واضحة، وصحيح أن معظم العبء كان لا يزال على عاتقى فى اتخاذ قرار سيلقى بى إلى بداية طريق لم تكن بى قدرة لدى تلك النقطة على رؤية نهايته، ولكننى بالمقابل كنت فى موقف أفضل لهذا السبب ولمجموعة أخرى من الأسباب. من أهم هذه الأسباب أننى مسلم، مع شديد احترامنا لكل الأديان، وأننى كنت وقتها أعمل فى وسيلة الإعلام الوحيدة التى كانوا يرون فيها متنفساً، وأن لى رصيداً من الود والاحترام المتبادل مع جمهور قناة الجزيرة والحمد لله. وهذه كلها أسباب ستؤدى بمن يمكن أن نفترض أنه يريد إيذاء صحفى من هذا النوع إلى أن يخسر داخل دائرته أكثر مما يكسب. أضف إلى ذلك قراءة الموقف لدى تلك اللحظة الزمنية وتقديرى لدوافع الدعوة؛ إذ إن القاعدة كانت قد تلقت ضربة موجعة فى أفغانستان خسرت على أثرها أحد أهم عقولها الحركية، وهو أبوحفص المصرى، الذى لقى حتفه فى هجمة جوية فى أكتوبر 2001، ثم خسرت خليفته فى هذا التخصص النادر، وهو أبوزبيدة، الذى ألقى القبض عليه فى باكستان فى مارس 2002، فى وقت تشرذم فيه التنظيم ولم يكن أحد يعلم، بمن فيهم كبار أعضائه، أين زعيمهم ولا أين نائبه. فى ظل هذه الظروف، كما كانت حساباتى، كان من غير المستغرب أن يحاول أحد ما أن يلم شتات التنظيم ربما عن طريق دعوة صحفى يمكن الوثوق به كى يبث من خلال قناة مرموقة عدداً من الرسائل. إلى أعضاء التنظيم: «لا تيأسوا؛ فلا يزال أحد ما فى موقع القيادة»، وإلى الأمريكان: «نحن هنا؛ لا نزال قادرين تحت أنوفكم وأنوف عملائكم على أن ندعو صحفياً يعيش فى لندن وعلى أن نقابله فى كراتشى وعلى أن نعود سالمين إلى مخابئنا وأنتم لا تبصرون». بل إن ولعى بعلم النفس منذ كنت صغيراً، وهو من بين المعارف المفيدة فى مثل هذا النوع من العمل الصحفى، قادنى فى النهاية إلى استنتاج مفاده أن الذى دبر أضخم عملية إرهابية فى التاريخ الحديث هو فى النهاية بشر، وأن البشر عادةً يهوون الحديث عن أنفسهم وعن «إنجازاتهم»، ولربما تكون هذه هى اللحظة التى قرر عندها أحد ما أن ينسب الفضل لنفسه أو لمن يعتز به. ورغم ذلك كله، رغم هذه الأسباب كلها والاستنتاجات كلها (وغيرها الذى لا أستطيع الحديث عنه) التى كانت كلها جزءًا من عملية حساب المخاطرة، سواء فى طريق الوصول إلى قرار على الورق أو فى طريق الوصول إلى ذلك المنزل الآمن على أرض الواقع، فإننى كنت فى غاية الحرص أثناء الإعداد وأثناء التنفيذ، مدركاً أن مفهوم «حساب المخاطرة» مفهوم ديناميكى يتغير من لحظة إلى أخرى، وأنه لا يوجد تحقيق على وجه الأرض يساوى حياة إنسان، وأن الوعد وعد والمسئولية مسئولية، وأن الصدق والأمانة والمهنية هى فى النهاية طوق النجاة الأول مهما اسودت الدنيا وتعقدت التفاصيل، وأن الله عز وجل من بعد ذلك كله ومن فوق ذلك كله هو المستعان.