حاولتُ أن أفهم سبباً وجيهاً واحداً لفكرة تقسيم اليمن إلى أقاليم أو مناطق وهي الفكرة التي تتسرب بين آنٍ وآخر.. ولم أجد سبباً واحداً وجيهاً أو غير وجيه! لذلك, ظننت أن الفكرة مجرّد تسريبات أو فرقعات مما تعوّدنا أن نسمعها بين فينةٍ وأخرى. لكنّ حمّى التقليم والأقلمة ارتفعت حتى أن وزير التجارة تحدّث على استحياء عن تقسيم اليمن إلى مناطق تجارية,.. وعدا كلمة تقسيم -التي بدأتُ أقشعرُّ كلما سمعتها, بينما بدأ الكثيرون يعزفونها مطروبين هائمين بها وكأنها تقاسيم عود, لا تقسيم بلاد! -فإن الحديث عن مناطق تجارية مقبولٌ ومعقول.. لكنّ الحمّى ارتفعت أكثر كي يتحدث الوزير في تصريحه-الأحد الماضي في جريدة الثورة- عن الموارد الطبيعية لكل إقليم, وعن حصّة المركز من هذه الموارد! وحصّة الإقليم! إن مسألةً مثل هذه هي أكبر من وزارة التجارة, وأكبر من أيّ وزير! ثم إن المشكلة في اليمن لا علاقة لها أصلاً بفكرة التقسيم والأقاليم والتقليم, والأظافر! إن المشكلة كامنةٌ في الفساد الذي أصبح نظاماً ومنظومةً ظاهرةً وباطنة! وما لم يتم القضاء على جرثومة الفساد والمفسدين في جسم الإدارة اليمنية.. فإن أيّة حُلّةٍ أو بِزّةٍ لن تُغيّر من كون هذا الجسم عليلاً مريضاً! وسيظل كذلك, ما لم يتم تطهيره من جرثومة الفساد, وفيروسات الناهبين! لقد جرّب اليمنيون كل أفكار العالم وشعاراته ابتداءً من الجمهورية ومروراً بالتعددية, والديمقراطية, والرأسمالية, والاشتراكية, والإسلاموية, والتعاونية, والوحدة,.. وصولاً إلى الحوار! وعندما لم تكن النتائج كما كانوا يتمنّون لم يفطنوا إلى أن السبب موجودٌ في داخلهم, ولم ينتبهوا إلى أن قتلة الأحلام بين ظهرانيهم.. بل بدأوا بالشك في الأفكار نفسها! والكفر بها! وابتدأت النخب الخائبة في البحث عن ضحية جديدة من أفكار العالم.. دارت بعينيها حائرة.. وتأملّت, وبحَثَت, فوجَدَتْ أنه لم يبق إلا فكرة الفيدرالية والأقاليم! لم تفطن هذه النخب أن العيب لم يكن يوماً في الأفكار السابقة بحدّ ذاتها.. بل في القائمين عليها, وفي جهل التعامل معها.. وفي سوء نيّة الإدارة السياسية اليمنية بشكل عام إلّا فيما ندر! حتى أصبح الفساد هو المتن والنزاهة هي الهامش. عندما نتحدث عن الفساد في اليمن فإننا لا نتحدث عن مجرّد عبثٍ عابرٍ أو آنيٍّ بالمال العام, وثروة البلاد, بل نتحدث عن منظومةٍ شديدة التماسك رأسيةٍ وأفقية! منظومة تفرض رأيها حتى هذه اللحظة بقوّة الأمر الواقع! وقوّة السلاح! وقوة التحالفات الداخلية والخارجية! وقوة استثماراتها من دماء الشعب المنكوب! استثمارات بعشرات المليارات من الدولاارات في أنحاء العالم. وبينما تَجْلِدُ بعضُ أطياف النخب اليمنية ذاتها, وتدوس على أحلامها التي أصبحت باليةً مهترئةً من وجهة نظرها, وغير صالحة للتطبيق, فإنها تنسى بجهل, أن الدودة التي نخرت الجسم اليمني كله ما تزال عائمةً في شرايين هذا الجسم وأوردته! وأنها لن تكفّ عن امتصاص دمه في شمال اليمن أو جنوبه.. في العهد الاندماجي أو الفيدرالي! في الزمن الأقاليمي أو المناطقي! ما هي مشكلة اليمنيين؟ هذا هو التساؤل المؤرّق! وهو مؤرّقٌ ربما للعالم كله! هل يعرف اليمنيون ما ينفعهم, وما يضرّهم على وجه اليقين؟ وهل يعرفون من ينفعهم, ومن يضرّهم على وجه التأكيد؟ إذا عرف اليمنيون الإجابة عن هذين التساؤلين فإنها البداية للخروج من عنق الزجاجة.. عنق الاختناق قهراً, وصبراً, ودخاناً, وازدحاماً!