"المغامرة عنصر مفيد في تاريخ كل الأفراد والمجتمعات".. هيرمان كل الذين كانوا يقتربون منها أدركوا منذ الوهلة الأولى أنها فتاة غير عادية. صحيح أنه كان يوجد من يقلل من شأنها ومن طريقتها في مناوئة نظام علي عبدالله صالح إلا أن ذلك لم يؤثر يوماً على إيمانها العميق بقدرتها على تحقيق ما تصبو إليه. وككل الذين أخذوا على عاتقهم التصدي لسياسات المخلوع لم يكن في ضمير توكل كرمان وجود لليأس على الرغم من تقدم مشروع توريث السلطة على ما سواه من مشاريع وطنية. ومن دون مبالغة، استطاعت توكل بالرغم من حداثة تجربتها السياسية أن تقدم خريطة طريق لإسقاط نظام علي عبدالله صالح الذي وصل لدرجة غير معقولة من الغرور والتعالي. لقد أدركت توكل عن قصد أو عن غير قصد مشكلة اليمن التاريخية والمتمثلة في وجود منظومة استبداد متغلغلة في أوساط المجتمع، ولكي يتم التخلص من الاستبداد السياسي لا بد من ضرب جذوره الاجتماعية. من هنا تكتسب نضالات توكل في الدفاع عن حق أبناء منطقة الجعاشن في العيش الكريم أهمية قصوى، فقد أدى التصدي لسياسات الشيخ محمد أحمد منصور الإقطاعية إلى لفت أنظار الناس إلى تلك العلاقة الخاصة التي تربط السلطة التي يمثلها المخلوع بمراكز القوى التقليدية التي تتعامل مع الناس بمنطق ما قبل وجود القانون. كان هذا يكفي ليفهم الشعب هذه الحقيقة، لكن توكل كعادتها لم تفوّت الفرصة للتأكيد على أن المسؤول الأول عن المظالم التي تعرض لها أبناء الجعاشن وغيرهم من أبناء الشعب هو علي عبدالله صالح، وهو ما هز صورة هذا الأخير لدى قطاعات واسعة من الشعب على نحو غير مسبوق. وعلى هذا المنوال، دخلت توكل على خط القضية الجنوبية، فكانت من أوائل من تحدث عن سياسات تهميش الجنوب، وقد أدت مواقفها المتتالية في هذا الشأن إلى أن تكون عرضة لهجوم مستمر من قبل نظام صالح والقوى التقليدية المتحالفة معه التي اعتبرتها فتاة مارقة تسعى لتمزيق البلد وتشويه صورته في العالم. ومع بدء ثورات الربيع العربي وجدت توكل كرمان نفسها ومجموعة من الناشطين السياسيين والحقوقيين وطلاب جامعة صنعاء التواقين للتغيير في مهمة تاريخية: يجب إسقاط النظام الآن. انخرطت توكل في الثورة بكل ما أوتيت من قوة. وقد أدرك النظام خطورة ذلك، فأطلق مجموعة من الشائعات التي تنال منها، ثم مارس ضغوطاً على والدها السياسي والقانوني عبدالسلام كرمان الذي قام بمحاولة إخراجها من مخيمات الاعتصام في ساحة التغيير. في هذه اللحظة تتكشف عبقرية توكل بطريقة تؤكد شكوك النظام: شخصيات كبيرة من مارب؛ المنطقة التي يشتهر أهلها بالقوة وبالعناد وقفوا أمام رغبة إخراج توكل من ساحة التغيير قائلين لوالدها إنهم لم يأتوا إلى هذه الساحة إلا لأن توكل هي من دعت لذلك، وتعهدوا بحمايتها. كانت توكل قد أصبحت مصدر ثقة وإلهام، وكان ذلك أحد الأسباب المهمة التي جعلت لجنة جائزة نوبل تقرر منحها جائزة نوبل للسلام. بعد فوزها بالجائزة الأرفع في العالم، كثيرون اعتقدوا أن توكل ستركن إلى الراحة، لكن هذا كان يخالف قوانين الطبيعة، بالنسبة لتوكل كانت الجائزة حافزاً إضافياً للنضال من أجل المبادئ التي ناضلت من أجل تحقيقها. والحق يقال، لقد قامت توكل بدور أساسي ومهم في إيصال صوت الثورة إلى المحافل الدولية التي كان التواجد فيها حكراً على رجال المخلوع، وساهمت إلى حد بعيد في إعادة تشكيل رؤية المجتمع الدولي تجاه اليمن وتجاه الثورة التي ناصبت سلطة علي صالح العداء. التطورات التي حصلت فيما بعد من خروج صالح من السلطة وانتخاب عبدربه منصور هادي رئيساً للبلاد والانخراط في عملية سياسية شكلت مادة سجالية بين الثوار، ففي حين رحب البعض بتفضيلات توكل السياسية التي تقوم على أساس دعم الرئيس الجديد بوصفه شخصاً يأتي من خارج التركيبة السياسية والاجتماعية التي حكمت وما تزال تحاول العودة للحكم، وأنه يمكن أن يشكل مع الشباب قوة تساعده في اتخاذ قرارات حاسمة تؤسس لدولة مدنية حديثة، رأى البعض الآخر أن توكل أخطأت الطريق إذ لا يمكن الوثوق في نخبة سياسية مهترئة لم تقدم شيئاً يُذكر في ما يتعلق بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي على مدى السنوات الماضية. وبعيداً عن هذه الاختلافات المتوقعة والضرورية في آن، إذ لا يجب تدجين الشباب وراء فكرة بعينها، ربما كان من المناسب أن تفكر توكل في الطريقة المثلى لمواصلة النضال من أجل إقامة دولة ترتكز على مبادئ المواطنة والحرية وسيادة القانون. وقد يكون من المهم أن تتبنى توكل وهي الحائزة على جائزة نوبل للسلام مبادرة وطنية لتكريس السلام الاجتماعي، فقد مل اليمنيون العيش تحت وطأة الحروب التي لم تتوقف يوماً في هذا البلد منذ مئات السنين. وبالإضافة إلى ذلك سيكون أمراً جيداً في المرحلة المقبلة أن تقود توكل عملية تمكين الشباب السياسي، إذ لا يُرجى أن ينهض الوطن دون دور أساسي للشباب. لقد بدأت توكل أشياء كثيرة ويُنتظر أن تكمل ما بدأته، لكن الأكثر جاذبية أن تصبح روح توكل المعجونة بالإيمان والشجاعة والإصرار على التغيير موجودة في كل واحدٍ منا. إذا تحقق ذلك، لن يكون بمقدور قوى الشر هزيمتنا. ربما كان نابليون يقصدنا بقوله: "تسيطر على العالم قوتان السيف والروح غير أن الروح هي المنتصر الدائم". لنتفاءل إذن، ما دام هناك روح مثل روح توكل تتواجد في المكان. عن صحيفة الناس