هل ينبغي لدين جاء لينقذ البشرية من التسلط والاستبداد، أن يرسخهما باسمه؟ وهل جاء دين الإسلام لمصلحة الأمة وإسعادها وإزاحة كل كابوس يجثم على صدرها، أم أنه أتى ليفتح أبواب الصراع بين بنيها؟ إن رسالة الإسلام رحمة للعالمين "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، وإن دينا ارتضاه الله لأكرم مخلوقاته –وهو الإنسان- عبر أكرم إنسان –وهو محمد صلى الله عليه وسلم- لكفيل بجلب ما يحقق السعادة لمعتنقيه في الدارين. ولسعادة الإنسان عوامل ترسخها كما أن لشقاوته عوامل أيضا، وإن من أهم عوامل تحقيق السعادة في حياة المجتمعات هو اعتقاد مبادئ الحرية والعدالة والمساواة، فإنه وإذا ما بنى المجتمع تصوراتهم وبالتالي أقوالهم وأفعالهم على هذه القيم السامية، فقد ضمنوا لأنفسهم الأمن والاستقرار، وبالمقابل فإنه وإذا ما تنكرت فئة لهذه المبادئ أو أحدها فقد فتحت أبواب النار على ذلك المجتمع الذي شقي بوجود هذه الفئة الخارجة عن قيمه الطبيعية. إن مجرد النظر الصائب إلى كارثية تغييب مبدأ المساواة الاجتماعية، واعتبار فئة منه- أن لها أفضلية أو امتيازات سلالية على غيرها، مجرد النظر السريع في ذلك ينبئ للناظر بسوء مستقبل يتوعد ذلك المجتمع، ويتجسد ذلك السوء في زرع الفتن بكل ذرة خبيثة تنتجها روائح الشعور بالأفضلية والتمييز. إن الحياة الساكنة المطمئنة ترحل على عجل من مجتمع تشتم فيه رائحة التمييز، بل إنه من المستحيل التعايش في تلكم المجتمعات، ذلك أن "الشريف" يرى أن له حقوقا لا تنبغي لغيره، وحينها ينطلق بناء على هذا التصور ليقوم بأعمال يريد من خلالها تجسيد التمييز واقعا ملموسا. وحينها وكردة فعل طبيعية يقول الآخر الذي لا ينتمي إلى هذه الفئة "الشريفة" بالقيام بأعمال يكون من شأنها إثبات الندية والمساواة، وهذا وبلا شك خط أحمر تعداه من لا يحق له التعدي على الأصهار، وفي ذلك بداية الصراع المشئوم والذي ولا شك سيستمر ما استمرت هذه الفكرة الهوجاء في بعض الرؤوس، بل وتتوارثه الأجيال، فالمسعور بوهم الأفضلية ينقل هذا السعار إلى أولاده "الأفاضل" ولترسيخه لا بد من إضفاء مسحة دينية ليضمن رسوخ التشوه في الجيل الوارث. ومع اندياح الفكرة في أوساط المجتمعات ووجود من يتحمس لها، ومع اكتسائها بدثار التدين المغشوش، وجد لها أنصارا من جلادي الظهور، ومضيعي الكرامة، ومن تجري في عروقهم دماء الدونية، وقد يستغرب القارئ الهمام لوصفي هؤلاء الأتباع بهذه الأوصاف، ولكن لا غرابة: فماذا تقول لإنسان له حقوق موهوبة من خالقه جل وعلا، فلا تراه إلا بائعا لها في سوق الوهم، وماذا تقول عن إنسان له كل الحق اليوم ودون اتباع هذه الفئة، في أن يكون محافظا أو وزيرا أو رئيسا –إن كانت لديه الكفاءة- فتراه يتململ من هذه الحقوق ويرى أنه ليس أهلا لها، ويعلن بملء فيه قائلا: أستغفر الله تلك حقوق للسيد الفلاني. إن الاتباع لهؤلاء يعني في أقل ما يعني، تنازلا مشينا عن حقوق أعطاك الله إياها، وفي ذلك شرود عن فهم روح الدين الذي ما جاء إلا ليكرم الإنسانية ويعلي من شأنها. وإنه وباستمرار الدعوة إلى زيف الأفضلية، وفي جو الجهل الخانق وفي غفلات متعددة من الزمن، نمت الفكرة، ووجدت لها دراسات ومؤلفات، ودعمتها خطب ومحاضرات، وعززتها حسينيات وعزاءات ومناسبات ما أنزل الله بها من سلطان. لقد استخدمت الدول الحاكمة، والتي تستمد جذورها الفكرية من فرية الأفضلية السلالية والتمييز، استخدمت كل مقومات الدولة وإمكاناتها لترسيخ هذه الفكرة، تارة بتعليمها للأمة المنكوبة،، وتارة بتجهيل الأمة في كافة شئونها لإخماد تفكيرها، وإيصالها إلى مرحلة التسليم حتى بحق التفكير للسيد الفلاني وآله الأطهار، ورصيد التجربة خير شاهد على التجهيل المتعمد الذي تبناه هؤلاء الحكام بحق محكوميهم، فما حكموا إلا وانتشرت الخرافات والأوهام والأسحار والشركيات في أوساط الأمة المحكومة، ونتيجة لهذه الأجواء خطفت من الأمة أرضية التفكير السليم والمنطق الواعي، فلا ترى أبناءها إلا بين متخبط في أوهام النجوم، أو تائه في دهاليز السحرة والدجالين، أو أنه على خوف من تحركات الطيور إن لم يكن هائما في قبور الصالحين، فإذا ما أصيب هذا المسكين بمصيبة لم يتوان عن بذل الأسباب، والذهاب إلى مطلمس –من أحفاد الأطهار طبعا- طلبا في الشفاء له أو لدابته، وتأتي الوصفة المباركة بعد استلام المبلغ المتاح، وبعد تدفئة ركبة السيد بزفير قبلة دنيئة من هذا الغر المريض، وقد يصاحب الوصفة تغيير الاسم، وحينها يعود المريض وقد جلب إلى مرض جسمه أمراضا روحية وأخلاقية واجتماعية وثقافية، وهو لا يدري. إن المتبع لبيئة حكمها –المفضلون- لا يشتم سوى دخان الشرك ممزوجا بداء الخرافة مختلطا بدنيئة الدونية، وحول كل ذلك ضباب من الأوهام لتتشكل في هذه البيئة النكدة لوحة مشوهة لإنسانية غائبة. إن التخلف الحضاري الذي مرت به أمتنا والتي ما زالت ترزح تحت وطأته، ناتج طبيعي للحياة السياسية والاجتماعية والثقافية التي تولى توجيه دفتها ذوو الفكر السلالي، ورواد مدرسة التمييز. ولكن شعاع الحق لا بد وأنه سيبدد دياجير ظلام الوهم والخديعة، فلقد فاقت الأمة اليوم من غفوتها وصحت من سباتها وفتحت أعينها على الوحي الإلهي بعد أن استمكن العقل من فهم روح الإسلام واستكنه مقاصده واستلهم معانيه. ولقد ساعد في ذلك انفتاح الأمة الإسلامية على الأمم الأخرى التي عرفت معاني إنسانيتها، وانطلقت تبني مجدها على قاعدة صلبة من فهم القيم الإنسانية السامية. إن ملامح قيام الحضارة الإسلامية تلوح في الأفق، وإن عماد نهضتها فهم أبنائها لحقوقهم وتقديرهم لإنسانيتهم ووقوفهم بكل حزم وشدة ضد كل من يريد أن يعيد أمتهم إلى سالف ذلها وماضي عوارها. إن البقية الباقية من نتن فكرة الأفضلية ستختفي رويدا رويدا حتى تذبل تماما من أفكار الأمة اليقظى وبالتالي من واقعها، وإن بقي له أثر فلن يبقى إلا في رؤوس متعفنة لا تجرؤ على إخراج جيفته إلى الساحة الإسلامية النقية، والتي سينتفض أبناؤها لإنسانيتهم وكرامتهم وقبل ذلك لدينهم، كلما اشتموا روائح هذا العفن القديم. الأهالي نت