الأهلي يتصدر بثنائية الاتحاد السكندري    كأس آسيا 23.. اللجنة تفتح باب التطوع    بايرن يقسو على كلوب بروج برباعية    عدن.. محكمة صيرة تصدر حكمًا بالإعدام قصاصًا بحق قاتل الشاب عارف فرانس    الدكتور عبدالله العليمي يطمئن على صحة العميد عدنان رزيق القميشي بعد العملية الإرهابية الحوثية الغادرة    الإصلاح يشكل "المقاومة الوطنية الجنوبية".. تنظيم إرهابي جديد بقيادة أمجد خالد    الشيخ بن بريك: الإخوان بوجهين إرهابيين.. وشبوة برس يفتح ملف الأفغان في الجنوب    ترامب يعلن إلغاء لقائه مع بوتين في المجر    شبوة.. حريق ضخم يتسبب بأضرار مادية باهضة في الممتلكات    الأرصاد يحذر من منخفض جوي يتجه نحو أرخبيل سقطرى    القربي ينتقد قيادات المؤتمر التي تربط توحيد الحزب بالحصول على الدعم    اليمن تتصدر الدول العربية في تأشيرات الهجرة إلى أمريكا لعام 2024    أيوب التميمي.. حين تتحول سخرية الأم إلى صفعة على وجه المسؤول الغائب!    محمد صلاح في القائمة المختصرة للمرشحين لنيل جائزة أفضل لاعب في إفريقيا 2025    ريال مدريد يعتلي الصدارة بعد فوزه الثالث على التوالي في دوري الأبطال    دوري ابطال اوروبا: ريال مدريد يحسم قمته بمواجهة اليوفنتوس    غاسبريني يريد لاعب يوفنتوس ماكيني    السكوت عن مظلومية المحامي محمد لقمان عار على المهنة كلها    أكبر جبان في العالم ؟!    قراءة تحليلية لنص "أكْل التراب" ل"أحمد سيف حاشد"    صوت من قلب الوجع: صرخة ابن المظلوم إلى عمّه القاضي    اجتماع يناقش خطط عمل ومشاريع التحديث في هيئة المواصفات    "حماس": تصويت الكنيست الصهيوني على ضم الضفة يعبر عن الوجه الاستعماري القبيح    صنعاء: تدشين مبادرة "معاً لبيئة نظيفة" لتنظيف الأرصفة    هيئة الآثار تنشر قائمة جديدة بالآثار اليمنية المنهوبة    تسليم 3 وحدات سكنية لأسر الشهداء الأشد فقراً في مقبنة بتعز    (نص + فيديو) كلمة قائد الثورة في استشهاد القائد الفريق "الغماري"    المحكمة الجزائية بحضرموت تقضي بإعدام 6 إيرانيين أدينوا بتهريب المخدرات إلى اليمن    وزير الصناعة يبحث مع رئيس مجلس منظمة التجارة تفعيل عضوية اليمن وتعزيز حضورها الدولي    عدن تُحتضر بصمت.. مأساة المدينة تكشف عجز التحالف والشرعية    صنعاء تبدأ بترميم «قشلة كوكبان» التاريخية    تفجير تعز.. إصابة قائد عسكري يمني ومقتل 2 من مرافقيه    الكثيري: الاستثمار في الطاقة المتجددة خطوة استراتيجية لبناء جنوب حديث    رئيس الوزراء يدعو الشركات الصينية للاستثمار في اليمن ويشيد بالعلاقات الثنائية مع بكين    الذهب يتراجع بأكثر من 2% مع صعود الدولار وجني الأرباح    صنعاء.. البنك المركزي يوقف التعامل مع منشأة صرافة    البنك الدولي: نحو 216 مليار دولار تكلفة إعادة إعمار سوريا    رسمي: بدء صرف شهري سبتمبر و اكتوبر من اليوم    شرطة تعز تعلن ضبط 11 مطلوبا في قضايا ابتزاز واعتداء مسلح على مدرسة    احتجاجات عدن تكشف سياسة التجويع والترويع التي ينتهجها العدوان ومرتزقته    على ضفاف السبعين.. رسالة من شاطئ العمر    القوات الخاصة البريطانية تنفذ عمليات سرية ضد روسيا    اكتشاف 4 نجوم تدور حول بعضها البعض في انتظام بديع    الكشف عن عين إلكترونية تمكن فاقدي البصر من القراءة مجددا    كلمة في وداع د. محمد الظاهري    برشلونة يكتسح أولمبياكوس بسداسية في دوري أبطال أوروبا    نقابة المحامين اليمنيين تكلف لجنة لمتابعة قضية اعتقال المحامي صبرة    احتجاجات غاضبة في عدن عقب انهيار كامل للكهرباء وتفاقم معاناة السكان    صاحب الفخامة.. وأتباعه بدون تحية    قراءة تحليلية لنص "هاشم" اسم أثقل كاهلي ل"أحمد سيف حاشد"    مرض الفشل الكلوي (24)    ثوار 14أكتوبر وعدوا شعب الجنوب بأكل التفاح من الطاقة    شبابنا.. والتربية القرآنية..!!    إشادة بتمكن عامر بن حبيش في احتواء توتر أمني بمنفذ الوديعة    لو فيها خير ما تركها يهودي    اليمن انموذجا..أين تذهب أموال المانحين؟    الرمان... الفاكهة الأغنى بالفوائد الصحية عصيره يخفض ضغط الدم... وبذوره لها خصائص مضادة للالتهابات    ما فوائد تناول المغنيسيوم وفيتامين «بي-6» معاً؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوقت بخطوات عجولة (*)

(1) السفر إلى عدن
السيارة ورائحة النارجيل والصابون
كنت على عتبة السادسة، حين قرر أبي أخذي معه إلى عدن، لم يثنه عن ذلك بكاء الأم على وحيدها. كانت حُجته أنه سيتمكن من تعليمي هناك، وأن إحدى قريباتنا، التي تقيم في المدينة، ستعوضني عن غياب الأم، والأهم من ذلك إصراري على السفر معه، وكان ذلك مطلع العام 1972.
من صبيحة السفر، الذي كان يوم اثنين؛ حيث يتفاءل المسافرون به، لم أزل أتذكر تلك الغمامة "الكانونية" الكثيفة والندية التي غطت القرية والقرى المجاورة، ورائحة الكعك البلدي المنبعثة من كيس قماشي يجاور ملابسي، التي كانت، بالمناسبة، بدلة واحدة. وأذكر الحمار الأبيض القوي، الذي ركبته مع أبي إلى منطقة "المركز"، حيث موقف السيارات.
حين انتهينا من صعود "نقيل تماح" مع مجموعة مسافرين بدليلهم العارف (قاسم العسكري)، لاحت أمامنا أول القرى المحيطة بالمركز. دهشتي الأولى كانت من أشعة الشمس المنعكسة من زجاج سيارة تعبر الخط الترابي، فولدت عندي إحساساً عجيباً بمعنى الانتقال من حال إلى حال.
رائحة الطبخ المنبعثة من مطعم شعبي نزلنا أمامه في السوق الذي يشقه شارع مُترِب، والتي تذكرني الآن بالصلصة المحروقة، أخذت كل حواسي، بما فيها تلك التي سكبتها بشبق على أول سيارة أبصرتها في حياتي، وملامحها للآن حاضرة بذاكرتي. "هي من نوع اللندروفر بلونها الأخضر الداكن"، وبعوارض الحديد المتداخلة في حوضها الخلفي الضيق، والرسوم الصاخبة على مقدمتها، وزجاج الكابينة المغطى بالشناشيل.
هي ذات السيارة التي أقلتنا إلى تعز في طريق ممهد، كان أصعب ما فيه نقيل يسمى "مُجرجِح" ويقع في أطراف دُبَع الخارج، وكان يشكِّل كابوسا للسائقين والركاب معاً لوعورته؛ حيث أبصرت بعد سنوات قليلة أول سيارة منقلبة أسفله، فجسَّم عندي الصورة الأسطورية عنه، لم يبددها سوى ثعبان الإسفلت الأسود، الذي شقه الباكستانيون في أحجاره البيضاء منتصف السبعينيات، فحوله إلى طريق وديع.
دخلنا تعز مع أول الليل، حيث كانت الدهشة الثانية التي صنعتها كثافة الأضواء المنبعثة من محلات الشارع الرئيس وكثرة السيارات وتنوعها. وفي بخَّار "مخزن بضائع" شبه فارغ، ملحق بدكان (بقالة صغيرة) في منطقة المُصلى، بت أول ليلة بعيدا عن أمي.
انسراحي في أول النوم مع رائحة البهارات بالصابون ورائحة النارجيل السائل، ومحاولة تفسير البخار الصاعد من جسم مستطيل أبيض معبأ بزجاجات ملونة، حين فتح بابها من أعلى، لم يدم طويلا؛ إذ نقلني صوت بعيد لدراجة نارية إلى القرية، إذ صار في مسمعي صوت "قُعدان" هائجة تكثر في مثل هذا الوقت من العام في الأودية والشعاب في قريتنا، فهاج شوقي لأمي، فبدأت بالبكاء المكتوم.
في الصباح التالي، تخالطت رائحة عادم السيارة الواقفة في باب الدكان، التي كانت تُخرج من شكمانها الخلفي دخاناً خفيفاً مصحوباً بقطرات ماء، برائحة "الشاهي" الملبّن والفاصوليا المطبوخة و"خبز الطاوة"، الذي يختلف شكلاً وطعماً عما اعتدت عليه هناك في القرية. ألبستني هذه اللحظة إحساساً متناقضاً؛ هو بين الحنين للقرية من جديد ورغبة الاكتشاف في السفر الذي بدأ يضخِّم التفاصيل.
سيارة مقفَّصة بيضاء، عرفتُ فيما بعد أنها سيارة "الفولجا" الروسية الشهيرة، أقلتنا إلى الراهدة، حيث تناولنا وجبة في غير ميقاتي الإفطار والغداء، لكنها بينهما. ومن الجمرك استقلينا سيارة "لاندروفر". لا أتذكر من هذه الرحلة سوى عقبة صعبة، وإحساس مختلف بالحرارة وجسد مهدود غلبه النوم، لم توقظه غير جلبة المسافرين الذين يستعدون لتناول العشاء في لحج.
وفي الشيخ عثمان التي وصلناها ليلا تملكني إحساس ثالث بالمكان، وغير طقس "الكوانين" هناك في القرية. كان هنا الطقس دافئاً مصحوباً بروائح ناعمة منبعثة من الزقاق المؤدي إلى مسكن قريبتنا، حيث صار للماء الفاتر النازل من الصنبور ورائحة صابون "الليفبوي" في الحمام، حيث اغتسلت للمرة الأولى، التعريف الأول بعدن، والذي لم يزل يلازمني حتى اليوم.
لم أحتفظ من عدن تلك إلا بصورة قديمة برفقة محمد ابن خالتي ونحن بزي المدرسة، وملتقطة في استوديو صنعاء بمنطقة الهاشمي في فبراير 1972، حسب المكتوب بظهرها، وبشريط باهت لبعض الأحداث منها، تواهني وعدم مقدرتي العودة إلى الدكان الذي كان يعمل به والدي، رؤيتي الأولى للنعامة في بستان الكمسري، وصورة الفتيات الصغيرات بزي المدرسة، والأطفال الذين يخرجون في العصاري مغتسلين ومتهندمين ورائحة النظافة عالقة بملابسهم، وروائح البخور المنبعثة من البيوت، على العكس من روائح مخلفات المواشي في بيوت القرية، والأهم، طعم الشعيرية اللذيذ والكيك الساخن.
رجوعي من عدن كان برفقة أبي بعد أقل من عام، حيث كان آخر عهده بالمدينة، التي لم تمح مع نسائها من ذاكرته حتى وفاته. أما عودتي الثانية إليها ستكون بعيد17 عاماً أبريل 1989 والتي اختزلتها بواحدة من أحب القصائد إلى قلبي، التي سميتها "عدن":
تأتيك عدن
ملفوفة بالبحر
وبخور المولمات بالعيدروس
تأتيك وأنت القروي
الموزع بين: أبيك "التاجر الجبلي" بأزقة "الهاشمي والشيخ"
ومدن الشمال الضجرة
تأتيك عدن لتسأل:
كم من الفودكا يشرب هذا البحر
ليحرس المباني الهرمة؟
تتصالح مع كل شيء بعدن:
مع قوارب الصيادين الواقفة كقدم خرافية
لجبل لا يغادر مُلُوحَتَه الشاحبة
مع خزانات النفط "الذَحِلة" بنكهتها الإنجليزية
مع رجل "هندي القسمات"
دَلّكَ على شارعٍ تائهٍ عنك
فقط لا تتصالح مع محفظة نقودك الهاربة
تجاه صيرة القلعة
صيرة القنينة الخضراء/ الصفراء
تجاه "دموع العمال" المعلبة بالقناني "البيروسترويكية"
الهاربة باتجاه مرقص ليلي
آخيت "على بلاطة"
دمك بجنون العالم
تأتيك عدن
بثوب السهرة الخرافي
ورائحة الصندل والفل
تأتي لتصوغ الوقت:
طاولة للسهر
ومساحة آدمية للرقص
تأتيك
لتختار نديمين:
رفيقاً يُمضِّي الليل بِلَوْك سياسة الوقت
وبحراً غير بعيد عنك يغتسل بعرق عيشة الراقصة
(**)
تغادرك عدن
وتكون قد حشوت كيس ذاكرتك ب:
رمل السواحل الفرحة
حسناوات المدارس الموحدة
لوحات "الدعاية" المتآكلة
باصات النقل " الخّرِفة"
حتى أصوات الغربان
التي منعت أذنيك من التصنت للشقق المضاءة
ينبغي أن تحشوها
احْشُ كلَّ شيء عن عدن
حتى لا يسألك شرطي النقطة الحدودية
عن مهرباتك المحرَّمة
ويسألك فقط عن سر تقرُّح جفنيك،
ورائحتك الغامضة.
*المصدر/موقع "خيوط"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.