الجيش الوطني يفشل محاولات تسلل حوثية بتعز ويقتل 4 عناصر    انتقالي طور الباحة بلحج يقف أمام جملة من القضايا في المديرية    العلامة مفتاح يؤكد على مضاعفة الجهود لتوفير خدمات الكهرباء والمياه    توقعات بهطول أمطار مصحوبة بالعواصف الرعدية في عموم محافظات الجنوب    تسجيل هزة أرضية غرب اليمن    منتخبنا الاولمبي يحقق فوزا ثمينا على بيجلاديش بتصفيات آسيا    الرشيد يهزم الصقر ويبلغ نصف نهائي بطولة بيسان    من يومياتي في أمريكا .. فقدان    تنفيذية انتقالي حبان بشبوة تقف أمام مستجدات الأوضاع في المديرية    بدء صيانة شارع كورنيش المرشدي في المنصورة    الرئيس الزُبيدي يُعزي في وفاة المناضلين مختار ومحمد العوسجي    القبض على متهمين بترويج مخدر الحشيش بالمكلا    المنتخبات المتأهلة إلى كأس العالم 2026 من قارة أمريكا الجنوبية    تعز.. اعتقال أكاديمي أثناء زيارته لمنزل والده    صلاح يقود مصر لتجاوز إثيوبيا والاقتراب من التأهل لمونديال 2026    الاتحاد السوفييتي القوة الاولى التي هزمت المانيا النازية    لصوص المال العام    77 مليون ريال غرامة وإغلاق فوري.. 6 أحكام قضائية ضد محطات وقود متلاعبة بتعز    العمليات اليمنية تغيّر قواعد الملاحة في البحر الأحمر    كيسيه و«الأفيال» يستعيدون الصدارة الإفريقية    التشيك تعزز الصدارة بالجبل الأسود.. وكرواتيا تعبر فارو    أوغندا تتقدم إلى الثاني برباعية موزمبيق    تغيير اسم وزارة الدفاع الأمريكية إلى وزارة الحرب    تهريب ملك قتبان الى باريس    700 يوم من الإبادة: أكثر من 73 ألف شهيد ومفقود ودمار شبه كامل لغزة    سفير اليمن في واشنطن: حكمنا الجنوب بالعسكر وغدا سنحكمه بالمتعلمين    فرصتك التاريخية يا سعادة اللواء عيدروس فلا تضيعها    المناطقية طريقاً إلى الوطنية، والانانية جسراً إلى الانتماء    من (همفر) الى البترودولار بريطانيا والوهابية وصناعة الانقسام    أمسية للجانب العسكري بمحافظة إب بذكرى المولد النبوي الشريف    بالالاف .. صنعاء تكشف عدد المفرج عنهم خلال اسبوع .. (قائمة)    هيئة الآثار تطلق موقعها الإلكتروني الرسمي (goam.gov.ye)    اسعار الذهب ترتفع لمستوى قياسي جديد اليوم الجمعة    اللواء المهدي يبارك نجاح الاحتفال بذكرى المولد النبوي في محافظة إب    انتشار وباء الحصبة في إب وسط تكتم المليشيا    ضمن استراتيجية بناء جيل متسلح بالعلم.. 100 طالب وطالبة يبتعثهم المجلس الانتقالي للدراسة في الخارج بدعم من دولة الإمارات    المَنَحُ الإماراتية ومحاولات إثارة الفتنة    وزارة الاقتصاد تطلق مبادرة خيرية لمرضى المستشفيات بمناسبة المولد النبوي    10 علامات تحذيرية تدل على انسداد الشرايين وتهدد صحتك    مجتمع حضرموت يحمّل بن حبريش مسئولية قطع الكهرباء    حادث مروري مروع في أبين يخلف وفاة وسبعة جرحى من أفراد اللواء الثالث دعم وإسناد    لقاء تنسيقي بعدن يضع ضوابط صارمة على حركة الغاز للحد من عمليات التهريب    للمعاندين: هل احتفل الصحابة بالمولد بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام    الصمود والمواجهة: إرادة تصنع النصر    وفاة طفلين يتيمين في ظروف غامضة بمحافظة إب    الشجن قتل العجوز.. الوزير الوصابي: تصريح أم كلام نسوان    رئيس الهيئة العليا للإصلاح يعزي إبراهيم الحائر في وفاة والده    البيت الهادئ يدعو للقلق .. قراءة في تجربة طه الجند    فريق التوجيه والرقابة الرئاسي يطلع على جهود مكتب التجارة والصناعة في لحج    لماذا قال ابن خلدون العرب إذا جاعوا سرقوا وإذا شبعوا أفسدوا    حلاوة المولد والافتراء على الله    مدينة الحب والسلام (تعز)    المنتخب الوطني للشباب يتأهل لنصف نهائي كأس الخليج    حل طبيعي .. شاي أعشاب يثبت فعاليته في السيطرة على سكر الدم    التكدس في عدن وإهمال الريف.. معادلة الخلل التنموي    انهض ايها الجبل    تحذيرات من تزايد وفيات الحصبة والكوليرا بتعز    اكتشاف يعيد فهم ممارسات طب الأسنان القديم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عندما أحاط الدمار كل شيء قبل الزفة

لم يكن حديث سائق التاكسي الذي أقلني إلى المنزل صبيحة يوم من آب الماضي إلا عن انطباعاته وروايته لأحداث فيلم 10 أيام قبل الزفة.
كان صخب الإعلام والشبكات الإجتماعية والأوساط عاليًا بالفعل؛ لكن سائق التاكسي ذو الميول نحو قصص الأنبياء أكد لي (بعد عقمها الطويل جاء لسارة "إسحاق"، ولعدن هلّ فلم "10 أيام قبل الزفة").
ذهبنا من فورنا لمشاهدته. قاعات لحفلات أعراس تحولت إلى ما يشبه دور السينما، اكتظت بالمشاهدين. ثمة قاعتان في مديريتي الشيخ عثمان والمعلا تقدمان يوميًا ستة عروض منذ العاشرة صباحًا حتى التاسعة والنصف مساءً. قبلها ظلت دور السينما مغلقة طيلة ثلاثة عقود في عدن؛ المدينة التي كانت ذات تاريخ سينمائي عريق وذاكرة ثقافية مكتظة.
اللقطة الأولى من الفيلم لم ترق لي مطلقًا لجديتها؛ حتى أنني ظننتها كاميرا تقرير متلفز لقناة محلية. غير أن شريط الأحداث ما لبث أن انطلق ليجعل روح المشاهد تحتشد حزنا عند كل لقطة وجع أو مشهد بؤس؛ و أن تنفجر ضحكا عند مواقف الكوميديا. استثمر المؤلف والسيناريست روح الفكاهة لإظهار الطابع السيكولوجي الخاص بابن المدينة عند مواجهته الظروف القاسية. ويخيل للمرء أنه لولا هذه المفارقات المضحكة وسط ما يبكي لما صمد أبناء المدينة في مواجهة الإحباط و آلة الموت.
يحكي الفيلم الذي اُلتقطت 60% من مشاهده في أحياء مدينة كريتر- عدن وستشهد عروضه عدد من المحافظات اليمنية ودول عربية وأجنبية- قصة خطيبين؛ مأمون ورشا، اللذين أحاطتهما ظروف مدينة مثخنة بجراح حرب غير مسبوقة ( حرب اليمن الأهلية التي اندلعت منذ نهاية العام 2014)، وآلام وأوجاع ما بعد هذه الحرب.
البحث عن منزل وتجهيزات الفرح وأثاث المسكن وما يتعلق بمرحلة الانتقال إلى بيت الزوجية كان المسار الذي أظهر كل مآسي المدينة الجنوبية الساحلية بعد الحرب. يتكشف من الدقائق الأولى للفيلم أنه لا منزل للعريس، ولا منزل حتى لأهل العروس؛ فالدمار يحيط كل شيء.
عاش مخرج الفيلم عمرو جمال وطاقمه ويلات الحرب ومرحلة ما بعد الحرب بتفاصيلها كاملة. يروي لنا جمال نزوحه من مدينة كريتر؛ حيث اشتدت المواجهات لقرب منزله من البنك المركزي، والذي يقع على الطريق المؤدية إلى قصر معاشيق الرئاسي، ويلات النزوح وتشظي المدينة بالانفلات الأمني. وهو الأمر الذي ولّد قصة لها أن تحكى سينمائيًا كسابقة لا مثيل لها في هذه المدينة منذ عقود.
يضطر مأمون للبحث عن منزل للإيجار، في حين تواجهه صعاب تضربه عند كل محطة. يعرض الفيلم المسار المحبط لكل مظاهر الوجع التي برزت على نحو تراجيدي، حتى أن الممثلين يبدون بمظاهرهم الطبيعية كما هي دون تحسين. يقول أحد المشاهدين إنها لمسة واقعية أشعرته بحقيقة الأحداث وكأنها هي.
لم يتوقع مخرج الفيلم ولا أي من أفراد طاقمه التمثيلي أو حتى ساكني المدينة كما يروي جمال نفسه أن أحدًا بمقدوره النزول إلى الشارع لتصوير لقطات لفيلم سينمائي سيصبح الخبر الأبرز على كل لسان في الفضائين: العالم الافتراضي المتنفس، والعالم المعاش المؤلم المباشر. لكن ما حدث أنه لم يعترضهم شيء على الإطلاق؛ كما يؤكد جمال. وعند سؤالنا لجمال إن كان أحد من رجال الدين قد تعرض للفيلم بأي تناول متطرف، قال إن عددًا محدودًا أشار إلى ما أسماه خطر عودة السينما على المجتمع، في إشارة إلى اختلاط النساء بالرجال. لكن هذا التعليق تلاشى تمامًا دون أن يكسب حيزًا أكبر من الجدل والنقاش.
كانت الفكرة في بدايتها تتجه إلى إنتاج مسلسل، في تجربة سبق للمخرج أن خاضها قبل سنوات في مسلس "فرصة أخيرة" الذي عرضته قناة "السعيدة" اليمنية في موسم رمضاني عام 2014، لكن الفنان هذه المرة لم يتمكن من إتمام كامل حلقات المسلسل، وهو ما دفعه لتحويله إلى فيلم. وعمرو جمال لا يوفر فرصة إلا و يشيد فيها بكامل طاقمه، وعلى وجه الخصوص المنتج محسن خليفي والسيناريست مازن رفعت. جمال الثلاثيني الذي انطلق في الأساس من القصة إلى المسرح قبل إطلالته السينمائية، حقق شهرة ظلت تواكب الجديد وتضيف إلى رصيدها منذ بداية العشرينيات من عمره.
يتحدث عمرو جمال في جلسة حوارية عن تطلعاته لإنجاز أعمال إبداعية جديدة. غير أنه حاليًا لا يزال مهتما بطفله البكر سينمائيًا الذي أوصله مؤخرًا إلى القائمة الطويلة المتهيئة لاختبار الأوسكار. "هذا طفلي وله كامل الحب، لكنني لست مسؤولًا عنه إن لم يصمد. سأعده جيدًا، وما تبقى من المسألة هي ناتج المعادلات النقدية والتقييمية للجنة التحكيم".
هذا الفيلم الذي تظهر لقطته الأولى معاناة الخطيب مأمون وخطيبته رشا، يمضي في سبيل استعراض كل شيء مس عدن المدينة في مرحلة ما بعد الحرب. فمنزل أسرة رشا مهدم بفعل المعارك الطاحنة التي شهدها الحي السكني؛ ولذا انتقلت الأسرة بكاملها إلى منزل أحد أقرباء الأب (سليم)، الذي كان بدوره،قد خلق جنوحًا آخر في مسار القصة بأن طالت عين اشتهائه الفتاة الجميلة التي تحب خطيبها وتستعد للزواج منه. مثلت دور هذه الفتاة سالي حمادة، وهي حفيدة الفنان الشهير أحمد بن أحمد قاسم. وقد برزت سالي مؤخرًا في عدد من الأعمال المسرحية والمسلسلات الدرامية المحلية.
تتبدى المعاناة في وجه آخر من القصة التي يتداخل فيها ما هو إجتماعي يمس العلاقات الإجتماعية المتشابكة المصالح والقوى مع ما هو فردي متعلق بالقيمة الأخلاقية للجوهر الإنساني المستقل.
يأتي في هذا السياق سليم (القريب) الذي يستغل ظرف مأمون ومعاناته ليزيد من ضغوطاته على أسرة الفتاة من أجل حسم اختيار الفتاة إياه زوجا. و الفيلم يشير إلى العادات الإجتماعية في اليمن التي تمكّن الآباء من اتخاذ القرار المصيري لأبنائهم وبناتهم دون أي اعتبار لحرياتهم الفردية و اختياراتهم الوجودية. وهو ما فعله أبو رشا الذي أراد تزويجها بسليم.
هل ينتصر الحب وسط هذه التعقيدات وصعوبات الحياة المعيشية؟ يقول الفيلم نعم. لكن بكلفة كبيرة اتخذت القرار بشأنها المرأة لا الرجل؛ رشا لا مأمون. فحين استسلم الأخير قفزت رشا من النافذة هاربة. وهي لحظات أخيرة وحاسمة كانت أن أفشلت بها حفلة عقدها غصبًا لقريبها سليم الذي لا تحبه. قفزت وكلها ألم من خذلان حبيبها مأمون الذي وقع ضحية اليأس والاحباط. ورغم ذلك، فمتاعب الشاب مأمون الذي كافح من أجل خطيبته بطريقته الخاصة قد تكللت بالنجاح في حفلة فرائحية وسط الركام.
وتستعرض مشاهد الفيلم مشكلات عديدة كان أولها البحث عن مسكن يناسب الدخل المحدود ويليق بحياة كريمة نسبيًا. يستعصي الحصول على منازل للإيجار وسط تزايد السكان والهاربين إلى المدينة من جحيم المعارك في عدد من المحافظات. ثم تأتي مشكلة توصيل الماء إلى أعلى مرتفعات مديرية صيرة حيث المسكن.
و إزاء قلة الحيلة وانحسار الحلول تأتي الكوميديا السوداء في مشهد استخدام الحمير لجلب المياه. يتلو ذلك مشاهد طفح مياه الصرف الصحي، وواقع المليشيات المسلحة لحرب يقول الفيلم أنها لم تنته. فهنا جندي يلجأ بسهولة لبيع سلاحه الشخصي لفك ضائقته، وهناك عصابات السطو على منازل وأراضٍ لمواطنين لم يعد بإمكانهم العودة إلى المدينة. وبقدر حسرة المشاهد على تاريخ مدينة كانت كزموبوليتانية و مسالمة في يوم ما، تتهلل أساريره بالفرح عند إشارات الفلم الواضحة إلى أنها- حال غيرها من المدن العريقة- مدينة لا تموت.
اقتربت عروض الفلم مؤخرًا من ال200 عرض في محافظة عدن وحدها، التي توافد إليها مشاهدون من خارجها. ونظرًا للحالة الاحتفائية العارمة، بات كثيرون يشاهدونه أكثر من مرة. هؤلاء المشاهدون يجمعون على أنه فيلم جيد. و قال بعضهم أنه لا يوجد فيلم منافس له في البلد لنقارنه به. وهو في رأيهم فلم مبهر و مثير لأحاسيس متضاربة يختلط عند مشاهدتها الضحك بالبكاء.
هذه بداية المخرج وطاقمه سينمائيًا. وهي تمثل عودة بعد جدب لأن تمضي عدن نحو استعادة دورها الثقافي. و الأمر -وفقًا لعمرو جمال- بحاجة إلى جهد متواصل وهمة عالية من أجل تحريك المشهد وخلق الجديد. لاسيما أننا في هذا البلد المنكوب والمتعطلة بناها التحتية كلها بحاجة إلى تنوير للوعي لدى طبقات مختلفة من الشعب؛ بل نحتاج إلى استعادة للحياة الطبيعية. فليكن القادم الجديد كتابا استثنائيا أو فلما سينمائيا مختلفا؛ فليكن بمثابة "الفأس التي تكسر البحر المتجمد فينا" وفقًا لكافكا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.