قوة سلفية تنسحب من غرب لحج بعد خلاف مع قوة أخرى في المنطقة    قوة سلفية تنسحب من غرب لحج بعد خلاف مع قوة أخرى في المنطقة    اتحاد اللجان الأولمبية الوطنية الإفريقية يكرم بشرى حجيج تقديرًا لعطائها في خدمة الرياضة القارية    الدكتور حمود العودي واستدعاء دون عودة    استعدادا لمواجهة بوتان وجزر القمر.. المنتخب الأول يبدأ معسكرة الخارجي في القاهرة    لملس يناقش مع "اليونبس" سير عمل مشروع خط الخمسين ومعالجة طفح المجاري    الكثيري يطلع على مجمل الأوضاع بوادي حضرموت    رئيس تنفيذية انتقالي شبوة يدشن مهرجان شبوة الأول للعسل    الدراما السورية في «حظيرة» تركي آل الشيخ    5 عناصر تعزّز المناعة في الشتاء!    صنعاء : قرار تعيين ..    حماس : العدو يخرق اتفاق غزة يوميا .. واستشهد 271 فلسطينيا بشهر    إدريس يدشن حملة بيطرية لتحصين المواشي في البيضاء    صنعاء.. تعمّيم بإعادة التعامل مع شبكة تحويلات مالية بعد 3 أيام من إيقافها    لحج: الطليعة يبدأ بطولة 30 نوفمبر بفوز عريض على الهلال    قبائل شدا الحدودية تُعلن النفير والجهوزية لمواجهة الأعداء    "حماس" تطالب بفتح معبر "زيكيم" لإدخال المساعدات عبر الأردن    وبعدين ؟؟    قراءة تحليلية لنص "خصي العقول" ل"أحمد سيف حاشد"    الجدران تعرف أسماءنا    اليوم العالمي للمحاسبة: جامعة العلوم والتكنولوجيا تحتفل بالمحاسبين    قرارات حوثية تدمر التعليم.. استبعاد أكثر من ألف معلم من كشوفات نصف الراتب بالحديدة    تمرد إداري ومالي في المهرة يكشف ازدواج الولاءات داخل مجلس القيادة    أبين.. حادث سير مروع في طريق العرقوب    وزارة الخدمة المدنية توقف مرتبات المتخلفين عن إجراءات المطابقة وتدعو لتصحيح الأوضاع    الأرصاد يتوقع أجواء باردة إلى شديدة البرودة على المرتفعات    عالم أزهري يحذر: الطلاق ب"الفرانكو" غير معترف به شرعا    تسعة جرحى في حادث مروع بطريق عرقوب شقرة.. فواجع متكررة على الطريق القاتل    صلاح سادس أفضل جناح في العالم 2025    سؤال المعنى ...سؤال الحياة    برباعية في سيلتا فيجو.. برشلونة يقبل هدية ريال مدريد    بوادر معركة إيرادات بين حكومة بن بريك والسلطة المحلية بالمهرة    هل يجرؤ مجلس القيادة على مواجهة محافظي مأرب والمهرة؟    الأربعاء القادم.. انطلاق بطولة الشركات في ألعاب كرة الطاولة والبلياردو والبولينغ والبادل    صدام وشيك في رأس العارة بين العمالقة ودرع الوطن اليمنية الموالية لولي الأمر رشاد العليمي    إحباط عملية تهريب أسلحة للحوثيين بمدينة نصاب    الدوري الايطالي: الانتر يضرب لاتسيو في ميلانو ويتصدر الترتيب برفقة روما    الأستاذ علي الكردي رئيس منتدى عدن ل"26سبتمبر": نطالب فخامة الرئيس بإنصاف المظلومين    الشيخ علي محسن عاصم ل "26 سبتمبر": لن نفرط في دماء الشهداء وسنلاحق المجرمين    مرض الفشل الكلوي (27)    فتح منفذ حرض .. قرار إنساني لا يحتمل التأجيل    ثقافة الاستعلاء .. مهوى السقوط..!!    تيجان المجد    الشهادة .. بين التقديس الإنساني والمفهوم القرآني    الأمين العام لجمعية الهلال الأحمر اليمني ل 26 سبتمبر : الأزمة الإنسانية في اليمن تتطلب تدخلات عاجلة وفاعلة    الزعوري: العلاقات اليمنية السعودية تتجاوز حدود الجغرافيا والدين واللغة لتصل إلى درجة النسيج الاجتماعي الواحد    قراءة تحليلية لنص "مفارقات" ل"أحمد سيف حاشد"    الأرصاد يحذر من احتمالية تشكل الصقيع على المرتفعات.. ودرجات الحرارة الصغرى تنخفض إلى الصفر المئوي    جناح سقطرى.. لؤلؤة التراث تتألق في سماء مهرجان الشيخ زايد بأبوظبي    كم خطوة تحتاج يوميا لتؤخر شيخوخة دماغك؟    الهيئة العامة لتنظيم شؤون النقل البري تعزّي ضحايا حادث العرقوب وتعلن تشكيل فرق ميدانية لمتابعة التحقيقات والإجراءات اللازمة    مأرب.. فعالية توعوية بمناسبة الأسبوع العالمي للسلامة الدوائية    مأرب.. تسجيل 61 حالة وفاة وإصابة بمرض الدفتيريا منذ بداية العام    على رأسها الشمندر.. 6 مشروبات لتقوية الدماغ والذاكرة    كما تدين تدان .. في الخير قبل الشر    الزكاة تدشن تحصيل وصرف زكاة الحبوب في جبل المحويت    الشهادة في سبيل الله نجاح وفلاح    "جنوب يتناحر.. بعد أن كان جسداً واحداً"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أخطر 48 ساعة مع رجال بن لادن
نشر في البيضاء برس يوم 20 - 04 - 2010

قبل يومين اتصل بى أحد منتجى برنامج «60 دقيقة» الشهير على شبكة «سى بى إس» الأمريكية كى يقول لى إن سبقى الصحفى مع القاعدة عام 2002 هو فى رأيه أعظم تحقيق تليفزيونى فى العالم فى السنوات العشر الأخيرة.
وقبل عامين كتب بيتر بيرجن، أحد أهم خبراء القاعدة فى أمريكا، مقالاً فى مجلة «النيويوركر» يقول فيه إن إدارة بوش لم تكن فى حاجة إلى تعذيب خالد شيخ محمد؛ فكل ما اعترف به كان موجوداً فى تحقيقات يسرى فودة.
وعندما أعلنوا عن القبض على رمزى بن الشيبة فى سبتمبر 2002 ظن بعض الناس أن لهذا علاقة بلقائى بهما الذى لم يكن معظم الناس يعلم أنه تم قبل ذلك بنحو خمسة أشهر. لكن القاعدة هى التى أصدرت بياناً بعدها بأقل من أسبوعين بدأته بالآية الكريمة: «يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة»، أكدت فيه ألا علاقة ليسرى فودة بما حدث وأنه «كان أميناً فى نقل الأحداث والوقائع التى حصل عليها من جانبنا مع تحفظنا على بعض الفقرات التى وردت فى برنامجه».
لا أقول ذلك من باب الزهو؛ فلقد تلقيت فى يوم من الأيام دعوة ممن عرفت بعد ذلك أنه أحد وسطاء القاعدة، كان يمكن أن أعتذر عن عدم قبولها وكان يمكن لهم ببساطة أن يجدوا مائة صحفى آخر يقبلونها وربما عاد أحدهم بأفضل مما عدت به. ونعوذ بالله من أن يجعلنا من هؤلاء الحمقى الذين يفتخرون بما لا يستحق الافتخار.
إذا كان ثمة مجال للاعتزاز فإن مصدره بكل تأكيد تلك الجملة فى بيان القاعدة: «كان أميناً فى نقل الأحداث». لكننى أذكر جيداً أننى عندما عدت احتفظت بما عدت به قريباً إلى صدرى إلى حين استكمال زواياه فى ألمانيا وأمريكا ومصر ولبنان والإمارات وباكستان. وعندما حانت اللحظة ودفعت بتلك الكرة الملتهبة بعيداً عن صدرى إلى العلن أصابنى رد الفعل بكثير من الإحباط. فها أنا ذا وقد خاطرت بحياتى فى ظروف كانت فى غاية القسوة أعود، والحمد لله، سالماً وبين يدىّ سبق صحفى عالمى كى تنهال السهام فى اتجاهى من كل مكان، من القريب ومن الغريب.
سأترك الحديث عن «القريب» إلى موضع آخر؛ فذلك حديث ذو شجون، وليسمح لى القارئ الكريم بالحديث اليوم عن «الغريب» فى محاولة لاستكمال ما بدأناه على هذه الصفحات قبل أسبوعين، وفى محاولة صادقة لفهم الذات ووضعها من الآخرين موضع الإعراب.
عند تلك النقطة من الزمن، سبتمبر 2002، كان قد صار لى فى بريطانيا نحو عشر سنوات، صارت هى فى أثنائها بلدى الثانى رسمياً، وصرت أنا فى أثنائها لا أتخيل قدرة على استمرار الحياة خارجها. على المستوى العملى انتقلت من دراسة الدكتوراة إلى الإسهام فى تليفزيون وإذاعة بى بى سى، وفى تليفزيون وكالة أنباء الأسوشيتدبريس، وفى صحيفتى الصنداى تايمز والجارديان، وفى مكتب قناة الجزيرة فى لندن. وعلى المستوى الاجتماعى كنت أجد نفسى مستريحاً مع قيم كثيرة من قيم الحضارة الغربية: العمل، الإخلاص، الصدق، الأمانة، الحرية، العدل، المساواة، وهى فى جوهرها قيم الإسلام الحقيقية التى حين هجرناها هجرتنا رحمة الله.
وحتى تلك النقطة من الزمن، لم أكن أتخيل أن أتحول فجأة إلى «الآخر» الذى إذا عاد بما لم يعد به الغربيون فلأن شيئاً ليس صحيحاً. كان هذا أول رد فعل وجدته فى انتظارى، تطور بعد ذلك إلى غمز ولمز وإيحاءات بأننى لا بد أن أكون عضواً فى تنظيم القاعدة، وهى أكثر التهم إرهاباً فى الغرب، خاصةً فى تلك الفترة المجنونة. حدث هذا بينما كان بعض ممن يندرجون تحت بند «القريب» يغمزون ويلمزون بل يتهموننى علناً بتسليم مسلم إلى أعدائه، وهى دائماً أكثر التهم إرهاباً فى بلادنا. كما أنه حدث بينما كان دانيال بيرل، الصحفى اليهودى الأمريكى الذى اجتثت رقبته فى باكستان قبل وصولى إليها بأسابيع قليلة، يتحول تدريجياً إلى أسطورة فى عالم الصحافة الغربية يحتفلون بها وينشئون من أجلها المؤسسات ويقدمون باسمها الجوائز. صار بيرل من الناحية الأيديولوجية النموذج الذى يقدم لمجتمع الصحفيين للاحتذاء بينما أنا وقد أتيحت لى فرصة خوض غمار تجربة مماثلة مازلت أعتقد، على الأقل من الناحية المهنية، أنه نموذج لما لا ينبغى على الصحفى أن يفعله.. نموذج أدعو معاهد الإعلام فى العالم إلى تدريسه تحت عنوان: «كيف يمكن أن تقتنص الفشل من بين أنياب المجد».
فى لحظة صدق وضع كبير المحققين الصحفيين فى جريدة «الصنداى تايمز» وقتها، نك فيلدينج، الحقيقة عارية أمامى على غير عادة الإنجليز المتحفظين بطبيعتهم: «لو كانت عيناك زرقاوين وشعرك أشقر لكنت الآن بطلاً ولحصلت على جائزة بوليتزر ولربما أيضاً وضعوا تمثالاً لك فى مانهاتن».
ثم اعتدل فى جلسته فى ذلك المطعم فى جنوب شرق لندن وأضاف: «يمكنك رغم ذلك، لو أردت، أن تحصل على بعض هذا لو كان لديك استعداد لصياغة القصة من وجهة نظر غربية». ثم صمت لحظة أخذ أثناءها يتفرس ملامحى قبل أن يمضى فى حديثه وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة ذات معنى: «ولكننى أعلم أنك لن تقوم بهذا».
كان هذا الاستنتاج الأخير هو الذى شجعنى على قبول اقتراحه بأن يشاركنى تأليف كتاب عن الموضوع باللغة الإنجليزية صدر عام 2003 بالتزامن فى بريطانيا والولايات المتحدة وأستراليا وتمت ترجمته سريعاً إلى اللغات الإسبانية والفرنسية والإيطالية والألمانية والهولندية. وكان من بين ما جاء فى الكتاب أن خالد شيخ محمد تجنب الحديث معى عن دانيال بيرل إلا عندما كان يودعنى بعد أن قضيت معهم فى ذلك المنزل الآمن فى كراتشى نحو 48 ساعة. فى تلك اللحظة وضع فى يدى بياناً مطبوعاً عن عملية «جربة» فى تونس وعدداً من الأشرطة والأسطوانات الممغنطة من بينها شريط كامل عن عملية ذبح دانيال بيرل. بعد عودتى شاهدت الشريط مرة واحدة كانت كافية كى تنتابنى الكوابيس على مدى الشهور الثلاثة التالية.
نقطتان أساسيتان ينبغى إيضاحهما قبل أن يسمح المرء لنفسه بتقييم تجربة واحد ممن كانوا يصعدون سريعاً نحو النجومية فى صحيفة عالمية كصحيفة «وول ستريت جورنال». أولاً: ألا أحد فى الدنيا يستحق ذلك المصير بغض النظر عن دوافعه؛ فليس ذلك من الإسلام فى شىء ولا هو من الإنسانية فى شىء، ومن ثم كل التعاطف معه فى هذه النقطة ومع أسرته وأصدقائه. وثانياً: أنه من السهل دائماً أن نطلق الأحكام من مدرجات المتفرجين على لاعب أضاع فرصة نرى أنها كانت فرصة سهلة وأن نسبه ونلعنه. ورغم ذلك يمكننا أن نتعلم من تجربة دانيال بيرل عدداً من الدروس فى مجال المغامرات الصحفية من خلال النظر إلى ثلاثة أطراف أساسية: الصائد وميدان الصيد والفريسة.
فأما الصائد فمن الواضح أنه تغاضى أكثر من اللازم عن احتمال تأثير عدد من العوامل فى شخصه كان لا بد لبعضها حين يتم اكتشافه أن يكون له أثر حاسم. من أهم هذه العوامل أنه أمريكى فى الوقت الخطأ فى المكان الخطأ، وأنه صحفى فى وقت لم ير البعض فيه مساحة واضحة بين صحافة الغرب ومخابرات الغرب ومشاعر شعوب الغرب، وأنه ينتمى لصحيفة تنتمى لليمين المتطرف المؤيد لإسرائيل، وأنه يهودى على وشك «غزو» بلد إسلامى فر إليه عدد من أبرز رؤوس القاعدة مع بنيتها التحتية من الوسطاء والمراقبين والمتعاونين، وأن له فوق هذا تاريخاً عائلياً مع الصهيونية من خلال جده الأكبر، حاييم بيرل، الذى يحمل أحد شوارع إسرائيل اسمه.
وأما ميدان الصيد فقد كان فى غاية التعقيد، خاصة فى تلك اللحظة من الزمن. نحن نتحدث عن بدايات عام 2002 عندما وصلت شقة الخلاف بين الشرق والغرب إلى أقصاها، والتهبت المشاعر على الجانبين، واختطفت الأجواء حفنة مأدلجة ذات أغراض محسوبة داخل الإدارة الأمريكية، وانحنى حكام العالم أمام الإرهاب الأمريكى، ووجد المسلمون أنفسهم فى ديارهم وفى ديار الغرب وقد التصقت ظهورهم بالحائط، وانتشرت صور المكبلين فى أزياء برتقالية فى أفغانستان وجوانتانامو، وفقدت طالبان إمارتها ولا يزال عمقها الاستراتيجى فى باكستان، وتشردت القاعدة بين قتيل وأسير وهارب، ولجأ بعض كبار رؤوسها إلى باكستان التى انتشرت فيها أيضاً عيون المخابرات الأمريكية والبريطانية والفرنسية وغيرها مع تلك الباكستانية بطبيعة الحال، ودخل هؤلاء فى حرب خفية مع طالبان والقاعدة والمتعاطفين معهما والحانقين على أمريكا وسياسات أمريكا بين العرب وإسرائيل وبين باكستان والهند.
كان هذا بأقل تقدير حقل ألغام كثيفاً ألقى دانيال بيرل بنفسه إليه مسلحاً بإحدى مفردات العمل الصحفى الاستقصائى، وهى: «الشجاعة». غير أن الشجاعة وحدها لا تكفى. إن شجاعة الصحفى دون حصافته كمحرك السيارة دون فرامل، ليس لها فى النهاية سوى مصير واحد. وقد بدأت ملامح هذا المصير تأخذ منعطفاً خطيراً فى لحظة بعينها هى فى اعتقادى اللحظة التى ينبغى أن تكون بداية الدراسة لنموذج دانيال بيرل.
بدأت هذه اللحظة عندما سمح بيرل لنفسه بأن يرتكب أول خطأ «صغير» فى حقل الألغام فنزل مصطحباً معه فقط ملامحه الغربية إلى شوارع روالبندى، قرب إسلام آباد. ثم سمح لنفسه بارتكاب خطأ «صغير» ثان عندما قرر أن يجلس ويطلب مشروباً فى أحد مقاهى مدينة لابد أنه كان يعرف أنها قلعة للجيش الباكستانى وقلعة فى الوقت نفسه لكثير من الإسلاميين. كان مثله فى جلسته هذه كمثل بطة استساغت أشعة الشمس الدافئة أمام أعين قناصة يرونها ولا تراهم. ثم سمح بيرل لنفسه بأن يرتكب خطأ «صغيراً» ثالثاً عندما رد تحية رجل غريب اقترب منه كى يتعرف عليه داعياً إياه إلى الجلوس.
من المرجح أن بيرل لم يكن يعلم أن هذا الرجل لم يكن سوى عمر شيخ سعيد، البريطانى من أصل باكستانى، ساحر الأجانب الذى اتخذ من الإيقاع بهم عبر السنوات القليلة السابقة متعة ورسالة، تماماً كما يستمتع العنكبوت ببث خيوطه الناعمة حول فريسته ويتابع منظرها وهى تستسلم هنيهة بعد هنيهة. فى ضوء هذه الحقيقة، رأى الساحر فى الصحفى فريسة سهلة تسعى إليه على قدميها بمحض اختيارها. وبهذا المعنى، حول بيرل نفسه إلى عشاء رخيص ولم يكن مضطراً إلى ذلك.
مفردة «الضرورة» ومفردة «الاضطرار» من أدق المفردات فى عملية حساب المخاطرة فى مجال التحقيقات الصحفية. ومثلما يعتمد ضابط الاستخبارات فى عمله دائماً على مبدأ «المعرفة على قدر الحاجة» ينبغى دائماً على الصحفى المغامر أن يعتمد على مبدأ «الحركة على قدر الاضطرار».
إن الله وحده هو الذى يحدد مصائرنا، لكنه فى الوقت نفسه ينصحنا بألا نلقى بأنفسنا إلى التهلكة. ولقد أخطأ بيرل عندما قام بما لم يكن مضطراً إلى القيام به وسط ما كان يعلم تماماً أنه حقل ألغام. هذه قاعدة أخرى من قواعد العمل الاستقصائى: إذا وجدت نفسك فى حقل ألغام فلا ترقص.
تقول صحيفته إنه كان يحقق فى علاقة القاعدة بريتشارد ريد الذى فشل فى ديسمبر 2001 فى نسف طائرة أمريكية عن طريق متفجرات أخفاها فى حذائه. ويقول روبرت بير، عميل سى آى إيه سابقاً، إنه كان يتعقب خالد شيخ محمد. الفارق صحفياً ليس كبيراً على أية حال لكن النتيجة، كما علمنا بعد ذلك، كانت واحدة؛ فقد سمح بيرل لنفسه بأن يتم استدراجه يوم 23 يناير 2002 إلى مطعم «القرية» فى مدينة كراتشى على أمل اللقاء بالشيخ مبارك على الجيلانى، ومن هناك تم اختطافه، ونعلم جميعاً بقية القصة.
ويقودنا هذا إلى الطرف الثالث، الفريسة، وهو الطرف الذى ينبغى دائماً أن يبقى فى مخيلة الصحفى وأمام ناظريه، تماماً كما يستقر صليب نيشان بندقية القناص على وجه فريسته إلى أن تحين اللحظة المناسبة للضغط على الزناد. إنها ليست حرباً بالمعنى المعروف ولا هى عملية اغتيال بالمعنى المعروف. وإنما يؤدى غياب صورة «الفريسة» عن عينى القناص ولو للحظة واحدة إلى احتمالات كثيرة من بينها أن تنعكس الأدوار فجأة فتتحول الفريسة إلى قناص ويتحول القناص إلى فريسة. معنى هذا أنه ينبغى على الصحفى أولاً أن يعرف كل ما يستطيع معرفته عن هدفه وأن يدرس نقاط قوته ونقاط ضعفه وأن ينهمك فى تحليل دوافعه سواء اتفق معها أو لم يتفق، والأهم من ذلك كله، الذى هو فى الوقت نفسه نتيجة لذلك كله، هو أن يرى الدنيا من منظور هدفه، طول الوقت. من شأن هذا أن يتدخل فى عملية اتخاذ القرار فى أمور قد تكون حاسمة، حتى إن بدت للبعض تافهة.
وللإنصاف، فقد كان هذا الطرف فى حالة بيرل أكثر صعوبة مما هو فى حالتى؛ إذ إنه انطلق من نقطة الصفر بينما انطلقت أنا بناءً على دعوة مبدئية. صحيح أنها كانت دعوة اكتنفتها ألغاز غامضة لأسباب أمنية واضحة، وصحيح أن معظم العبء كان لا يزال على عاتقى فى اتخاذ قرار سيلقى بى إلى بداية طريق لم تكن بى قدرة لدى تلك النقطة على رؤية نهايته، ولكننى بالمقابل كنت فى موقف أفضل لهذا السبب ولمجموعة أخرى من الأسباب. من أهم هذه الأسباب أننى مسلم، مع شديد احترامنا لكل الأديان، وأننى كنت وقتها أعمل فى وسيلة الإعلام الوحيدة التى كانوا يرون فيها متنفساً، وأن لى رصيداً من الود والاحترام المتبادل مع جمهور قناة الجزيرة والحمد لله. وهذه كلها أسباب ستؤدى بمن يمكن أن نفترض أنه يريد إيذاء صحفى من هذا النوع إلى أن يخسر داخل دائرته أكثر مما يكسب.
أضف إلى ذلك قراءة الموقف لدى تلك اللحظة الزمنية وتقديرى لدوافع الدعوة؛ إذ إن القاعدة كانت قد تلقت ضربة موجعة فى أفغانستان خسرت على أثرها أحد أهم عقولها الحركية، وهو أبوحفص المصرى، الذى لقى حتفه فى هجمة جوية فى أكتوبر 2001، ثم خسرت خليفته فى هذا التخصص النادر، وهو أبوزبيدة، الذى ألقى القبض عليه فى باكستان فى مارس 2002، فى وقت تشرذم فيه التنظيم ولم يكن أحد يعلم، بمن فيهم كبار أعضائه، أين زعيمهم ولا أين نائبه. فى ظل هذه الظروف، كما كانت حساباتى، كان من غير المستغرب أن يحاول أحد ما أن يلم شتات التنظيم ربما عن طريق دعوة صحفى يمكن الوثوق به كى يبث من خلال قناة مرموقة عدداً من الرسائل. إلى أعضاء التنظيم: «لا تيأسوا؛ فلا يزال أحد ما فى موقع القيادة»، وإلى الأمريكان: «نحن هنا؛ لا نزال قادرين تحت أنوفكم وأنوف عملائكم على أن ندعو صحفياً يعيش فى لندن وعلى أن نقابله فى كراتشى وعلى أن نعود سالمين إلى مخابئنا وأنتم لا تبصرون».
بل إن ولعى بعلم النفس منذ كنت صغيراً، وهو من بين المعارف المفيدة فى مثل هذا النوع من العمل الصحفى، قادنى فى النهاية إلى استنتاج مفاده أن الذى دبر أضخم عملية إرهابية فى التاريخ الحديث هو فى النهاية بشر، وأن البشر عادةً يهوون الحديث عن أنفسهم وعن «إنجازاتهم»، ولربما تكون هذه هى اللحظة التى قرر عندها أحد ما أن ينسب الفضل لنفسه أو لمن يعتز به.
ورغم ذلك كله، رغم هذه الأسباب كلها والاستنتاجات كلها (وغيرها الذى لا أستطيع الحديث عنه) التى كانت كلها جزءًا من عملية حساب المخاطرة، سواء فى طريق الوصول إلى قرار على الورق أو فى طريق الوصول إلى ذلك المنزل الآمن على أرض الواقع، فإننى كنت فى غاية الحرص أثناء الإعداد وأثناء التنفيذ، مدركاً أن مفهوم «حساب المخاطرة» مفهوم ديناميكى يتغير من لحظة إلى أخرى، وأنه لا يوجد تحقيق على وجه الأرض يساوى حياة إنسان، وأن الوعد وعد والمسئولية مسئولية، وأن الصدق والأمانة والمهنية هى فى النهاية طوق النجاة الأول مهما اسودت الدنيا وتعقدت التفاصيل، وأن الله عز وجل من بعد ذلك كله ومن فوق ذلك كله هو المستعان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.