن الحديث عن ‏(التطهير وإذهاب الرجس عنهم) الذي قال الله إنه يريده لهم، يتخذ أحد أمرين: الأول إما أن الله يريد بحيث لا يتخلف ما يريده عن التحقق كما يريده، وهنا فإن تطهيره لهم وإذهابه الرجس عنهم لا يعدو إما أن يكون باكتساب وعمل منهم، استحقوا لأجله التطهير وإذهاب الرجس، وجاء ما تحقق لهم كما يريده الله منهم في ضوء الملكات الفطرية (التكوينية) التي ليسوا وحدهم من يملكونها، ، وهنا فالعدل يقضي بتساوي الملكات الفطرية للصلاح وقابلية التطهر، بحيث يكون الفضل من عدمه معقودا بمدى الاشتغال عليها والتكسب بها في الاتجاه الصحيح، أو العكس. وإما أن تحقيق مراد الله فيهم بالتطهير وذهاب الرجس لم يكن لهم دور فيه، وإنما خاصية اختصهم الله بها خارج ملكاتهم الفطرية، وهنا فلا فضل لهم فيها، بل إن مقاربة هكذا قول قياسا إلى مبدأ (العدل الإلهي) مبعث تساؤلات لا تنتهي.‏
وأما الأمر الثاني فهو أن ما يحيل إليه مضمون الآية - من أن الله إنما يريد إذهاب الرجس عن أهل البيت وتطهيرهم – فهو كما في مقتضى إرادته من الهداية لعموم البشر، وهنا فالمسألة لا تعدو إخبارا له في القرآن ما يضارعه. بما يعني إن إثبات "أهل البيت" - مهما كانوا – لاكتساب التطهير واستحقاق ذهاب الرجس عنهم، هو مدار التفضيل، الذي يتوقف على ما يقومون به ويجتهدون فيه، تماما كما هو حال سائر المؤمنين في إثبات أنهم أهل لهداية الله. فهذه من تلك، وما يقال في الثانية يصدق على الأولى بكل ما يرتبط بها ويدور في فلكها، ومن ذلك مقولة ‏"الاصطفاء". ولا بأس هنا أن نستحضر ما قاله الإمام الهادي يحيى بن الحسين في معنى "الهدى" ف "الهدى هديان، هدى مبتدأ، وهدى مكافأة، فأما الهدى المبتدأ فقد هدى الله به البر والفاجر، وهو العقل والرسول والكتاب "..." والهدى الثاني: جزاء على عمله ومكافأة على فعله، كما قال عز وجل: ‎}‎والذين اهتدوا زادهم هدى‎{‎‏(6)، وقال: ‎}‎ويزيد الله الذين اهتدوا هدى‎{‎‏(7).(8)‏
حاسة "أهل البيت"!!‏
مهما كان "أهل البيت" إذن فإن دعوى اختصاصهم بأفضلية "دينية" واصطفاء ‏"إلهي" يجعلهم في مرتبة يتمايزون بها عن غيرهم في الحقوق والواجبات، لهو مما لا يستقيم بأي حال من الأحوال. ففضلا عن كون مزاعم كتلك مما يفت في عضد العدل الإلهي، القائم على المساواة، واعتبار الكفاءة (العلمية والعملية) هي مدار التفاضل والتفضيل، ‎}‎إن أكرمكم عند الله أتقاكم‎{‎‏(9)، وليس العرق أو النسب، فإن الشواهد على امتداد التاريخ وصولا إلى واقعنا اليوم تؤكد على أن ربط الهداية المستمدة من القرآن الحكيم وسنة النبي الكريم "ص" بضرورة مرورها عن طريق من يسمونهم "أهل البيت" الذين هم كما يزعمون "قرناء الكتاب" ليس على شيء من المنطق. إذ ما الشيء الذي يضيفه العرق أو النسب لملكات الفهم والعلم والعقل والتفكير؟! اللهم لا شيء على الإطلاق، وتفوُّق من ليسوا على صلة بهذه السلالة، في شتى المجالات، معلوم بالضرورة.
وليس يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل
وإذا أخذنا بسريان مصطلح "أهل البيت" على سلالة الحسن والحسين "رض" ‏– وهي تسمية، من ناحية استحقاق فضل أو كفاءة، لا تقدّم ولا تؤخّر - فهاهو الإمام القاسم بن محمد (10) يورد عن الإمام زيد بن علي "رض" قوله: "إنما نحن مثل الناس، منا المخطئ ومنا المصيب، فسائلونا ولا تقبلوا منا إلا ما وافق كتاب الله وسنة نبيه "ص"".(11) وبالتالي فإن ما كرّسته "الوثيقة" من حاكمية "أهل البيت" وأنهم مرجعية فهم القرآن الكريم والسنة المطهرة، أمر لا قيمة له، ذلك أن ‏"أهل البيت" في ما يذهبون إليه – شأنهم شأن غيرهم – معرضون للخطأ والزلل، ومن ثم فإن القطعي في دلالته من القرآن الكريم، وقطعي الثبوت والدلالة من السنة المطهرة، هو الحاكم على "أهل البيت" وغير "أهل البيت".‏
ويصدق ذلك أيضا - على سبيل المثال – على ما قالته "الوثيقة" عن ما هو من السنة منسوب "إلى الرسول "ص" ولم يكن متواترا ولا مجمعا عليه"، وذهابها ‏– أي الوثيقة - إلى أن هذه السنة "مرتبطة بالهداة من آل محمد كأمناء عليها في اعتماد الصحيح من غيره" فإن هذا الكلام مجرد ادعاءات باطلة، وإنما الحاكم على ذلك النوع من "السنة" هي المرجعيات الكلية للإسلام في ضوء قطعي الدلالة من القرآن الكريم، وقطعي الثبوت والدلالة من السنة المطهرة أيضا. والمؤكد أن ‏"الانتساب" إلى سلالة ما – بما في ذلك أهل البيت - لا يعطي صاحبه ميزة يدرك بها الصحيح من الباطل، إلا إذا أضفنا حاسة أخرى لدى سلالة من البشر، اسمها ‏"حاسة النسب"!! ولا أحسب أن عاقلا في الدنيا يمكنه استساغة وجود ما يمكن وصفها ب "حاسة أهل البيت!!" حتى وإن استساغ "الحاسة السادسة"..‏
‏...........
الهوامش والمراجع
‏‏1-‏ سورة المائدة، آية 18.‏
2-‏ د. محمد عابد الجابري، الدين والدولة وتطبيق الشريعة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، فبراير 1996، ص 83.‏
3-‏ سورة الأحزاب، الآية 33.‏
4-‏ محمد يحيى عزان، الإمام زيد بن علي شعلة في ليل الاستبداد، دار الحكمة اليمانية، صنعاء، ط1، 1999، ص 68 – 69.‏
5-‏ المرجع السابق، ص 69 – 70.‏
6-‏ سورة محمد، الآية 17.‏
7-‏ سورة مريم، الآية 76.‏
8-‏ د. علي محمد زيد، معتزلة اليمن: دولة الهادي وفكره، مركز الدراسات والبحوث اليمني - صنعاء، ودار العودة – بيروت، ط1، 1981، ص ‏150. وانظر: مجموع كتب ورسائل الإمام الهادي (المجموعة الفاخرة) بتحقيق: علي أحمد الرازحي، دار الحكمة اليمانية، صنعاء، ط1، ‏2000، ص 96.‏
9- سورة الحجرات، آية 13.‏
10-‏ في كتابه: الإرشاد إلى سبيل الرشاد، بتحقيق محمد يحيى عزان.‏
11-‏ محمد يحيى عزان، مرجع سابق، ص 72 – 73.‏
****
في نقد "الوثيقة الفكرية والثقافية"..‏
خرافة اسمها «أهل البيت»!!‏
‏ترتبط السنة «بالهداة من آل محمد كأمناء عليها في اعتماد الصحيح من غيره». أما أصول الفقه فما كان منه «بدلا عن آل محمد فهو مرفوض ومنتقد من الجميع!!». وكذلك الحال بالنسبة للاجتهاد، إذ ما كان منه يؤدي «إلى مخالفة نهج الآل الأكرمين "..." فهو اجتهاد مرفوض لا نقره ولا نرضاه». «أما ما يقال من النقد على علم الكلام فليس المراد به "..." العقائد التي مشى عليها الآل الطاهرين». وأيضا ف «ما قد يقع من النقد للعلماء لا يُقصد به علماء آل بيت رسول الله وشيعتهم العاملين ولا علومهم». وقبل ذلك كله وخلاله وبعده فإن «عترة رسول الله» هم «هداة الأمة وقرناء الكتاب إلى يوم التناد "..." وهم حجج الله في أرضه»!!‏
ذلك بعض ما جاء في «الوثيقة الفكرية والثقافية» التي قال عبدالملك الحوثي إنها تمثل رؤيتهم وعقيدتهم.. هذه «الوثيقة» التي لم تترك شيئا إلا وربطته بمن تسميهم (أهل البيت)، فهم قرناء الكتاب، وهداة الأمة، وحجج الله في أرضه. و(السنة) مرتبطة بهم، وهم أمناء عليها، فما رأوه منها صحيحا فهو الصحيح، وما رأوه غير ذلك فليس لنا إلا ما قالوا واختاروا. ولا حاجة ل ‏(أصول الفقه) إن كانت ستحل بدلا عنهم، ولا (اجتهاد) إن كان سيؤدي إلى مخالفتهم. كما أنهم ليسوا محل نقد، لأن الله «اصطفاهم "..." فجعلهم هداة للأمة وورثة للكتاب من بعد رسول الله إلى أن تقوم الساعة»!!‏
عباقرة وأغبياء بالفطرة!!‏
هكذا هو (دين الله) في عرف أصحاب الوثيقة: (سلالة) اصطفاها الله وميزها عن غيرها من البشر، وأودعها سره، وأوكلها القيام بأمره، واختصها وحدها بفهم القرآن الكريم وإدراك صحيح السنة المطهرة واستنباط الأحكام.. وما على البقية - إن أرادوا السلامة والفوز بالجنة والنجاة من النار - إلا إعلان السمع والطاعة لتلك (السلالة) وأخذ الدين عنها، وعدم مخالفتها في شيء.. يعني باختصار أن هناك صنفين من البشر: الصنف الأول أنصاف آلهة يمثلون الله في الأرض، ويقررون ما الذي يريده وما الذي لا يريده. (ومن ثم فإنهم فوق النقد، وليسوا عرضة للتشكيك، لما لهم من صلة خاصة بالله).. والصنف الثاني بشر من طين، ليس لهم من أمرهم إلا ما يقرره أنصاف الآلهة.‏ أو بعبارة أخرى: أن ما في الكون من ذكاء وفهم ووعي وفطنة ونبوغ وعبقرية.. (سواء في ما يختص بالتميّز في الشأن الديني أو التميّز في الشأن الدنيوي) كلها صفات قد جُمِعَت في سلالة، يتوارثها أبناؤها باصطفاءٍ إلهي وقَدَرٍ سماوي. وأن ما عدا هذه السلالة – وهم السواد الأعظم من البشر – ليسوا سوى قطيع من الأغبياء الذين ليس لهم (من الله) ما يؤهلهم، لا لفهم الدين، ولا لتعمير الدنيا..، ومن ثم فإنه لا خيار أمامهم إلا اتّباع (السلالة) التي تتوارث العبقرية كابرا عن كابر، والانقياد لها.‏
إن مخالفة ذلك المستوى من (التمييز العنصري) الذي تقرره «الوثيقة الفكرية والثقافية» للمعلوم من العقل بالضرورة – وكذلك المعلوم من الدين بالضرورة – مما لا يحتاج إلى دليل.. فإذا كانت (المساواة) في الإسلام هي التي جعلت منه قبلة التواقين إلى العدل والحرية، الطامعين في مجتمع يحتكم فيه الجميع إلى معايير الكفاءة والصلاح والإصلاح، فكيف يمكن لعاقل عادل أن يستسيغ ممارسة التمييز على أساس (النسب)، وباسم (الإسلام) الذي لا يقيم لغير (التقوى) أي وزن؟!‏
«يقرر القرآن المساواة بين الناس في آية شهيرة محكمة واضحة قاطعة هي قوله تعالى: {يا أيها الناس إن خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم}.[1] ويصرف المفسرون معنى (المساواة) في هذه الآية إلى نفي التفاوت والتفاضل في الأنساب»[2] الذي كان ديدن عرب الجاهلية ومحور اشتغالهم، بما يعني سريانها على كل صنوف التفاخر والتفاضل، ابتداء بما كان قائما حين نزولها، وما هو في حكمه من التفاخر باللون والمنطقة واللسان..‏ «يقول الزمخشري في معنى قوله تعالى {من ذكر وأنثى} ما يلي: "من آدم وحواء، وقيل خلقنا كل واحد منكم من أب وأم، فما منكم أحد إلا وهو يُدْلِي بمثل ما يدلي به الآخر، سواء بسواء، فلا وجه للتفاخر والتفاضل في النسب". أما بصدد قوله تعالى: {شعوبا وقبائل لتعارفوا} فكتب الزمخشري قائلا: "والمعنى أن الحكمة التي من أجلها رتبتم على شعوب وقبائل هي أن يعرف بعضكم نَسَبَ بعض فلا يَمْتَزِي إلى غير آبائه، لا أن تتفاخروا بالآباء والأجداد، وتدَّعوا التفاوت والتفاضل في الأنساب". ثم يضيف بصدد "إلا التقوى" قائلا: "ثم بَيَّنَ الخصلة التي بها يفضل الإنسان غيره ويكتسب الشرف والكرم عند الله فقال: {إن أكرمكم عند الله اتقاكم}.. لا أنسابكم". والتقوى هي العمل الصالح..».[3]‏
هؤلاء أكثر حمَلَة العلم
وابن خلدون الذي يذهب إلى أن النسب «أمر وهمي لا حقيقة له»[4] قاصِراً فائدته فيما يترتب عليه ادعاؤه من «الوُصْلَة والالتحام» يُعرِّج في مقدمته الشهيرة على ظاهرةٍ ما كان له أن يقول بها إلا عن تَتبُّع واستقراء، وليس جزافا. وهذه الظاهرة - التي لا يخلو اقتباس بعض ما قاله ابن خلدون بشأنها من إضاءة لما نحن بصدده - هي تأكيده على أن أكثر حملة العلم في الإسلام ‏(في حقبة زمنية بعينها) هم العجم.‏
يقول ابن خلدون: «من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم، لا من العلوم الشرعية ولا من العلوم العقلية، إلا في القليل النادر، وإن كان منهم العربي في نسبته فهو عجمي في لغته ومَرْبَاه ومَشْيَخَته، مع أن الملة عربية وصاحب شريعتها عربي..».[5]‏ ثم بعد أن يُورد ما يراها أسبابا وراء ذلك – مما لا يتسع المقام لذكرها هنا – يضيف: «.. فكان صاحب صناعة النحو سيبويه، والفارسي من بعده، والزجاج من بعدهما، وكلهم عجم في أنسابهم، وإنما رُبُوا في اللسان العربي فاكتسبوه بالمَرْبَى ومخالطة العرب، وصَيَّروه قوانينَ وفنّاً لمن بعدهم. وكذا حملة الحديث الذين حفظوه عن أهل الإسلام أكثرهم عجم، أو مستعجِمون باللغة والمربى. وكان علماء أصول الفقه كلهم عجما كما يُعرف، وكذا حملة علم الكلام، وكذا أكثر المفسرين. ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم..».[6]‏
هذا عن العلوم الشرعية.. «.. وأما العلوم العقلية أيضا – يضيف ابن خلدون – فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تَميَّز حَمَلة العلم ومؤلفوه، واسْتقرَّ العلم كله صِنَاعَةً فاخْتُصَّت بالعجم، وتركتها العرب وانصرفوا عن انتحالها، فلم يحملها إلا المُعَرِّبون من العجم شأن الصنائع..»[7].. وإذا كان بعض ما أورده ابن خلدون (عن حقبة زمنية بعينها) مثالاً على ما هو معلوم من العقل بالضرورة من أن اكتساب العلم والمعرفة، وتحقيق النبوغ والتفوّق فيهما، أمور لا علاقة لها ب (النسب) أو ‏(العرق) أو (اللون).. بقدر ما المعيار فيها هو انصراف الهمة وتوجيه الجهد والسعي الجاد والدءوب والمخلص، وما هو في حكمها من الملكات المكتسبة، فإن جريان الواقع المعيش بما يجعل من مقولة (الأفضلية العلمية والعملية) في الشأن الديني، كما الدنيوي، على أساس (النسب) مقولة باطلة ومتهافتة عقلاً؛ لهو من المسائل اليقينية القطعية، التي لا يكتسب من يُشكِّكُ فيها إلا شهادته على نفسه إما باختلال عقله، أو ارتمائه في أحضان (العنصرية) عن سبق إصرار وترصّد.‏
أما تهافت مقولة (الأفضلية على أساس النسب، وما في حكمه) وبطلانها شرعا، فليس أدل على ذلك من اعتراضها مبدأ العدل الإلهي الذي قضى ب (المساواة) بين البشر، وقرر أن ‏(التقوى) وحدها هي مدار الفضل والتفضيل عند الله عز وجل. ف «ليس في القرآن ولا في الحديث – أي الصحيح منه – ما يمس مبدأ المساواة القائم على {إن أكرمكم عند الله اتقاكم}. والتصريح في القرآن بتفضيل الله لبعض الناس على بعض ليس إقرارا للتفاوت وتكريسا له، وإنما هو وصف لواقع هو نتيجة عمل الإنسان، سواء تعلق الأمر بالأعمال التي تُورِث الفضل في الآخرة، أم بالتي ينتج منها التميز في الدنيا بالمال أو بغيره. والمبدأ القرآني الذي يحكم هذه المسألة هو قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}[8] وقوله: {ومن يُرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين}.[9].[10]‏
من هم «أهل البيت»؟
الاعتراض الذي سَيُواجِه به الموقِّعون على «الوثيقة الفكرية والثقافية» ما تَقدَّم من نقد لبعض ما جاء فيها، هو اعتبارهم أن هذا النقد صادِرٌ من غير (أهل البيت)، وما كان صادرا من غير ‏(أهل البيت) فلا قيمة له، حسب «الوثيقة» التي قرَّرَتْ أيضا أن من تسميهم (أهل البيت) ليسوا محل نقد على الإطلاق. أي أنهم (بزعمهم أن الحق يدور معهم حيث داروا، وأنهم لا يأتون خطأ يمكن أن يطالهم النقد بسببه) قد قطعوا الطريق أمام مجرد التفكير – من أيٍ كان - في الاعتراض عليهم، أو تخطئتهم، أو انتقادهم. وتلك لعمري (عِصْمَة) لم يزعم امتلاكها حتى الأنبياء "ع" فكيف يجرؤ أمثال هؤلاء على المجاهرة في «وثيقتهم» بهكذا دعوى؟!‏
وعلى سبيل المحاجَّة، ومن باب إقامة الدليل، سنجاري أصحاب «الوثيقة» بخصوص ما تضمنته عن (أهل البيت).. وعليه فإن السؤال عن (من هم أهل البيت؟) سيكشف بدوره أن مزاعم ‏(التفضيل والعصمة والاصطفاء الإلهي) لهذه ال (سلالة) مما لا يستقيم بأي حال من الأحوال.‏
لا يخلو هذا (التفضيل والاصطفاء) لمن يسمونهم (أهل البيت) إما أن يكون لأشخاصهم: ‏(سبب خَلْقِي تكويني جُبِلوا عليه)، أو أن يكون لطريقة ومنهج ساروا عليه: (فِعْل مُكْتسَب)، أو أن يكون للاثنين معاً. فإن كان لأشخاصهم فإنه سيستوي فيهم البر والفاجر، والمسلم وغير المسلم..، وهذا ما لا يمكن لأصحاب «الوثيقة» - ومن يرى رأيهم - التسليم به. وإن كان ‏(التفضيل والاصطفاء) ل (أهل البيت) لطريقة ساروا عليها ومنهج اتبعوه فإن مشاركة غيرهم لهم في السير على تلك الطريقة وذلك المنهج يجعلهم شركاء لهم في (التفضيل والاصطفاء) وبالتالي في مسمّى (أهل البيت)، وإن لم يكونوا على صلة بتلك (السلالة) وانتماءٍ إليها. وهذا ما لا يمكن لأصحاب «الوثيقة» ومن يرى رأيهم التسليم به أيضا.‏
بقي أن (التفضيل والاصطفاء) ل (أهل البيت) بسبب أنهم (أهل البيت) وزيادة. أي بسبب الانتماء السلالي (النسب) الذي وجدوا أنفسهم عليه بفعلٍ (إلهي) لا دخل لهم فيه. ولكن ليس بسبب ‏(النسب) لوحده – الذي لم يُخَيَّروا في أن يكونوا عليه أم لا – وإنما ل (النسب) الذي هو (خاصية فطرية)، بالإضافة إلى منهجٍ في العلم والعمل ساروا عليه، أي: (خاصية مكتسبة). وهذا القول الثالث - وإن كان لا يستقيم كما سنرى لاحقا - يلاقي هوى لدى أصحاب «الوثيقة» ومن يرى رأيهم، أما لماذا يأخذون به؟ فلأنه يمنحهم الخلاص من تبعات الأخذ بالقول الأول منفردا، وما يستلزمه من سريان مسمى (أهل البيت) على الفاجر وغير المسلم طالما وهو ينتسب لهذه ‏(السلالة). كما أنه في الوقت نفسه يمنحهم الخلاص من تبعات الأخذ بالقول الثاني منفردا، وما يستلزمه من سريان مسمى (أهل البيت) على من لا ينتمون من حيث النسب إلى (السلالة) طالما وهم يشاركونهم الطريقة والمنهج.‏
أما أن هذا القول – الثالث – لا يستقيم، فذلك لأن من يُسَمُّونَهم (أهل البيت) الذين هم – حسب «الوثيقة» – ذرية الحسن والحسين "رض" قد توزعوا على طرائق ومناهج شتى، في مختلف المذاهب والفرق الإسلامية، ومعلوم بالضرورة أن بين المذاهب والفرق الإسلامية اختلافات وتباينات، منها ما يصل - بين بعضها – درجة الفروق الجوهرية، التي استلزمت (ولم تزل) قيام بعض أتباعها بتسفيه[11] بعضهم البعض. بما يعني أن مَنْ هُمْ مِنْ (أهل البيت) في هذا المذهب لا يُقرُّون لِمَنْ هُمْ مِنْ (أهل البيت) في المذهب الآخر.. وهكذا..‏ ونحن وإن كنا هنا لا نشير إلى صراع المذهبيات الإسلامية، وما يعتمل بين أتباعها من ‏(تسفيه) بعضهم لبعض، إلا على سبيل الإخبار فقط، فإن السؤال هو طالما أن (أهل البيت) توزَّعوا على مذاهب وفرق لا يُقِرّ كل منها ما عليه الآخر، فما الذي يجعل (أهل البيت) في هذا المذهب أو تلك الفرقة (أكانت من فرق الشيعة أو السنة أو المعتزلة..) هم الذين قالت «الوثيقة» إنهم «قرناء الكتاب وورثته، وهداة الأمة وولاتها، وحجج الله في أرضه، الذين أمر الله بطاعتهم..» وليسوا (أهل البيت) في المذهب الآخر، أو المذاهب الأخرى؟!‏
ما الحاجة – إذاً – إليهم؟!‏
لقد تَوَّزَع (أهل البيت) على اختلاف مذاهب الشيعة (زيدية وجعفرية وإسماعيلية) وكذلك على اختلاف مذاهب أهل السنة، والصوفية، وسواها.. بل إن (الزيدية) في حد ذاتها، ب (أهل البيت) الذين ينضوون تحتها، تضم تيارات بينها وبين بعضها خلاف وتباين (بخصوص ما سردته ‏«الوثيقة» على أنها عقائد «أهل البيت» ومنهجهم).. فعلى أي أساس امتاز فريق من (أهل البيت) بخاصية التفضيل والاصطفاء والاقتران بالكتاب دون غيره؟!‏
إن قالوا إن المعيار هو الكثرة، إذ حيث ما اشتهر أن (أهل البيت) في فريقٍ ما هم الأكثر من ‏(أهل البيت) في هذا الفريق أو ذاك، فسيكون الحق معهم. قيل لهم: إن الكثرة لا تصح معيارا للأفضلية، إذ عُرف عن القرآن الكريم ذمّه للكثرة، ومّدْحه للقلة، وفي ذلك يقول الإمام زيد بن علي: «.. إن أناساً من هذه الأمة يتكلمون في الجماعة ويزعمون أنهم أهل الكثرة، وأنهم حجة الله على أهل القلة من الناس، وأن القليلين من هذه الأمة هم أهل البدع والضلالة، وإنا سمعنا الله تبارك وتعالى وتقدست أسماؤه وعلا نوره وظهرت حجته قال – فيما نزل من وحيه الناطق الصادق على محمد عبده ورسوله "ص" بخبر الأمم الماضية مثل: أمة نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى ومحمد "ع"، وهم أولو العزم من الرسل، وغير أهل الكُتُب – إن أهل الحق والجماعة وأتباع الرسل أهل القلة، وإن أهل البدع والضلالة هم الأكثرون، وإنا سمعنا الله جل اسمه يثني على أهل القلة ويمدحهم، ويذم أهل الكثرة ويُجَهِّلُهُم ويُسَفِّهُهُم ويُكَذِّبُهم ويُضَللهم، وينهى عباده الصالحين عن اتباعهم والاقتداء بهم والأخذ بمقالهم».[12]‏
فإن قيل إن المعيار هو القِلَّة، إذ حيث ما اشتهر أن (أهل البيت) في فريقٍ ما هم الأقَلّ من ‏(أهل البيت) في هذا الفريق أو ذاك، فسيكون الحق معهم. قيل لهم: إن تحديد مذهب أو فرقة بعينها على أنها أقل اشتمالا على (أهل البيت) – فضلا عن كونه متعذرا – فإنه يستبعد في المقام الأول (الجعفرية والزيدية وبعض مذاهب السنة من حيث غلبة الظن على أن «أهل البيت» فيها أكثر من غيرها) وهذا ما لا يمكن لهم التسليم به.‏
لم يبق إذن إلا القول بأن معيار استحقاق (أهل البيت) في هذا الفريق دون غيره لمقولة أنهم: ‏«قرناء الكتاب وورثته، وهداة الأمة وولاتها..» هو امتياز منهجهم عن مناهج غيرهم - ممن يشاركونهم مسمى (أهل البيت) وسواهم - بالصدور عن مقاصد الإسلام. وتمييز أن (أهل البيت) في هذا الفريق هم أوثق في الصدور عن مقاصد الإسلام من (أهل البيت) في الفريق الآخر – بل وغير أهل البيت – لا يكون إلا من مُكَلَّفٍ عاقلٍ يمتلك القدرة على التمحيص والنقد والمراجعة، حتى يدرك أن هذا الفريق هو الأوفر حظا (بالنسبة للصدور عن مقاصد الإسلام الكلية) من غيره من الفِرَق. والمؤكد أنه طالما والمُكَلَّف العاقل هو المعني بإدراك مَنْ مِن الفِرَق والمذاهب الإسلامية - التي توَزَّع عليها (أهل البيت) – هو الأصْوَب والأولى بالاتِّباع، فهذا يعني، بلا شك، أن هذا المُكَلَّف العاقل على قدرةٍ تامة لاستيعاب وإدراك مقاصد الدين من خلال إعمال النظر في مصادره، وإلا كيف أمكن له تمييز أن الحق مع هذا الفريق وليس الآخر. وعلى هذا الأساس فإن اتِّجَاهَ المُكَلَّف العاقل لاستمداد دينه بعيداً عن الارتهان لأية سلطة – سلالية أو أيّاً كانت – هو ما يقضي به العقل والمنطق، إذ ما حاجته – أي المُكَلَّف العاقل - إلى استمداد دينه عن أشخاص ‏(سلالة أو مذهب أو طائفة) وهو يملك – كما غيره من المكلفين العقلاء - موجبات الاستمداد عن مصادر الإسلام الرئيسية مباشرة؟!‏
هكذا إذن يتضح أن مقولة أن «أهل البيت – أيّاً كانوا – هم قرناء الكتاب وورثته، وهداة الأمة وولاتها..» ليست سوى (خرافة) يُريد أصحابها أن يضيفوا لأنفسهم ب (النسب) ما المعلوم من العقل والدين بالضرورة يقطعان بأنه ضرب من الباطل الغارق في أوحال «العنصرية» وظلمات الجاهلية الأولى..‏..يتبع.
.‏......................‏
الهوامش والمراجع
‏(1)‏ سورة الحجرات، الآية 13.‏
‏(2)‏ د. محمد عابد الجابري، الديمقراطية وحقوق الإنسان، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 1994، ص 226.‏
‏(3)‏ نفس المرجع، ص 227.‏
‏(4)‏ مقدمة ابن خلدون، دار الرائد العربي، بيروت، 1982، ط 5، ص 129.‏
‏(5)‏ نفس المرجع، ص 543.‏
‏(6)‏ نفس المرجع، ص 544.‏
‏(7)‏ نفس المرجع، ص 544 – 545.‏
‏(8)‏ سورة النجم، الآية 39.‏
‏(9)‏ سورة آل عمران، الآية 145.‏
‏(10)‏ د. محمد عابد الجابري، مرجع سابق، ص 231.‏
‏(11)‏ اكتفينا بمفردة «التسفيه»، وإلا فإن سجال الفرق والمذاهب الإسلامية لم يَخْلُ من توصيف بعضها البعض بما هو أشد وطأة ك «التفسيق والتكفير».‏
‏(12)‏ محمد يحيى عزان، الإمام زيد بن علي شعلة في ليل الاستبداد، دار الحكمة اليمانية، صنعاء، 1999، ط 1، ص 64 – 65.‏
*سلسلة مقالات نشرها الكاتب في صحيفة الناس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.