بينت نتيجة هزيمة الغزو الثاني للجنوب الذي جاء مكملا للغزو الأول ومحاولة لترسيخه وتأبيده، بينت الكثر من المفارقات التي كان كاتب هذه السطور قد تعرض لها في تناولات سابقة بما في ذلك المداخلة المقدمة إلى ندوة "القضية الجنوبية وأزمة الحامل السياسي" التي نظمتها الجالية الجنوبية في مدينة شيفيلد بمناسبة الذكرى الثانية والخمسين لثورة الرابع عشر من أكتوبر المجيدة. ولأنني لا أرغب في الاسترسال في المقدمات فإنه يمكنني تلخيص تلك المفارقات في الآتي: حضور الجاهزية القتالية وغياب الجاهزية السياسية: لقد اكد سير العمليات العسكرية ومواجهة قوى الغزو والعدوان (القديم الجديد) على حضور جاهزية قتالية عالية لدى المواطنين الجنوبيين، وكانت الأعمال البطولية التي خاضها المقاومون الجنوبيون ضد المليشيات الغازية، تعبيرا واضحا عن توق منقطع النظير للتحرر والانعتاق من التبعية لقوى الغزو والعدوان، ومع عدم تجاهل الدور الكبير للتدخل العربي من قبل قوات التحالف فإن المقاومة الباسلة التي أبداها الجنوبيون قد أبرزت تفوقا كبيرا في معركة الإرادات بين قوات الغزو والمقاومة الجنوبية وإن تدخل الأشقاء من دول التحالف قد لعب دور المسرع لعملية الانتصار الحازم الذي حققته المقاومة، وبمقابل هذه الجاهزية القتالية تبين أن الجاهزية السياسية ما تزال دون المستوى المأمول وهو ما تجلى في غياب الطليعة السياسية التي كان يمكن لها أن ترسم الأهداف الاستراتيجية والوسائل التكتيكية لما قبل وما بعد المعركة العسكرية، وبالتالي تعرض الانتصار الكبير الذي تحقق للتبدد والخفوت وغياب الأثر المباشر لهذا الانتصار على حياة المواطنين في المناطق المحررة، لقد انحصر الانتصار في دحر القوات الرسمية الغازية، لكنه لم يمتد لصناعة انتصارات إضافية تحمي النصر الكبير، كما لم يأبه صانعوا هذا الانتصار لما ينبغي فعله بعد إحراز النصر. غياب الاتصال بين السياسي والعسكري (العملياتي): إن السبب في كل هذا هو غياب جسور الاتصال بين المقاومة المسلحة والقوى والأحزاب والمكونات السياسية، فبالرغم من البيانات السياسية الصادرة عن بعض المكونات السياسية والأحزاب والقوى الحراكية المختلفة والتي تؤيد المقاومة وتندد بالعدوان، وبالرغم من انخراط الآلاف من المنتميين إلى القوى السياسية والمكونات الحراكية في معارك المقاومة، فإن سير عمليات المقاومة قد جرى بمنأى عن أي نهج سياسي محدد وبعيدا عن أي خطة سياسية تترجمها العمليات العسكرية للمقاومة، . . .لقد كانت المقاومة المسلحة تعبيرا مكثفا عن تلهف الشعب الجنوبي بكل قواه وشرائحه، ومكوناته السياسية المختلفة، للحرية والاستقلال، لكنها لم تكن تنطلق من رؤية سياسية تحدد أهدافا قريبة وبعيدة وتميز بين ما هو آني وبين ما هو بعيد المدى، كما لم تحدد مراحل العملية العسكرية وومهمات كل مرحلة وعلاقة ذلك بالأهداف السياسية القابلة للتحقيق ووسائل تحقيق تلك الأهداف، وباختصار لقد غابت العلاقة بين ما هو سياسي وبين ما هو عسكري وعملياتي وهو ما قد ينعكس سلبا على ما يتطلع إليه الجنوبيون من نتائج للانتصارات المتحققة في المواجهة مع تحالف الغزاة. سوء استثمار نتائج المعركة وتوظيفها لخدمة مستقبل القضية الجنوبية وترجيح كفتها في أي عملية سياسية من شأنها الاستجابة لمطالب المواطنين الجنوبيين، وقد تجلى ذلك بانصراف المقاومين الأبطال وقبلهم السياسيين إلى التغني بالنصر والمباهاة به، وهذا من حق الجميع، لكن للأسف الشديد تبدى للجميع أن النصر العسكري جاء وكأنه مقطوع الصلة بالقضية الجنوبية، حيث عادت لغة السياسيين إلى مربع ما قبل الحرب رغم التغير الكبير الذي أحدثته نتائج الحرب والمعطيات الجديدة والكبيرة التي أتت بها لصالح القضية الجنوبية. من الواضح أن غياب البرنامج السياسي بحديه الأدنى والأعلى، وقبل هذا وبعده غياب الحامل السياسي للقضية الجنوبية، والمفترض فيه القدرة على صناعة الأحداث والتقاط المتغيرات وتوظيفها لخدمة تطلعات الشعب الجنوبي، كل هذا قد جعل الحرب ونتائجها (العاصفة) قد بدت كحدث مفاجئ ومزلزل ووجه بقوة واستبسال، لكن دون الالتفات لما ينبغي أن يأتي بعده وماذا على الفاعلين السياسيين عمله للانتقال إلى الخطوة التالية وما يلها من خطوات. وهذا ما سنتاوله في حلقة قادمة بإذن الله. تأملات في مآلات القضية الجنوبية ما بعد دحر العدوان(2)* أشرنا في الحلقة السابقة إلى أن نتائج الحرب على الجنوب وهزيمة العدوان قد بينت مفارقات عجيبة أهمها 1) حضور الجاهزية القتالية وغياب الجاهزية السياسية، 2) الانفصال التام بين ما هو سياسي وما عسكري، و3) سوء استثمار نتائج التي صنعتها المعركة لتوظيفها لخدمة القضية الجنوبية. لقد كان الكثيرون يتوقعون أنه وبمجرد سقوط عدن والمدن المجاورة لها في لحج والضالع وأبين وشبوة سوف تبسط المقاومة الجنوبية نفوذها على تلك المناطق وتبدأ في طرح شروطها وتصورها لصيرورة الأحداث ما بعد التحرير، لكن شيئا من هذا لم يحصل وربما يعود السبب الرئيسي في هذا إلى غياب الحامل السياسي المؤهل لخوض غمار المعركة السياسية بعد الانتصار في المعركة العسكرية. من المفارقات التي كشفت عنها نتائج الحرب ذلك التزاوج العجيب بين مكونات المقاومة المسلحة التي تنشد الاستقلال واستعادة دولة الجنوب، وبين السلطة الشرعية التي تمثل شكلا ومضمونا جوهر السلطة التي يناضل ضدها الجنوبيون ويسعون إلى استعادة دولتهم منها، . . .هذا بطبيعة الحال ليس دعوة للتمرد أو الصراع مع سلطة الرئيس عبدربه منصور وحكومته، لكن التوافق الذي نشأ بين ثنائية (المقاومة الاحتلال) وثنائية (الشرعية الانقلاب) لا يمكن أن يعني تناسي الجنوبيين ومقاومتهم للهدف الرئيسي من المقاومة التي خاضوها ضد الغزاة المعتدين، وهو استعادة دولتهم المنهوبة، لكن ما جرى هو الاكتفاء بدحر الغزاة وانتظار السلطة الشرعية لتعود للسيطرة على الأرض، ومن ثم بدء مرحلة جديدة لا يعرف المقاومون ولا القادة السياسيون ملامحها ومهماتها ولا إلى أين تتجه. وفي سياق عدم استثمار نتائج الحرب تأتي العودة إلى نضال المناشدات والبيانات دونما إحداث تغييرات واقعية على الأرض لخدمة القضية الجنوبية، فلقد فوت الجنوبيون فرصة ذهبية قد لا تتكرر وهي تفكك جبهة الخصوم وانشغالهم بحربهم في ما بينهم، وخلو الساحة للجنوبيين، وتغير ميزان القوى لصالح القضية الجنوبية، لكن غياب الحامل السياسي الجاهز لتولي مهمات ما بعد التحرير ودحر العدوان، وبالتالي إخلاء الساحة للعابثين والإرهابيين الذين يستمدون طاقاتهم من نفس المشكاة التي جاء منها الغزاة قد حرم الجنوب والجنوبيين من إمكانية جني ثمار تلك المعركة العظيمة. من المؤسف القول أن الساسة الجنوبيين لم يتعلموا الكثير من الدروس لا من تجربة المقاومة السلمية التي دامت عشرين عاما وتكللت بانبثاق ثورة الحراك السلمي التي دوى صوتها في مسامع القاصي والداني، ولا من تجربة المقاومة المسلحة وما صنعته من نتائج مبهرة كان يمكن أن تشكل لحظة الانعطاف الرئيسية لاستعادة الدولة الجنوبية بعد عقدين من اختطافها. الجبهة الوطنية العريضة هي الحل! ومع كل ذلك فإن الفرصة لم تفت كليا وما يزال بيد المقاومة والقوى السياسية الجنوبية الكثير مما يمكن عمله من أجل استعادة زمام المبادرة واستلهام العبر من تجربت مواجهة الغزو النادرة التي أبرزت وحدة الجنوبيين وقدرتهم على صناعة معجزات يمكن أن تكون مدخلا لاختياراتهم المستقبلية المختلفة، وهنا لا بد من العودة إلى التأكيد أن المقاومة المسلحة التي فرضت نفسها كقوة فاعلة في الساحة الجنوبية ينبغي أن تظل عاملا مهما في تحديد وجهة الأحداث وسيرورتها المستقبلية، وهو ما يقتضي إعادة هيكلة المجاميع المقاومة على نحو يمنحها المكانة السياسية اللائقة بها كقوة فعل سياسي مدني بناء لا كقوة مقاتلة فقط. إن الدعوة لتوحيد المقاومة المسلحة لا يعني تجاهل بقية المكونات السياسية الجنوبية، بمختلف تشكيلاتها ومستوياتها، وحيث إن التجربة المرة للسنوات المنصرمة أثبتت عدم قدرة الساسة الجنوبيين عن الاتفاق على عوامل مشتركة تقرب بينهم ولا تلغي استقلاليتهم، فإن الجناح السياسي للمقاومة المسلحة يمكن أن يكون اليوم هو المحور الأساسي لعمل تحالفي عريض يساعد على إنتاج حامل سياسي موحد لكل ألوان الطيف السياسي الجنوبي، وذلك من خلال تبني الدعوة لقيام جبهة وطنية عريضة تنضوي فيها كل القوى السياسية الجنوبية المؤمنة بالحرية والاستقلال واستعاد الكيان الوطني الجنوبي المستقل. ولكي لا أكرر الخوض في مفهوم الجبهة الوطنية العريضة الذي كنت قد تناولته في أكثر من وقفة أشير إلى أن هذا الشكل السياسي يجب أن يقوم على أساس القاسم المشترك الأعظم لكل الساسة الجنوبيين وهو الحرية والاستقلال والدولة الجنوبية كاملة السيادة على كل أرض الجنوب بحدود العام 1990م، والاتفاق على الطرائق والوسائل المحققة لهذا الهدف الكبير، مع حق كل كيان أو مكون سياسي الاحتفاظ بتميزه واستقلاليته السياسية والايديولوجية ورؤيته الاقتصادية وغيرها من المواقف التي ينبغي أن تخضع جميعها في هذه المرحلة للهدف الأساسي وهو استعادة السيادة الجنوبية، ثم إرجاء كل قضايا الاختلاف والتباين لتحسم بالوسائل الديمقراطية المعروفة من خلال تنافس البرامج والشعارات، وما ينبغي أن يعلمه كل سياسي جنوبي أنه لم يعد بإماكن أي طرف أن ينفرد بالسيطرة على الجنوب ومصادرة قواه السياسية الأخرى، وحتى لو نجح طرف أو مجموعة أطراف في هكذا (هدف) فلن يستقر بهم الحال ولن يقبل الشعب الجنوبي بعد اليوم من يصادر إرادته أو يلغي حقه في الاختيار السياسي المستقبلي. أما استمرار المماحكات السياسية وإضاعة الفرص والعبث بالتضحيات التي قدمها شعب الجنوب فلن يعني إلا شيئا واحدا وهو أن النخبة السياسية الجنوبية لم تصل بعد إلى مستوى القدرة على صياغة البرامج ورسم الأهداف وإنتاج السياسات العقلانية الرشيدة والقابلة للتحقق، وبالتالي فإن زمنا طويلا سيقضيه الجنوب والجنوبيون بانتظار ميلاد الطبقة السياسية الجديدة القادرة على الاضطلاع بمهمة رسم السياسات الموصلة إلى استعادة الدولة الجنوبية الحرة والديمقراطية التعددية المستقلة المأمولة. ولا يفوتني هنا التأكيد على دور العامل الخارجي الذي لم يعد بإمكان أحد إغماض عينيه عنه، لكن العامل الخارجي يتوقف على قدرة الأطراف الداخلية على البرهان على كفاءتها في مواجهة التحديات والنجاح في امتحان إدارة البلد، وهو حديث يمكن التوقف عنده في مناسبة قادمة.