لم تعد بيده أدنى حيلة؛ فقد إمكانات المراوغة والمناورة، سقطت من يده مقومات الدفاع، هو الآن خائف يترقب في حيرة من أمره كالمتخبط بالمس..وجد صالح نفسه تائها في صحراء قاحلة ليس فيها غير السراب الذي لن يجده شيئا وسيجد الشعب عنده وسيوفيه حسابه. تقطعت به السبل، تخلى عنه أصدقاؤه قبل خصومه، فقد جميع الكروت التي صارت غير قابلة للتعبئة والشحن، تبرأ حلفاء الشدة عنه يوم ضيقه فزادوا من شدته. صار باني اليمن ومحقق وحدته المطلوب رقم (1) في اليمن، لن يسعفه الحظ والزمن من الفرار من وجه العدالة الشعبية والأرضية والسماوية. سيتحول أحد أكبر أغنياء زعماء العالم إلى سجين معسر. لم تعد 555 كم2 تتسع لموطئ قدم «القائد الرمز» محصور في بقعة صغيرة من المعمورة اليمنية لا تتعدى ال 2 كم2، صارت تحصيناته أوهن من خيوط العنكبوت. إنه اليوم مفلس؛ نسفت سيئاته حسناته، لن تغطي محامده الملايين من أبناء الشعب الذين لن يتسعها كتابه، تغطي وجهه اليوم غبرة وقترة شديدة، افتقاره للذكاء في هذه اللحظة فوت عنه فرص الخروج المشرف والآمن الذي كان ينشده. على غير العادة، وجد صالح نفسه الجمعة الماضية التي أسميت ب»جمعة النظام والقانون» غير قادر على الخروج على من تبقى من أنصاره في ميدان السبعين القريب من دار الرئاسة، فشل في حشد أنصاره التي دأب الإعلام الرسمي على نعتهم بالملايين؛ وقليل ممن عرضهم التلفزيون الرسمي والموالي وقال إنهم تجمعوا أمام منصة السبعين عادوا بخيبة أمل بعد غياب صالح عن الحضور وإلقاء خطاب مقتضب هو ما تبقى له من الحكم -على افتراض إنه يحضر فعلا- تقهقروا بدون أن تقر أعينهم برؤيته ومرت الجمعة بلا خطاب.. جزء كبير من الجموع تحول إلى ميدان الستين والبقية إلى جامع الصالح الذي فتح لأول مرة منذ 3 أشهر. «إجراءات احترازية واعتبارات أمنية تقرر اتخاذها»، تلك هي المبررات التي وردت في الرواية الرسمية. يعني هذا أننا سنكون أمام مرحلة الخطابات المسجلة سلفا والتي تسلم في أشرطة تسجيل؛ خلال الأيام المتبقية من عمر صالح الذي يحتضر في دهاليز الرئاسة. ولعلنا نتذكر الخطابات المسجلة للرئيس مبارك قبل ساعات من تنحيه عن الحكم. في اجتماع استثنائي مشترك للجنة الدائمة الرئيسية للمؤتمر الشعبي العام والهيئات القيادية لأحزاب التحالف الوطني الديمقراطي غاب عنه نائب الرئيس الأمين العام للمؤتمر الشعبي العام ورئيس الوزراء ومستشار الرئيس السياسي عبدالكريم الإرياني، وظهر صالح مذعورا، تعود أن يرى قيادات تاريخية وبارزة في اجتماع كهذا؛ حاول تمالك أنفاسه والتظاهر بالقوة والثبات. قال حينها: «هناك عناصر رحلت من المؤتمر ونحن غير نادمين على رحيلهم ولكن الخير في الإخوة والأخوات الصامدين والصامدات». وحاول التمسك بمن تبقى ممن وصفهم بالرجال المخلصين الثابتين على مبادئهم باحثا عن «كل القيادات الوطنية والتي عرفناها تثبت في أيام الشدائد وتقف على أقدامها لتواجه كل أنواع التحديات، إنهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وهم اليوم يقفون في الظروف الصعبة». إنه يعبر عن تساقط جميع الأوراق من يده: الحزبية، الأمنية، الجيش، القبيلة، القاعدة، الانفصال، الشرعية الدستورية، الورقة الشعبية.. لم يبق بيده غير ورقة الحرب الأهلية التي يحاول جاهداً الرهان عليها، وهي الورقة التي لن تثمر والرهان عليها خاسر سلفا. صالح، الرجل المريض؛ هو أيضا الرجل العجوز الذي أثبتت له الأيام فشل حيلة الرقص على رؤوس الثعابين بعد أن تلقفت عصا الثورة ما صنع. هو اليوم في وضع الطائحة التي تحاول التشبث بكل شيء. بقي له فقط أن يختار طريقة نهايته التي ينتظرها اليمنيون على أحر من الجمر، وبالتأكيد لن تكون مشرفة كما أراد. لم تعد بيد صالح أدنى حيلة؛ فقد إمكانات المراوغة والمناورة، سقطت من يده مقومات الدفاع، بات في حيرة من أمره كالمتخبط بالمس.. لم يعد يستطيع فعل شيء أو قول شيء. مثلا بأي وجه يمكنه مخاطبة أبناء الشعب الذي فرض عليهم حصارا مشددا وحول العاصمة صنعاء إلى خرابة مهجورة إذ قطع عنها الكهرباء والنفط والغاز وخدمة الانترنت والماء ووجه أنصاره بقطع معظم الشوارع، وفوق ذلك حول العاصمة إلى محمية خاصة به حين أغلقها في وجه المواطنين ومنعهم من الدخول؟ سيناريوهات النهاية غير المشرفة صالح، لم يعد صالحا للبقاء في اليمن فضلا عن أنه لم يعد صالحا لحكم اليمنيين، لم يعد يمتلك شرعية العيش في اليمن غير شرعية «يمني» التعريفة المكتوبة في بطاقة هويته. بالتأكيد سيكون وغيره من الدكتاتوريين السابقين له واللاحقين به «آية» لأجيال الزمن القادم.. أبلغ عبرة أن إرادة الشعوب من إرادة الله الذي يمهل ولا يهمل. وبقدر ما تكون البداية مشرقة ربما تكون النهاية محرقة، تلك هي سنن الحياة «وتلك الأيام نداولها بين الناس». لا ندري كيف ستكون نهايته التي باتت قاب قوسين أو أدنى، وإذا لم يختر السيناريو التونسي أو المصري أو ملامح نهاية الرئيس القذافي، ستكون نهايته بالتأكيد مخزية. وأيا كانت سيناريوهات نهايته، فجميعها طرق تنتهي حتما بنهاية حكمه الممتد ل 33 عاما بعد الإجماع الشعبي والإقليمي والدولي على ضرورة تنحيه الفوري عن السلطة. الجمعة الماضية، أعلن شباب الثورة الشعبية السلمية عن منح لقب «بطل الثورة» لمن ينجح في القبض على صالح، فيما تعهد الشيخ صادق الأحمر في تصريح لقناة العربية الخميس الماضي بأن صالح سيرحل «حافي القدمين». وتعهد الشيخ حميد الأحمر في تصريحات صحفية بتنفيذ «قرار الشعب اليمني العظيم بإسقاط النظام وتقديم علي صالح وأبنائه وأعوانه من القتلة للمحاكمة على جرائمهم». وفي اتجاه آخر، أهدر وجهاء قبليون الخميس الماضي دم الرئيس صالح على خلفية سقوط عشرات القتلى والجرحى في قصف مدفعي وصاروخي لمنزل الشيخ الأحمر بصنعاء الثلاثاء الماضي بعد مكالمة هاتفية بين صالح ورئيس لجنة الوساطة اللواء غالب القمش رفض خلالها صالح الاستجابة لدعوة وقف إطلاق النار من جانب قواته بعدما أبلغه القمش أن آل الأحمر توقفوا. سلوك مهاجمة الوسطاء أرجأه اللواء الركن علي محسن الأحمر قائد المنطقة العسكرية الشمالية الغربية، قائد الفرقة الأولى مدرع، في بيان له إلى ما وصفه ب «الهوس والجنون والعقد المزمنة في تركيب شخصية الديكتاتور الغريبة جعلته يتخصص في الغدر بالوسطاء والرسل الذين دأب العالم بكافة نحله وملله على احترامهم كتقليد إنساني متجذر في تاريخ البشرية الطويل حتى في أقذر الحروب». فيما قال الشيخ خالد العواضي -أحد كبار وجهاء اليمن- في تصريح له إن صالح ارتكب «العيب الأسود» بحق قبائل اليمن من خلال قصفهم وهم يسعون كلجنة وساطة. فيما قال عضو لجنة الوساطة الشيخ فيصل مناع إن القبائل تخلت جميعها عن صالح وأهدرت دمه وأنه صار لا يملك أحدا من كل قبائل اليمن. لقد أدخل صالح نفسه في ثأر مع الشعب ومع أبناء القبيلة وبالأخص مع أولاد الشيخ الأحمر. لا يمكنه -فيما إذا أراد وحسب ما يكرر قوله في خطاباته- من البقاء في اليمن والتحول إلى معارض سياسي على رأس حزب المؤتمر الشعبي وأن يعود -كما قال- إلى مسقط رأسه في سنحان. بات هذا الحلم من ضرب المستحيل. لقد تجاوز الحدود الأخلاقية والأعراف والعادات القبلية وخالف الدستور والقانون والمواثيق الدولية وفوق ذلك خرج للشعب الذي يدعي أنه انتخبه في 2006 الذي خرج بسلوك سلمي وحضاري بالرصاص الحي والقناصة؛ خرج للشباب العزل بالأسلحة الرشاشة وخرج لمشائخ القبائل الآمنين في بيوتهم بالصواريخ وقاذفات المدافع. إنه يقف أمام خيارين أحلاهما مر: خيار المبادرة وإعلان التنحي الفوري وخيار الانتظار حتى تنحيته رغم أنفه. مطالب شعبية متصاعدة ومواقف دولية ضاغطة حصار مشدد فرضه الشعب والمجتمع الدولي على صالح. حماقاته أوقعته في فخ العزلة وزادت وستزيد من بؤس نهايته الطامة، إنها معجزة خارقة في سيرة ولاة الأمر وسلاطين البشرية. قامت قيامة صالح، يلتفت يمنة ويسرة ولا يجد غير الجندي والصوفي واليماني والنهاري وطارق الشامي. وجد صالح نفسه بين جبهتين من الصعب عليه التحكم بها أو مراوغتها والتحايل عليها: الجبهة الشعبية المتصاعدة والجبهة الدولية الضاغطة وسط مطالبة متصاعدة للمجتمع الدولي برفع الغطاء عن صالح وتبني المطالبة الشعبية بإسقاط النظام واحترام قرار الشعب في إنهاء حكمه. وأحدث رفض صالح المبادرة الخليجية -بنسختها الخامسة- تحولات في الموقف الدولي من نظام صالح فتزايدت الدعوات الدولية لصالح بالتنحي الفوري. ففيما دعاه كل من الرئيس الأمريكي، ورئيس الوزراء البريطاني إلى التنحي الفوري عن السلطة، شددت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي على دعوة الاتحاد ل»صالح» بضرورة الرحيل الفوري، معربة عن أملها -في بيان- بأن يصغي «لطلبات الشعب اليمني وأصدقاء اليمن». وحث زعماء مجموعة الثماني صالح على الالتزام بتعهده بإنهاء حكمه الممتد منذ 33 عاما. كما دعاه رئيس الوزراء الكندي ستيفن هاربر إلى الرحيل عن السلطة بصورة سريعة. تركيا هي الأخرى طالبته بضرورة تقديم استقالته وتنحيه عن الحكم بالسرعة الممكنة. وفي ذات الوقت طلبت وزارة خارجية دولتي أمريكا وبريطانيا من دبلوماسييها غير الرئيسيين مغادرة صنعاء، مع تحذير رعاياها من السفر إليها. فيما أعلنت دولة قطر تعليق أعمال سفارتها بشكل مؤقت وسحب أعضاء بعثتها الدبلوماسية. وفي تطور لاحق، تخلت المملكة العربية السعودية «نهائياً» عن دعم صالح وطالبته بالتخلي عن السلطة بشكل «عاجل». وقال الإعلامي السعودي الدكتور سليمان الهتلان إن الملك عبدالله بن عبدالعزيز أبلغ صالح في اتصال هاتفي السبت بوجوب تخليه عن السلطة بعد المواجهات الدموية مع آل الأحمر في صنعاء. فيما ذكرت صحيفة القدس العربي أن دول الخليج قررت الخميس إحالة الملف اليمني إلى مجلس الأمن لاتخاذ قرار حاسم بإزاحة صالح فورا عن السلطة. كان صالح قال في اجتماع للجنة الدائمة للمؤتمر الشعبي العام إن «الملك عبدالله معنا لكن الذي تحته ضدنا لأنهم ينفذوا السياسة الأمريكية في اليمن»، وفهمت رسالته على أنه نوع من مواصلة اللعب على التباينات في الموقف الخليجي على مستوى النظام السعودي. وقال يومئذ -أيضا- إنه لا يريد أن يكون حجر عثرة أمام المجتمع الدولي الذي يمثل اليوم في الجهة المقابلة لضغط الثورة الشعبية حجر عثرة قوية أمام طموحه في الاستمرار على الكرسي.