العليمي يقدّم طلبًا للتحالف بشأن الأوضاع في حضرموت    الكتابُ.. ذلكَ المجهول    أحاول … أن أكون مواطنًا    سبأ:الرئيس يتقدم بطلب للتحالف باتخاذ كافة التدابير العسكرية لحماية المدنيين في حضرموت ومساندة الجيش على فرض التهدئة    رئيس مجلس القيادة يرأس اجتماعا طارئا لمجلس الدفاع الوطني    العدو الإسرائيلي يقتحم قباطية ويعتقل والد منفذ عملية بيسان    روسيا تعلق على الأحداث في محافظتي حضرموت والمهرة    وقفات شعبية في إب احياء لجمعة رجب ودعمًا لغزة    سوريا: ارتفاع حصيلة انفجار مسجد في حمص إلى 8 قتلى و27 جريحًا    التعادل يحسم مواجهة أنجولا وزيمبابوي في كأس أمم إفريقيا    الذهب يقفز لمستوى قياسي جديد    بتوجيهات قائد الثورة .. اطلاق 21 سجينا من "الحربي" بمناسبة جمعة رجب    بيان عسكري يكشف شبكة تهريب وتقطع مرتبطة بالحوثي والقاعدة في حضرموت    شاهد / حضور كبير لاحياء جمعة رجب في جامع الجند بتعز    السيّد القائد يحذر من تحركات "طاغوت العصر"    نتنياهو يعلن في بيان الاعتراف بإقليم انفصالي في القرن الأفريقي    ندبة في الهواء    ريال مدريد يدرس طلب تعويضات ضخمة من برشلونة    الرئيس المشاط يعزي عضو مجلس النواب علي الزنم في وفاة عمه    مقتل مهاجر يمني داخل سجن في ليبيا    خلال يومين.. جمعية الصرافين بصنعاء تعمم بإعادة ووقف التعامل مع ثلاثة كيانات مصرفية    احياء مناسبة جمعة رجب في مسجد الإمام الهادي بصعدة    ريال مدريد يعير مهاجمه البرازيلي إندريك إلى ليون الفرنسي    الصحفية والمذيعة الإعلامية القديرة زهور ناصر    صرخة في وجه الطغيان: "آل قطران" ليسوا أرقاماً في سرداب النسيان!    غارات جوية سعودية على معسكر النخبة الحضرمية بوادي نحب (صور)    ما بعد تحرير حضرموت ليس كما قبله    كتاب جديد لعلوان الجيلاني يوثق سيرة أحد أعلام التصوف في اليمن    الكويت تؤكد أهمية تضافر الجهود الإقليمية والدولية لحفظ وحدة وسيادة اليمن    البنك المركزي بصنعاء يحذر من شركة وكيانات وهمية تمارس أنشطة احتيالية    صنعاء توجه بتخصيص باصات للنساء وسط انتقادات ورفض ناشطين    فقيد الوطن و الساحة الفنية الدكتور علوي عبدالله طاهر    حضرموت تكسر ظهر اقتصاد الإعاشة: يصرخ لصوص الوحدة حين يقترب الجنوب من نفطه    القائم بأعمال وزير الاقتصاد يزور عددا من المصانع العاملة والمتعثرة    الرشيد تعز يعتلي صدارة المجموعة الرابعة بعد فوزه على السد مأرب في دوري الدرجة الثانية    البنك المركزي اليمني يحذّر من التعامل مع "كيو نت" والكيانات الوهمية الأخرى    لحج.. تخرج الدفعة الأولى من معلمي المعهد العالي للمعلمين بلبعوس.    هيئة التأمينات تعلن صرف نصف معاش للمتقاعدين المدنيين    المحرّمي يؤكد أهمية الشراكة مع القطاع الخاص لتعزيز الاقتصاد وضمان استقرار الأسواق    صدور كتاب جديد يكشف تحولات اليمن الإقليمية بين التكامل والتبعية    ميسي يتربّع على قمة رياضيي القرن ال21    استثمار سعودي - أوروبي لتطوير حلول طويلة الأمد لتخزين الطاقة    الأميّة المرورية.. خطر صامت يفتك بالطرق وأرواح الناس    أرسنال يهزم كريستال بالاس بعد 16 ركلة ترجيح ويتأهل إلى نصف نهائي كأس الرابطة    المدير التنفيذي للجمعية اليمنية للإعلام الرياضي بشير سنان يكرم الزملاء المصوّرين الصحفيين الذين شاركوا في تغطية بطولات كبرى أُقيمت في دولة قطر عام 2025    الصحفي المتخصص بالإعلام الاقتصادي نجيب إسماعيل نجيب العدوفي ..    تعود لاكثر من 300 عام : اكتشاف قبور اثرية وتحديد هويتها في ذمار    الرئيس الزُبيدي يطّلع على سير العمل في مشروع سد حسان بمحافظة أبين    "أهازيج البراعم".. إصدار شعري جديد للأطفال يصدر في صنعاء    تحذير طبي برودة القدمين المستمرة تنذر بأمراض خطيرة    تضامن حضرموت يواجه مساء اليوم النهضة العماني في كأس الخليج للأندية    الفواكه المجففة تمنح الطاقة والدفء في الشتاء    هيئة المواصفات والمقاييس تحذر من منتج حليب أطفال ملوث ببكتيريا خطرة    تحذيرات طبية من خطورة تجمعات مياه المجاري في عدد من الأحياء بمدينة إب    مرض الفشل الكلوي (33)    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    لملس والعاقل يدشنان مهرجان عدن الدولي للشعوب والتراث    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أخطر 48 ساعة مع رجال بن لادن
نشر في البيضاء برس يوم 20 - 04 - 2010

قبل يومين اتصل بى أحد منتجى برنامج «60 دقيقة» الشهير على شبكة «سى بى إس» الأمريكية كى يقول لى إن سبقى الصحفى مع القاعدة عام 2002 هو فى رأيه أعظم تحقيق تليفزيونى فى العالم فى السنوات العشر الأخيرة.
وقبل عامين كتب بيتر بيرجن، أحد أهم خبراء القاعدة فى أمريكا، مقالاً فى مجلة «النيويوركر» يقول فيه إن إدارة بوش لم تكن فى حاجة إلى تعذيب خالد شيخ محمد؛ فكل ما اعترف به كان موجوداً فى تحقيقات يسرى فودة.
وعندما أعلنوا عن القبض على رمزى بن الشيبة فى سبتمبر 2002 ظن بعض الناس أن لهذا علاقة بلقائى بهما الذى لم يكن معظم الناس يعلم أنه تم قبل ذلك بنحو خمسة أشهر. لكن القاعدة هى التى أصدرت بياناً بعدها بأقل من أسبوعين بدأته بالآية الكريمة: «يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة»، أكدت فيه ألا علاقة ليسرى فودة بما حدث وأنه «كان أميناً فى نقل الأحداث والوقائع التى حصل عليها من جانبنا مع تحفظنا على بعض الفقرات التى وردت فى برنامجه».
لا أقول ذلك من باب الزهو؛ فلقد تلقيت فى يوم من الأيام دعوة ممن عرفت بعد ذلك أنه أحد وسطاء القاعدة، كان يمكن أن أعتذر عن عدم قبولها وكان يمكن لهم ببساطة أن يجدوا مائة صحفى آخر يقبلونها وربما عاد أحدهم بأفضل مما عدت به. ونعوذ بالله من أن يجعلنا من هؤلاء الحمقى الذين يفتخرون بما لا يستحق الافتخار.
إذا كان ثمة مجال للاعتزاز فإن مصدره بكل تأكيد تلك الجملة فى بيان القاعدة: «كان أميناً فى نقل الأحداث». لكننى أذكر جيداً أننى عندما عدت احتفظت بما عدت به قريباً إلى صدرى إلى حين استكمال زواياه فى ألمانيا وأمريكا ومصر ولبنان والإمارات وباكستان. وعندما حانت اللحظة ودفعت بتلك الكرة الملتهبة بعيداً عن صدرى إلى العلن أصابنى رد الفعل بكثير من الإحباط. فها أنا ذا وقد خاطرت بحياتى فى ظروف كانت فى غاية القسوة أعود، والحمد لله، سالماً وبين يدىّ سبق صحفى عالمى كى تنهال السهام فى اتجاهى من كل مكان، من القريب ومن الغريب.
سأترك الحديث عن «القريب» إلى موضع آخر؛ فذلك حديث ذو شجون، وليسمح لى القارئ الكريم بالحديث اليوم عن «الغريب» فى محاولة لاستكمال ما بدأناه على هذه الصفحات قبل أسبوعين، وفى محاولة صادقة لفهم الذات ووضعها من الآخرين موضع الإعراب.
عند تلك النقطة من الزمن، سبتمبر 2002، كان قد صار لى فى بريطانيا نحو عشر سنوات، صارت هى فى أثنائها بلدى الثانى رسمياً، وصرت أنا فى أثنائها لا أتخيل قدرة على استمرار الحياة خارجها. على المستوى العملى انتقلت من دراسة الدكتوراة إلى الإسهام فى تليفزيون وإذاعة بى بى سى، وفى تليفزيون وكالة أنباء الأسوشيتدبريس، وفى صحيفتى الصنداى تايمز والجارديان، وفى مكتب قناة الجزيرة فى لندن. وعلى المستوى الاجتماعى كنت أجد نفسى مستريحاً مع قيم كثيرة من قيم الحضارة الغربية: العمل، الإخلاص، الصدق، الأمانة، الحرية، العدل، المساواة، وهى فى جوهرها قيم الإسلام الحقيقية التى حين هجرناها هجرتنا رحمة الله.
وحتى تلك النقطة من الزمن، لم أكن أتخيل أن أتحول فجأة إلى «الآخر» الذى إذا عاد بما لم يعد به الغربيون فلأن شيئاً ليس صحيحاً. كان هذا أول رد فعل وجدته فى انتظارى، تطور بعد ذلك إلى غمز ولمز وإيحاءات بأننى لا بد أن أكون عضواً فى تنظيم القاعدة، وهى أكثر التهم إرهاباً فى الغرب، خاصةً فى تلك الفترة المجنونة. حدث هذا بينما كان بعض ممن يندرجون تحت بند «القريب» يغمزون ويلمزون بل يتهموننى علناً بتسليم مسلم إلى أعدائه، وهى دائماً أكثر التهم إرهاباً فى بلادنا. كما أنه حدث بينما كان دانيال بيرل، الصحفى اليهودى الأمريكى الذى اجتثت رقبته فى باكستان قبل وصولى إليها بأسابيع قليلة، يتحول تدريجياً إلى أسطورة فى عالم الصحافة الغربية يحتفلون بها وينشئون من أجلها المؤسسات ويقدمون باسمها الجوائز. صار بيرل من الناحية الأيديولوجية النموذج الذى يقدم لمجتمع الصحفيين للاحتذاء بينما أنا وقد أتيحت لى فرصة خوض غمار تجربة مماثلة مازلت أعتقد، على الأقل من الناحية المهنية، أنه نموذج لما لا ينبغى على الصحفى أن يفعله.. نموذج أدعو معاهد الإعلام فى العالم إلى تدريسه تحت عنوان: «كيف يمكن أن تقتنص الفشل من بين أنياب المجد».
فى لحظة صدق وضع كبير المحققين الصحفيين فى جريدة «الصنداى تايمز» وقتها، نك فيلدينج، الحقيقة عارية أمامى على غير عادة الإنجليز المتحفظين بطبيعتهم: «لو كانت عيناك زرقاوين وشعرك أشقر لكنت الآن بطلاً ولحصلت على جائزة بوليتزر ولربما أيضاً وضعوا تمثالاً لك فى مانهاتن».
ثم اعتدل فى جلسته فى ذلك المطعم فى جنوب شرق لندن وأضاف: «يمكنك رغم ذلك، لو أردت، أن تحصل على بعض هذا لو كان لديك استعداد لصياغة القصة من وجهة نظر غربية». ثم صمت لحظة أخذ أثناءها يتفرس ملامحى قبل أن يمضى فى حديثه وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة ذات معنى: «ولكننى أعلم أنك لن تقوم بهذا».
كان هذا الاستنتاج الأخير هو الذى شجعنى على قبول اقتراحه بأن يشاركنى تأليف كتاب عن الموضوع باللغة الإنجليزية صدر عام 2003 بالتزامن فى بريطانيا والولايات المتحدة وأستراليا وتمت ترجمته سريعاً إلى اللغات الإسبانية والفرنسية والإيطالية والألمانية والهولندية. وكان من بين ما جاء فى الكتاب أن خالد شيخ محمد تجنب الحديث معى عن دانيال بيرل إلا عندما كان يودعنى بعد أن قضيت معهم فى ذلك المنزل الآمن فى كراتشى نحو 48 ساعة. فى تلك اللحظة وضع فى يدى بياناً مطبوعاً عن عملية «جربة» فى تونس وعدداً من الأشرطة والأسطوانات الممغنطة من بينها شريط كامل عن عملية ذبح دانيال بيرل. بعد عودتى شاهدت الشريط مرة واحدة كانت كافية كى تنتابنى الكوابيس على مدى الشهور الثلاثة التالية.
نقطتان أساسيتان ينبغى إيضاحهما قبل أن يسمح المرء لنفسه بتقييم تجربة واحد ممن كانوا يصعدون سريعاً نحو النجومية فى صحيفة عالمية كصحيفة «وول ستريت جورنال». أولاً: ألا أحد فى الدنيا يستحق ذلك المصير بغض النظر عن دوافعه؛ فليس ذلك من الإسلام فى شىء ولا هو من الإنسانية فى شىء، ومن ثم كل التعاطف معه فى هذه النقطة ومع أسرته وأصدقائه. وثانياً: أنه من السهل دائماً أن نطلق الأحكام من مدرجات المتفرجين على لاعب أضاع فرصة نرى أنها كانت فرصة سهلة وأن نسبه ونلعنه. ورغم ذلك يمكننا أن نتعلم من تجربة دانيال بيرل عدداً من الدروس فى مجال المغامرات الصحفية من خلال النظر إلى ثلاثة أطراف أساسية: الصائد وميدان الصيد والفريسة.
فأما الصائد فمن الواضح أنه تغاضى أكثر من اللازم عن احتمال تأثير عدد من العوامل فى شخصه كان لا بد لبعضها حين يتم اكتشافه أن يكون له أثر حاسم. من أهم هذه العوامل أنه أمريكى فى الوقت الخطأ فى المكان الخطأ، وأنه صحفى فى وقت لم ير البعض فيه مساحة واضحة بين صحافة الغرب ومخابرات الغرب ومشاعر شعوب الغرب، وأنه ينتمى لصحيفة تنتمى لليمين المتطرف المؤيد لإسرائيل، وأنه يهودى على وشك «غزو» بلد إسلامى فر إليه عدد من أبرز رؤوس القاعدة مع بنيتها التحتية من الوسطاء والمراقبين والمتعاونين، وأن له فوق هذا تاريخاً عائلياً مع الصهيونية من خلال جده الأكبر، حاييم بيرل، الذى يحمل أحد شوارع إسرائيل اسمه.
وأما ميدان الصيد فقد كان فى غاية التعقيد، خاصة فى تلك اللحظة من الزمن. نحن نتحدث عن بدايات عام 2002 عندما وصلت شقة الخلاف بين الشرق والغرب إلى أقصاها، والتهبت المشاعر على الجانبين، واختطفت الأجواء حفنة مأدلجة ذات أغراض محسوبة داخل الإدارة الأمريكية، وانحنى حكام العالم أمام الإرهاب الأمريكى، ووجد المسلمون أنفسهم فى ديارهم وفى ديار الغرب وقد التصقت ظهورهم بالحائط، وانتشرت صور المكبلين فى أزياء برتقالية فى أفغانستان وجوانتانامو، وفقدت طالبان إمارتها ولا يزال عمقها الاستراتيجى فى باكستان، وتشردت القاعدة بين قتيل وأسير وهارب، ولجأ بعض كبار رؤوسها إلى باكستان التى انتشرت فيها أيضاً عيون المخابرات الأمريكية والبريطانية والفرنسية وغيرها مع تلك الباكستانية بطبيعة الحال، ودخل هؤلاء فى حرب خفية مع طالبان والقاعدة والمتعاطفين معهما والحانقين على أمريكا وسياسات أمريكا بين العرب وإسرائيل وبين باكستان والهند.
كان هذا بأقل تقدير حقل ألغام كثيفاً ألقى دانيال بيرل بنفسه إليه مسلحاً بإحدى مفردات العمل الصحفى الاستقصائى، وهى: «الشجاعة». غير أن الشجاعة وحدها لا تكفى. إن شجاعة الصحفى دون حصافته كمحرك السيارة دون فرامل، ليس لها فى النهاية سوى مصير واحد. وقد بدأت ملامح هذا المصير تأخذ منعطفاً خطيراً فى لحظة بعينها هى فى اعتقادى اللحظة التى ينبغى أن تكون بداية الدراسة لنموذج دانيال بيرل.
بدأت هذه اللحظة عندما سمح بيرل لنفسه بأن يرتكب أول خطأ «صغير» فى حقل الألغام فنزل مصطحباً معه فقط ملامحه الغربية إلى شوارع روالبندى، قرب إسلام آباد. ثم سمح لنفسه بارتكاب خطأ «صغير» ثان عندما قرر أن يجلس ويطلب مشروباً فى أحد مقاهى مدينة لابد أنه كان يعرف أنها قلعة للجيش الباكستانى وقلعة فى الوقت نفسه لكثير من الإسلاميين. كان مثله فى جلسته هذه كمثل بطة استساغت أشعة الشمس الدافئة أمام أعين قناصة يرونها ولا تراهم. ثم سمح بيرل لنفسه بأن يرتكب خطأ «صغيراً» ثالثاً عندما رد تحية رجل غريب اقترب منه كى يتعرف عليه داعياً إياه إلى الجلوس.
من المرجح أن بيرل لم يكن يعلم أن هذا الرجل لم يكن سوى عمر شيخ سعيد، البريطانى من أصل باكستانى، ساحر الأجانب الذى اتخذ من الإيقاع بهم عبر السنوات القليلة السابقة متعة ورسالة، تماماً كما يستمتع العنكبوت ببث خيوطه الناعمة حول فريسته ويتابع منظرها وهى تستسلم هنيهة بعد هنيهة. فى ضوء هذه الحقيقة، رأى الساحر فى الصحفى فريسة سهلة تسعى إليه على قدميها بمحض اختيارها. وبهذا المعنى، حول بيرل نفسه إلى عشاء رخيص ولم يكن مضطراً إلى ذلك.
مفردة «الضرورة» ومفردة «الاضطرار» من أدق المفردات فى عملية حساب المخاطرة فى مجال التحقيقات الصحفية. ومثلما يعتمد ضابط الاستخبارات فى عمله دائماً على مبدأ «المعرفة على قدر الحاجة» ينبغى دائماً على الصحفى المغامر أن يعتمد على مبدأ «الحركة على قدر الاضطرار».
إن الله وحده هو الذى يحدد مصائرنا، لكنه فى الوقت نفسه ينصحنا بألا نلقى بأنفسنا إلى التهلكة. ولقد أخطأ بيرل عندما قام بما لم يكن مضطراً إلى القيام به وسط ما كان يعلم تماماً أنه حقل ألغام. هذه قاعدة أخرى من قواعد العمل الاستقصائى: إذا وجدت نفسك فى حقل ألغام فلا ترقص.
تقول صحيفته إنه كان يحقق فى علاقة القاعدة بريتشارد ريد الذى فشل فى ديسمبر 2001 فى نسف طائرة أمريكية عن طريق متفجرات أخفاها فى حذائه. ويقول روبرت بير، عميل سى آى إيه سابقاً، إنه كان يتعقب خالد شيخ محمد. الفارق صحفياً ليس كبيراً على أية حال لكن النتيجة، كما علمنا بعد ذلك، كانت واحدة؛ فقد سمح بيرل لنفسه بأن يتم استدراجه يوم 23 يناير 2002 إلى مطعم «القرية» فى مدينة كراتشى على أمل اللقاء بالشيخ مبارك على الجيلانى، ومن هناك تم اختطافه، ونعلم جميعاً بقية القصة.
ويقودنا هذا إلى الطرف الثالث، الفريسة، وهو الطرف الذى ينبغى دائماً أن يبقى فى مخيلة الصحفى وأمام ناظريه، تماماً كما يستقر صليب نيشان بندقية القناص على وجه فريسته إلى أن تحين اللحظة المناسبة للضغط على الزناد. إنها ليست حرباً بالمعنى المعروف ولا هى عملية اغتيال بالمعنى المعروف. وإنما يؤدى غياب صورة «الفريسة» عن عينى القناص ولو للحظة واحدة إلى احتمالات كثيرة من بينها أن تنعكس الأدوار فجأة فتتحول الفريسة إلى قناص ويتحول القناص إلى فريسة. معنى هذا أنه ينبغى على الصحفى أولاً أن يعرف كل ما يستطيع معرفته عن هدفه وأن يدرس نقاط قوته ونقاط ضعفه وأن ينهمك فى تحليل دوافعه سواء اتفق معها أو لم يتفق، والأهم من ذلك كله، الذى هو فى الوقت نفسه نتيجة لذلك كله، هو أن يرى الدنيا من منظور هدفه، طول الوقت. من شأن هذا أن يتدخل فى عملية اتخاذ القرار فى أمور قد تكون حاسمة، حتى إن بدت للبعض تافهة.
وللإنصاف، فقد كان هذا الطرف فى حالة بيرل أكثر صعوبة مما هو فى حالتى؛ إذ إنه انطلق من نقطة الصفر بينما انطلقت أنا بناءً على دعوة مبدئية. صحيح أنها كانت دعوة اكتنفتها ألغاز غامضة لأسباب أمنية واضحة، وصحيح أن معظم العبء كان لا يزال على عاتقى فى اتخاذ قرار سيلقى بى إلى بداية طريق لم تكن بى قدرة لدى تلك النقطة على رؤية نهايته، ولكننى بالمقابل كنت فى موقف أفضل لهذا السبب ولمجموعة أخرى من الأسباب. من أهم هذه الأسباب أننى مسلم، مع شديد احترامنا لكل الأديان، وأننى كنت وقتها أعمل فى وسيلة الإعلام الوحيدة التى كانوا يرون فيها متنفساً، وأن لى رصيداً من الود والاحترام المتبادل مع جمهور قناة الجزيرة والحمد لله. وهذه كلها أسباب ستؤدى بمن يمكن أن نفترض أنه يريد إيذاء صحفى من هذا النوع إلى أن يخسر داخل دائرته أكثر مما يكسب.
أضف إلى ذلك قراءة الموقف لدى تلك اللحظة الزمنية وتقديرى لدوافع الدعوة؛ إذ إن القاعدة كانت قد تلقت ضربة موجعة فى أفغانستان خسرت على أثرها أحد أهم عقولها الحركية، وهو أبوحفص المصرى، الذى لقى حتفه فى هجمة جوية فى أكتوبر 2001، ثم خسرت خليفته فى هذا التخصص النادر، وهو أبوزبيدة، الذى ألقى القبض عليه فى باكستان فى مارس 2002، فى وقت تشرذم فيه التنظيم ولم يكن أحد يعلم، بمن فيهم كبار أعضائه، أين زعيمهم ولا أين نائبه. فى ظل هذه الظروف، كما كانت حساباتى، كان من غير المستغرب أن يحاول أحد ما أن يلم شتات التنظيم ربما عن طريق دعوة صحفى يمكن الوثوق به كى يبث من خلال قناة مرموقة عدداً من الرسائل. إلى أعضاء التنظيم: «لا تيأسوا؛ فلا يزال أحد ما فى موقع القيادة»، وإلى الأمريكان: «نحن هنا؛ لا نزال قادرين تحت أنوفكم وأنوف عملائكم على أن ندعو صحفياً يعيش فى لندن وعلى أن نقابله فى كراتشى وعلى أن نعود سالمين إلى مخابئنا وأنتم لا تبصرون».
بل إن ولعى بعلم النفس منذ كنت صغيراً، وهو من بين المعارف المفيدة فى مثل هذا النوع من العمل الصحفى، قادنى فى النهاية إلى استنتاج مفاده أن الذى دبر أضخم عملية إرهابية فى التاريخ الحديث هو فى النهاية بشر، وأن البشر عادةً يهوون الحديث عن أنفسهم وعن «إنجازاتهم»، ولربما تكون هذه هى اللحظة التى قرر عندها أحد ما أن ينسب الفضل لنفسه أو لمن يعتز به.
ورغم ذلك كله، رغم هذه الأسباب كلها والاستنتاجات كلها (وغيرها الذى لا أستطيع الحديث عنه) التى كانت كلها جزءًا من عملية حساب المخاطرة، سواء فى طريق الوصول إلى قرار على الورق أو فى طريق الوصول إلى ذلك المنزل الآمن على أرض الواقع، فإننى كنت فى غاية الحرص أثناء الإعداد وأثناء التنفيذ، مدركاً أن مفهوم «حساب المخاطرة» مفهوم ديناميكى يتغير من لحظة إلى أخرى، وأنه لا يوجد تحقيق على وجه الأرض يساوى حياة إنسان، وأن الوعد وعد والمسئولية مسئولية، وأن الصدق والأمانة والمهنية هى فى النهاية طوق النجاة الأول مهما اسودت الدنيا وتعقدت التفاصيل، وأن الله عز وجل من بعد ذلك كله ومن فوق ذلك كله هو المستعان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.