تبدو صنعاء اليوم مدينة يكتنفها الغموض: جذابة ومنفرة, جميلة وقبيحة, مقدسة ومستباحة, إنها ساحة للحرب والبطش وتصفية الخصوم, قاع وكهف, مدفن ومخدع. في صنعاء يحل الانتكاس محل الفعل, ويطرد فيها التعطش للسلام, للتحديث والمعاصرة, باعتبار هذا الأخير نوعا من التبذير, انه نوع من التناوب بين الانتظار الطويل والانفجار المباغت. المدن ترتفع كما يرتفع البالون المحشو بالهواء ساعة إطلاقه, المدن تحتفي بالمبدعين, بصانعي الأفكار, بالرواد, وصنعاء مجبورة بالقوة, في الاحتفاء بانتصار السلاح, بالقتل, بالوحشية, بالنزوح والتخبط فيما لا شكل له. باختصار أصبحت صنعاء مرغمة على الاحتفاء بكل قبيح والانزعاج من كل جميل. قبل أن احتضن صنعاء للمرة الأولى في حياتي, كنت أفكر أن صنعاء تشبه الحياة, كنت أفكر أن صنعاء كبيرة كالعالم, أو بالأحرى أكبر من العالم, وعندما بدأت أمارس تجربة الاحتضان ظلت هواجسي تأتي وتتضخم ثم تتقلص بالتدريج, لتكشف من أن المرء قد لا ينتهي من أن يكون عالقا بحرمان واحد, بخيبة أمل واحدة, بتوق واحد. سنوات عديدة من العمر قضيتها في صنعاء, عشت فيها واقع يفوح بالضديات, بين الألم والسعادة, والطموح واليأس, والجوع والشبع... قابلت فيها الكثير من الوجوه, وحققت فيها قائمة من الصداقات من صحفيين وشعراء ودارسين وأطباء وعمال وبائعي صحف وسائقي أجرة ومرضى, لا يعني أن جميع هذه السنوات كانت مشحونة بالسعادة, كما أنها ليست عصية على القلب, لكنها كانت على الأقل تحمل تغريده أمل, ونبع للطموح في أن تصبح هذه المدينة عاصمة للقلب والسلام والأحلام قبل أن تصبح عاصمة للوطن. إن فعل بناء المدن/ العواصم المحتفلة بالسلام يعد بمثابة محاولة جادة لأبنائها على تثمين الحياة والإنسان واحترام الآخر والتعايش المحمود ونبذ العنف ومحاولة تحريرها مما يعيق تقدمها مما يسجنها ويحدد من حركتها وتطوره,ا لأن عملية البناء في معناها الشامل لا تعني تشييدها بالأبنية وناطحات السحاب, لكنها تعني المقاومة, مقاومة ما قد يحيل هذه المدن إلى مجرد ثكنات للوحوش البشرية, للمعسكرات والأسلحة ومشرحة لسلخ الإنسان