اتخذت المملكة العربية السعودية خلال الفترة الأخيرة وسائل جديدة ومتطورة في تدخلها التاريخي في اليمن، والتدخل الذي كان يرتكز على فرض الوصاية على الحديقة الخلفية للمملكة عبر مد قوى وشخصيات عسكرية ومدنية رسمية وشعبية بالأموال التي تغدقها في سبيل شراء الولاءات وبما يضمن تنفيذ سياساتها ومخططاتها في إبقاء اليمن في وضع اللاانهيار واللااستقرار عبر التأثير في مجريات الأحداث والتحكم بالقرارات، وتقدم السعودية نفسها كوصي على اليمن وتمسك بملفه في المنطقة وصد أي نفوذ إقليمي أو دولي بما يضمن بقاء اليمن في قبضة أمراء النفط. واتخذت المملكة مما يسمى باللجنة الخاصة وسيلة للتوغل في الأوساط السياسية والقبلية في اليمن لسنوات طويلة، وهي اللجنة التي كانت تحت إشراف الأمير سلطان بن عبدالعزيز، وهو السلوك الذي اعتمدته المملكة لبناء علاقات غير رسمية في الداخل اليمني مكنها من إبقاء الحكومات المتعاقبة رهن الطاعة والرضى. مع اندلاع ثورة فبراير 2011م أوقفت المملكة ما يسمى برواتب كثير من الشخصيات التي انحازت للثورة الشبابية السلمية التي أطاحت بعلي صالح "الحليف الأليف" من الحكم واستمرت في صرف المبالغ للقيادات الموالية لحليفها قبل أن تتخذ قراراً نهائيا العام الحالي بوقف جميع المساعدات المالية التي كانت تقدمها لليمن. الإفرازات التي نتجت عن ثورات الربيع العربي هزت المملكة ودفعت بها إلى إعادة رسم خارطة تحالفاتها الخارجية بما يضمن استقرارها الداخلي وتنويم التفاف الشعوب حول التغيير الذي حقق نجاحات نسبية في المنطقة. سارعت المملكة إلى احتواء الثورة اليمنية ووأد أهدافها وتبنت ورعت عملية التسوية التي أمنت صالح ومنحته الحصانة وأبقت على نظامه في سدة الحكم وضمنت بقاءه داخل دائرة التأثير لاستخدامه عند الحاجة. مقابل تخليها عن حلفائها القدامى لا تعتمد سياسة الجارة النفطية بناء علاقات مع الأحزاب والقوى السياسية والمنخرطين في العمل السياسي. على النقيض من رعاية المملكة للعملية الانتقالية في اليمن تشهد علاقتها بالرئيس هادي وحكومة الوفاق فتورا ملحوظا يصل حد التوتر تؤكده الوقائع والأحداث. وبدل أن تدعم الجارة نجاح عملية التسوية باعتبارها الراعي الأول لها من خلال المبادرة الخليجية مدت السعودية يدها إلى القوى المناهضة للتسوية والجماعات المسلحة وعادت للتحالف مع صالح وحلفائه من أعداء التسوية. عشوائية وغباء سياسة المملكة رمت بها إلى أحضان خصومها وأعدائها في الداخل اليمني، بل ومدت يدها لأطراف تقاتلت معها بالأمس القريب محاولة تغطية فشل علاقتها مع أمريكا التي تحالفت مع إيران "العدو الأكبر" وتلقي المملكة ضربة غير متوقعة من البيت الأبيض. رعت السعودية المد السلفي الوهابي في اليمن ودعمت تأسيسه في قلب المناطق الشيعية وتحديدا في محافظة صعدة. وتخلت المملكة عن حلفائها من السلفيين الذين يخوضون مواجهات مسلحة مع جماعة الحوثي التي كانت تعتبرها السعودية خطرا في خاصرتها وخاضت معها مواجهات إثر توغل الحوثي في الأراضي السعودية وسيطرت على جبل الدخان مكبدين الجيش السعودي خسائر باهظة قبل انسحابهم في صفقة غامضة. تشن جماعة الحوثي حرب إبادة ضد الأقلية السلفية في صعدة وبدل أن تمدهم المملكة بالدعم والمساندة مدت يدها لجماعة الحوثي وفتحت خزائنها وحدودها وقصورها لهم. يفرض الحوثي حصارا خانقا على مركز دماج منذ ثلاثة أشهر والسعودية تتدخل لإنقاذ الحوثي وكسر الحصار الذي فرضه السلفيون على محافظة صعدة وزودته بالمحروقات والمواد الغذائية. العنف الحوثي يدق أبواب قبيلة حاشد الحليفة القديمة للمملكة والسفارة السعودية تستقبل قيادات حوثية وتحتضن لقاءات حميمية معهم. التحالف العميق بين السعودية والحوثي شجع الجماعة على الاستمرار في محاولة تصفية صعدة من الأقلية السنية واستمرار الحرب عليهم. تدخلت السعودية لمناصرة الحوثي ومساندته في المعركة التي كان يقترب من خسارتها محاولة إنقاذه من مأزق هزيمته أمام تلك الأقلية، وتكبده خسائر كبيرة بشرية ومادية. المواجهات التي شهدتها منطقة كتاف كشفت عن الحضور السعودي الميداني في الأحداث، الأمر ذاته تفعله الجارة في المحافظات الجنوبية وفي حضرموت تحديدا. الانسحاب الغامض للسلفيين من كتاف يكشف عن حجم التنسيق السعودي الحوثي ويؤكد سعي المملكة إلى تجنيب الحوثي الصراع مع السلفيين تحت مبررات غير مقنعة، مقابل فتح حدودها لقيادات السلفية الذين تركوا أسلحتهم وفروا إلى نجران برفقة وساطة سعودية وصلت قبل حوالي أسبوعين بهدف وقف الحرب وإخلاء المنطقة للحوثي. انسحاب السلفيين تم بإشراف الأمير محمد بن نائف وزير الداخلية باعتباره المسئول الأول عن المد الوهابي والتواصل مع السلفيين، فيما يتولى الأمير بندر بن سلطان "الاستخبارات" التواصل مع جماعة الحوثي وإيران. تتحدث معلومات عن "خيانة" رافقت انسحاب السلفيين بدون أي مقاومة، وهو ما يفسر ذلك التنسيق المسنود بأطراف وقوى محلية ودولية. وقف الحرب في صعدة يضمن للحوثي تعزيز جبهة حاشد وفتح جبهات جديدة مع القبائل. ولعل المملكة تريد تجنيد الحوثي لمواجهة قوى الثورة وحزب الإصلاح تحديدا الذي ترفض المملكة التعامل معه وتعتبره خطرا عليها. الإقبال السعودي على التعاون مع الحوثي جاء بعد فشل محاولاتها في إقناع أطراف أخرى في مواجهة الإصلاح.