يوم السبت 12 من يوليو 1997، في إحدى مستشفيات مصر/ القاهرة، لفظ أنفاسه الأخيرة شهيداً، الكاتب والمؤرخ السياسي والمفكر الثوري والتقدمي اليمني الكبير الدكتور «محمد علي الشهاري». مات المفكر العظيم ودفن بمصر في «مقبرة اليمنيين»، في جو من الصمت التام، لأن أجهزة الإعلام امتنعت حتى عن مجرد نعيه، لأنه معارض وطني ثوري لم يساوم يوماً ما على مبادئه. قضى الدكتور «الشهاري» معظم حياته متنقلاً بين المنافي، وكان يحلم قبيل موته أن يعود إلى الأرض اليمنية، ليقضي فيها بقية عمره، ويدفن فيها، لكن أمنيته لم تتحقق. عاشق الأرض اليمنية والمدافع عن سيادتها، لم يستطع أن يحصل على أمتار منها ليدفن فيها. تعرفت على الدكتور «محمد علي الشهاري»، وأنا طالب في الثانوية بتعز، عام 1964، وهو يلقي خطاباً حماسياً ضد «النقطة الرابعة الأمريكية». كان الخطاب ثورياً يتميز بالوضوح والوطنية. كان الدكتور «الشهاري» من النخبة اليسارية الذين استطاعوا نشر الوعي الاشتراكي العلمي، والخطاب الوطني الثوري الذي شكل ظاهرة هامة خلال الستينيات والسبعينيات، ولكن أعداء الحرية والتقدم تمكنوا منذ عام 1967، من تغليب خطابهم الرجعي التكفيري، واضطهاد معارضيهم، وفي مقدمتهم حي الدكتور الشهيد. خلال إقامته منفياً سياسياً في مصر، منذ عام 1967، لم يضيع وقته كما فعل ويفعل معظم السَّاسة والمثقفين أصحاب الأرصدة المتضخمة في البنوك الأجنبية، لقاء بيع الوطن والشعب، وإنما انكب الدكتور على التفكير والبحث والكتابة حول اليمن والعالم العربي خصوصاً، فأبدع عشرات الكتب والمقالات والبحوث، ومنها: 1. الخروج من نفق الاغتراب وإحداث ثورة ثقافية في اليمن. 2. اليمن الثورة في الجنوب والانتكاسة في الشمال. على أن أهم مؤلفاته هو «الأطماع السعودية التوسعية في اليمن»، وهو جزء من الأطروحة التي نال بها درجة الدكتوراه من «ألمانيا»، وفضح فيها الرجعية السعودية، ووثق مؤامراتها ضد اليمن، واحتلالها لأراضيه وأطماعها في ما تبقى منها. تميزت كتابات الدكتور «الشهاري» بالعلمية، والعمق الفكري، والصدق الذي سبب له الكثير من المشاكل والعداوات والمضايقات، والتعرض للأذى والإساءات، بل ومحاولة الاغتيال. ولم يثن ذلك حي المفكر العظيم، بل قابل كل ذلك بمزيد من البحث والتقصي، وتقديم البراهين التي تثبت صحة استنتاجاته، والامتناع عن سب خصومه أو التعرض لأشخاصهم كما فعلوا هم معه، كما قال عنه حي الشهيد والمثقف الثوري «جار الله عمر». كانت الكلمة سلاح الدكتور «الشهاري» الأمضى، والمعرفة ثروته الأهم، وكان يطرح أفكاره بشجاعة، ولا يكتب أو يقول إلا ما يعتقد أنه الحقيقة. كان الكاتب المبدع شجاعاً في مواجهة الجميع، بحيث لم تقتصر كتاباته النقدية على النظام السياسي الذي كان يعارضه في شمال اليمن، بل طالت حتى النظام اليساري الذي كان قائماً في الجنوب، وشمل النقد أيضاً أحزاب المعارضة التي كان ينتمي إليها بالفكر والمواقف معاً، كما خصص حيزاً مهماً لإعادة قراءة وتقييم حركة الأحرار اليمنيين، دورها، وأسباب هزيمتها، وتوصل إلى عدد كبير من الاستنتاجات التي أكدت الأحداث والسنوات صدقها، وصواب التقييمات التي صدرت عن صاحبها. أثناء وجوده في مصر، كتب في أعظم مجلاتها، ومنها: «الكاتب»، «الطليعة»، و»روز اليوسف». وقد تسببت كتاباته في غضب الدوائر الرجعية العربية، وبالذات السعودية، التي تمكنت من إقناع الحكم في مصر بقيادة «أنور السادات»، بطرد الدكتور «محمد الشهاري» من مصر. عبّر لي عدة مرات عن خيبة أمله في بعض القوى لمشروع التحديث والتنوير في اليمن، خاصة بعد حرب الوحدة والموت عام 1994. عاش المفكر العظيم الدكتور «الشهاري»، ظروفاً معيشية صعبة، ومات وهو لا يملك حتى ثمن العلاج. كان بإمكانه أن يسلك طريق الارتزاق في الحصول على الجاه والمال، وقد كان ذلك متاحاً وممكناً. ولكنه فضل السير على درب الآلام، وهو يعلم أن الطريق طويل ومليء بالأشواك، وفضل أن يسبح ضد التيار، وأن يصمد أمام كل وسائل الإغواء والقمع، كما قال عنه أحد رفاقه في رثائية له نشرت بصحيفة «الثوري». أخبرني الكاتب التقدمي الأستاذ «أحمد الحبيشي»، أن الدكتور «الشهاري» الذي كان يعاني من الفقر المدقع، هو الوحيد الذي رفض قبول معونة من السعودية، والتي حصل عليها كل الهاربين من اليمن إلى مصر بعد حرب الوحدة والموت 1994. قبل ذلك حينما طرده «أنور السادات» من مصر، تحت إلحاح الحكام السعوديين، عرض عليه البعثي الشهير الدكتور «قاسم سلام»، مبلغاً من المال، ولكن الدكتور «الشهاري» رفض قبوله، وما زال كل من «د. قاسم سلام»، والأستاذ «أحمد الحبيشي»، على قيد الحياة. أكتب هذا بمناسبة إصرار أحد الأشخاص في رئاسة الوزراء على قطع مبلغ «30 ألف ريال»، مقابل سكن لأرملة الشهيد التي لا تملك سوى المعاش الشهري الضئيل، وهي المناضلة التي شاركت المفكر العظيم نضاله وإنجازاته حتى إعادة مسكنه المنهوب الذي يقع في «المدينة الليبية»، والذي تم إعطاؤه بعد حرب الوحدة والموت 1994، لأحد أتباع «الزمرة» من أتباع «عبد ربه منصور هادي» العسكريين، وذلك بعد رحيل الدكتور «الشهاري» خارج اليمن، منفياً مرة أخرى.