(1) ما تزال عملية إرساء مجتمعاتنا العربية على طريق حكم الدستور والقانون في إطار نظام ديمقراطي سليم؛ ما تزال تواجه عقبات كأداء، وكلما ظننا أن الانفراج صار قاب قوسين أو أدنى ظهرت لنا حقائق الواقع بوجوه كالحة تؤكد أن الهدف ما يزال بعيدا أو أنه قد أصبح قريبا لكن دونه أخطار وعقبات! في مصر ثورة 25 يناير يبدو الانتقال السلمي إلى عهد جديد على حافة الهاوية؛ ففي لحظة ما يمكن أن يعلن فوز مرشح بقايا نظام المخلوع حسني مبارك فتنقلب مصر رأسا على عقبيها، وتعود إلى نقطة الصفر التي كانت قبل الثورة (دون تجاهل وجود فوارق ليست هينة). وأسوأ ما في الأمر أن (العسكر) كشفوا عن مخططهم بأنهم سيكونون دولة داخل الدولة، يوجهون الأمور من وراء الستار في حالة فوز مرشحهم.. أو يتحولون إلى مركز قوة يواجه الدولة ويتصادم معها في حالة فوز مرشح الثورة؛ وبمعنى آخر فإن قيادات الجيش المصري تتمسك بدور كبير في المرحلة المقبلة إلى حد منح الجيش الحق في إصدار التشريعات (كما بدأ في حل مجلس الشعب وتشكيل مجلس الدفاع الأعلى)، والحق في الاعتراض على أي مادة في الدستور الجديد، وضرورة استشارة رئيس الجمهورية لها قبل إصدار قرارات مثل إعلان الحرب؛ بالإضافة إلى استقلالية المجلس العسكري في الإشراف على شؤون الجيش.. وكل ذلك امتيازات لا تتفق مع طبيعة النظام الديمقراطي وتتصادم مع فكرة الدولة المدنية التي تصدر بضجيج لا مثيل له من قبل أنصار المجلس العسكري والمؤيدين له في حالة التوتر القائمة بينه وبين الإخوان المسلمين! (2) الحالة الديمقراطية في بلدان عربية أخرى ما تزال هشة وغير قابلة للتطور حتى تصل إلى تجسيد مبدأ: حكم الشعب بنفسه؛ ففي الكويت والأردن ما تزال (الديمقراطية) تعاني من حقيقة أنها حالة غير مسموح لها بالتطور حتى تستوي على الميزان الصحيح فتصير ذات ثمرة ومنفعة للشعب وليس مجرد (قاعة) لثرثرة النخب، وتعارك الحزبيين.. فيما تظل السلطة الحقيقية بمنأى عن صندوق الديمقراطية، ويظل الشعب عاجزا عن المشاركة الحقيقية في إدارة بلده. ليس كمثل الأردن والكويت في تجسيد أحد مظاهر أزمة الحكم الدستوري الصحيح (أو الديمقراطية الكاملة)؛ فالأردن الذي عرف نوعا من الممارسة السياسية التعددية منذ 60 سنة ما يزال في مرحلة الحضانة الديمقراطية – وليس حتى سنة أولى- ولا يرضى أولو الأمر له أن يأخذ بيديه أمر وطنه. ولذلك فما يزال الأردن – أحد أكثر المجتمعات العربية تعلما- هو مجتمع التأزم السياسي؛ فلا الحكومات تستقر، ولا الشعب يرى أملا قريبا في الخروج من النفق المظلم.. بل يبدو أحيانا أن تغيير الحكومات كل سنة؛ وفي كثير من الأحيان في أقل من ذلك؛ نوع من لعبة الكراسي الموسيقية لتأجيل ما يخشى أن يكون لحظة انفجار.. أو كما نقول في اليمن: من مشنقة إلى مشنقة: فرج! هذا المظهر من أزمة السلطة في الأردن نتيجة طبيعية لرفض السماح بتطور الممارسة السياسية لتصل إلى المستوى الذي يجعل الشعب الأردني يمتلك إرادته وقراره بيده من خلال صندوق الانتخابات وليس من خلال قرار الملك! (3) الحال في الكويت لا يكاد يختلف عن الأردن؛ فهي أكثر بلدان الخليج العربي تطورا في النواحي الثقافية والسياسية، وتجربته النيابية على علاتها تصل إلى الأربعين عاما، وأبرز مظاهرها: حرية تعبير واسعة ولا مثيل لها في بقية دول مجلس التعاون الخليجي؛ لكن معضلة انسداد الأفق الديمقراطي، وتخلف الشكل الديمقراطي المتاح للكويتيين جعلها – كالأردن- أشبه بالرجل الخليجي المريض؛ فلا الحكومة تبقى، ولا مجلس نيابي يكمل مدته إلا في النادر جدا! والسبب واضح: سقف الديمقراطية الكويتية أقل من طموح الكويتيين وآمالهم.. وكأن المطلوب فقط هو أن يتحول البرلمان إلى نادٍ سياسي للثرثرة، لا أن يصير شريكا في السلطة، وحاميا للثروة، وكلما وصلت الممارسة في البرلمان إلى الخطوط الحمراء توترت الأجواء السياسية وجاء قرار الحل من الأمير والدعوة إلى انتخاب مجلس نيابي جديد ليواجه المعضلة نفسها! ومن سوء الحظ أن هذا الانسداد في أفق الممارسة السياسية في الكويت يخلف وراءه مزيدا من الاحتقان السياسي والطائفي، وينعكس سلبا على مجمل الحالة السياسية والآمال الشعبية في دول الخليج التي كان يمكن للتطور الديمقراطي السليم في الكويت أن ينعكس إيجابا في اتجاه منح شعوب الخليج مزيدا من حقوقها السياسية وفي المشاركة الشعبية الحقيقية في إدارة الأوطان بعيدا عن الحالة القائمة التي تجعل دول الخليج في مرتبة متخلفة سياسيا عن دول كثيرة في العالم تعيش على مساعدات الخليجيين وإحسانهم! في بلادنا اليمن كان الحال – قبل ثورة التغيير- هو نفسه في الأردن مع اختلاف في بعض المعطيات؛ إذ تبدو الديمقراطية المتاحة أو المطلوب رسميا منها؛ مجرد وسيلة للتفريج عن الهموم، والصراخ السياسي دون أن تكون قادرة على إحداث تغيير حقيقي.. أي أن تكون وظيفتها (الحقيقية) توفير وسائل لتفريغ الغضب الشعبي وإعادة إنتاج النظام نفسه: بأشخاصه وسياساته.. ومن ثم توريث الشعب والوطن في إطار نفس السياسات والعائلات الحاكمة رغم أنف شعارات النظام الجمهوري! (4) هذه الحالة السيئة للممارسة الديمقراطية في الوطن العربي لها تاريخ من الدوافع؛ ففي ظل الوجود الاستعماري بدأت التجارب الأولى لبعض المسارات الديمقراطية والعمل الحزبي، وكان طبيعيا أن تفشل تلك التجارب لأن المصالح الاستعمارية ونوعية الأنظمة القائمة آنذاك لم تكن لترضى أن تأخذ الممارسة الديمقراطية مداها الطبيعي لتصل إلى الحد الذي يحكم الشعب نفسه بنفسه؛ لأن الخاسر سيكون هو الوجود الاستعماري والأنظمة الموالية. وكان من آثار ذلك الوضع فساد الحياة السياسية، وتحول الأحزاب التقليدية إلى مصدر لتنفير الشعوب من الديمقراطية والحزبية، ثم جاءت بعدها مرحلة الاستقلال التي اتسمت بحكم العسكر والأنظمة الثورية المعادية للديمقراطية باعتبار ما سبق أو باعتبار أنها نظام سياسي مرتبط بالاستعمار الغربي؛ بالإضافة إلى الأنظمة التقليدية التي تراوحت مواقفها بين الرفض التام باعتبار أن السلطة ملكية خاصة وبين البعض الذي سمح بهامش من العمل الحزبي وحرية التعبير لكن في عدم المساس بالنظام والقيادة. بإيجاز يمكن القول إن تجارب التعامل العربي مع النهج الديمقراطي في الماضي والحاضر مفزعة ولا تعمل على زيادة مستوى الثقة بين أطراف العملية السياسية في السلطة وخارجها.. ولاحظوا كيف أن المجلس العسكري الحاكم في مصر يناور بدهاء واستماتة للاحتفاظ بدور سياسي قوي متناسيا مقدار الثقة والتقدير اللذين منحا له بعد دوره في تنحية مبارك وإعلان قبوله تسليم السلطة للمدنيين وفق خارطة طريق اتفق عليها واستفتي عليها المصريون، وهاهو اليوم يضع المصريين في الحالة النفسية التي كانوا عليها قبل تنحي مبارك خوفا من عودة النظام السابق بكل ما يعني ذلك من ظلم واضطهاد وتحكم الأجهزة الأمنية بكل شي في مصر! وكما قيل إن الصدقة تخرج من تحت سبعين شيطان.. فيمكن القول إن السلطة لا تخرج من القابض عليها إلا كما تخرج الروح من جسد الإنسان.. الفاجر! * المصدر: صحيفة الناس الأسبوعية.