شقيق طارق صالح: نتعهد بالسير نحو تحرير الوطن    الحكومة تطالب بتحرك دولي لوقف تجنيد الحوثي للأطفال تحت غطاء المراكز الصيفية    "لا حل إلا بالحسم العسكري"..مقرب من الرئيس الراحل "علي صالح" يحذر من مخيمات الحوثيين الصيفية ويدعو للحسم    "نوخان شبوة" تُسقط شبكة مخدرات: 60 كيلو حشيش في قبضة الأمن    "طاووس الجنان" و"خادمة صاحب الزمان"...دعوة زفاف لعائلة حوثية تُثير الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب مافيها(صورة)    الدوري الاوروبي ... ميلان وليفربول يودعان البطولة    الدوري السعودي ... الشباب يكتسح ابها بخماسية    نجل أنشيلوتي كان الركيزة الخفية لفوز الريال على المان سيتي    انفجار مقذوف من مخلفات الحوثي في 3 أطفال في قعطبة    نقل فنان يمني شهير للعناية المركزة    الحوثيون والبحر الأحمر.. خطر جديد على كابلات الأعماق مميز    انطلاق أعمال الدورة ال33 للمؤتمر الإقليمي لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) لأفريقيا    ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة الى 33.970    ريال مدريد وبايرن ميونخ يتأهلان لنصف نهائي دوري ابطال اوروبا    تنفيذي الإصلاح بالمحويت ينعى القيادي الداعري أحد رواد التربية والعمل الاجتماعي    لجنة الطوارئ بمأرب تباشر مهامها الميدانية لمواجهة مخاطر المنخفض الجوي    مصرع وجرح عدد من العناصر الإرهابية على يد القوات الجنوبية بوادي عومران    سقوط 9 مدنيين في الحديدة بسبب الألغام ومخلفات الحرب خلال مارس الماضي مميز    الرئيس: مليشيا الحوثي تستخدم "قميص غزة" لخدمة إيران ودعم الحكومة سيوقف تهديداتها    بمناسبة الذكرى (63) على تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين اليمن والأردن: مسارات نحو المستقبل و السلام    إسقاط طائرة تجسس حوثية في شقرة بمحافظة أبين    تأجيل مباريات الخميس في بطولة كرة السلة لأندية حضرموت    قبل قيام بن مبارك بزيارة مفاجئة لمؤسسة الكهرباء عليه القيام بزيارة لنفسه أولآ    دراسة: اقتصاد العالم سيخسر 20% بسبب التغيرات المناخية    عن العلامة اليماني الذي أسس مدرسة الحديث النبوي في الأندلس - قصص رائعة وتفاصيل مدهشة    وفاة مواطن وجرف سيارات وطرقات جراء المنخفض الجوي في حضرموت    أضرار مادية وخسائر بشرية بسبب الفيضانات شرقي اليمن وإغلاق مدينة بالكامل    ترحيل آلاف اليمنيين من السعودية    ليلة للتاريخ من لونين.. وخيبة أمل كبيرة لهالاند    ركلات الترجيح تحمل ريال مدريد لنصف نهائي الأبطال على حساب السيتي    أهلي جدة: قرار رابطة الدوري السعودي تعسفي    الكشف عن استحواذ جماعة الحوثي على هذه الإيرادات المالية المخصصة لصرف رواتب الموظفين المنقطعة    آية تقرأها قبل النوم يأتيك خيرها في الصباح.. يغفل عنها كثيرون فاغتنمها    فضيحة قناة الحدث: تستضيف محافظ حضرموت وتكتب تعريفه "أسامة الشرمي"    "استيراد القات من اليمن والحبشة".. مرحبآ بالقات الحبشي    غرق شاب في مياه خور المكلا وانتشال جثمانه    بن بريك يدعو لتدخل إغاثي لمواجهة كارثة السيول بحضرموت والمهرة    ثلاث مساوئ حوثية أكدتها عشرية الإنقلاب    اليمن: الكوارث الطبيعية تُصبح ظاهرة دورية في بعض المحافظات الساحلية، ووزير سابق يدعو لإنشاء صندوق طوارئ    على رأسهم مهدي المشاط ...ناشطة حوثية تدعو إلى كسر الصمت حول قضية السموم الزراعية في اليمن    مأساة إنسانية: صاعقة رعدية تُفجع عائلتين في تعز    دراسة حديثة تحذر من مسكن آلام شائع يمكن أن يلحق الضرر بالقلب    مفاجأة صادمة ....الفنانة بلقيس فتحي ترغب بالعودة إلى اليمن والعيش فيه    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    10 أشخاص ينزحون من اليمن إلى الفضاء في رواية    من هم الذين لا يدخلون النار؟.. انقذ نفسك قبل فوات الأوان    نيابة استئناف الامانة تتهم 40 من تجار المبيدات والأسمدة بارتكاب جرائم بيئية وتعريض حياة الناس للمخاطر    باريس سان جيرمان يرد ريمونتادا برشلونة التاريخية ويتأهل لنصف نهائى دورى الأبطال    خطة تشيع جديدة في صنعاء.. مزارات على أنقاض أماكن تاريخية    وللعيد برامجه التافهة    السيد الحبيب ابوبكر بن شهاب... ايقونة الحضارم بالشرق الأقصى والهند    ظهر بطريقة مثيرة.. الوباء القاتل يجتاح اليمن والأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر.. ومطالبات بتدخل عاجل    أبناء المهرة أصبحوا غرباء في أرضهم التي احتلها المستوطنين اليمنيين    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    تراث الجنوب وفنه يواجه.. لصوصية وخساسة يمنية وجهل وغباء جنوبي    تأتأة بن مبارك في الكلام وتقاطع الذراعين تعكس عقد ومرض نفسي (صور)    تخيل أنك قادر على تناول 4 أطعمة فقط؟.. شابة مصابة بمرض حيّر الأطباء!    النائب حاشد: التغييرات الجذرية فقدت بريقها والصبر وصل منتهاه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوقت بخطوات عجولة (*)

(1) السفر إلى عدن
السيارة ورائحة النارجيل والصابون
كنت على عتبة السادسة، حين قرر أبي أخذي معه إلى عدن، لم يثنه عن ذلك بكاء الأم على وحيدها. كانت حُجته أنه سيتمكن من تعليمي هناك، وأن إحدى قريباتنا، التي تقيم في المدينة، ستعوضني عن غياب الأم، والأهم من ذلك إصراري على السفر معه، وكان ذلك مطلع العام 1972.
من صبيحة السفر، الذي كان يوم اثنين؛ حيث يتفاءل المسافرون به، لم أزل أتذكر تلك الغمامة "الكانونية" الكثيفة والندية التي غطت القرية والقرى المجاورة، ورائحة الكعك البلدي المنبعثة من كيس قماشي يجاور ملابسي، التي كانت، بالمناسبة، بدلة واحدة. وأذكر الحمار الأبيض القوي، الذي ركبته مع أبي إلى منطقة "المركز"، حيث موقف السيارات.
حين انتهينا من صعود "نقيل تماح" مع مجموعة مسافرين بدليلهم العارف (قاسم العسكري)، لاحت أمامنا أول القرى المحيطة بالمركز. دهشتي الأولى كانت من أشعة الشمس المنعكسة من زجاج سيارة تعبر الخط الترابي، فولدت عندي إحساساً عجيباً بمعنى الانتقال من حال إلى حال.
رائحة الطبخ المنبعثة من مطعم شعبي نزلنا أمامه في السوق الذي يشقه شارع مُترِب، والتي تذكرني الآن بالصلصة المحروقة، أخذت كل حواسي، بما فيها تلك التي سكبتها بشبق على أول سيارة أبصرتها في حياتي، وملامحها للآن حاضرة بذاكرتي. "هي من نوع اللندروفر بلونها الأخضر الداكن"، وبعوارض الحديد المتداخلة في حوضها الخلفي الضيق، والرسوم الصاخبة على مقدمتها، وزجاج الكابينة المغطى بالشناشيل.
هي ذات السيارة التي أقلتنا إلى تعز في طريق ممهد، كان أصعب ما فيه نقيل يسمى "مُجرجِح" ويقع في أطراف دُبَع الخارج، وكان يشكِّل كابوسا للسائقين والركاب معاً لوعورته؛ حيث أبصرت بعد سنوات قليلة أول سيارة منقلبة أسفله، فجسَّم عندي الصورة الأسطورية عنه، لم يبددها سوى ثعبان الإسفلت الأسود، الذي شقه الباكستانيون في أحجاره البيضاء منتصف السبعينيات، فحوله إلى طريق وديع.
دخلنا تعز مع أول الليل، حيث كانت الدهشة الثانية التي صنعتها كثافة الأضواء المنبعثة من محلات الشارع الرئيس وكثرة السيارات وتنوعها. وفي بخَّار "مخزن بضائع" شبه فارغ، ملحق بدكان (بقالة صغيرة) في منطقة المُصلى، بت أول ليلة بعيدا عن أمي.
انسراحي في أول النوم مع رائحة البهارات بالصابون ورائحة النارجيل السائل، ومحاولة تفسير البخار الصاعد من جسم مستطيل أبيض معبأ بزجاجات ملونة، حين فتح بابها من أعلى، لم يدم طويلا؛ إذ نقلني صوت بعيد لدراجة نارية إلى القرية، إذ صار في مسمعي صوت "قُعدان" هائجة تكثر في مثل هذا الوقت من العام في الأودية والشعاب في قريتنا، فهاج شوقي لأمي، فبدأت بالبكاء المكتوم.
في الصباح التالي، تخالطت رائحة عادم السيارة الواقفة في باب الدكان، التي كانت تُخرج من شكمانها الخلفي دخاناً خفيفاً مصحوباً بقطرات ماء، برائحة "الشاهي" الملبّن والفاصوليا المطبوخة و"خبز الطاوة"، الذي يختلف شكلاً وطعماً عما اعتدت عليه هناك في القرية. ألبستني هذه اللحظة إحساساً متناقضاً؛ هو بين الحنين للقرية من جديد ورغبة الاكتشاف في السفر الذي بدأ يضخِّم التفاصيل.
سيارة مقفَّصة بيضاء، عرفتُ فيما بعد أنها سيارة "الفولجا" الروسية الشهيرة، أقلتنا إلى الراهدة، حيث تناولنا وجبة في غير ميقاتي الإفطار والغداء، لكنها بينهما. ومن الجمرك استقلينا سيارة "لاندروفر". لا أتذكر من هذه الرحلة سوى عقبة صعبة، وإحساس مختلف بالحرارة وجسد مهدود غلبه النوم، لم توقظه غير جلبة المسافرين الذين يستعدون لتناول العشاء في لحج.
وفي الشيخ عثمان التي وصلناها ليلا تملكني إحساس ثالث بالمكان، وغير طقس "الكوانين" هناك في القرية. كان هنا الطقس دافئاً مصحوباً بروائح ناعمة منبعثة من الزقاق المؤدي إلى مسكن قريبتنا، حيث صار للماء الفاتر النازل من الصنبور ورائحة صابون "الليفبوي" في الحمام، حيث اغتسلت للمرة الأولى، التعريف الأول بعدن، والذي لم يزل يلازمني حتى اليوم.
لم أحتفظ من عدن تلك إلا بصورة قديمة برفقة محمد ابن خالتي ونحن بزي المدرسة، وملتقطة في استوديو صنعاء بمنطقة الهاشمي في فبراير 1972، حسب المكتوب بظهرها، وبشريط باهت لبعض الأحداث منها، تواهني وعدم مقدرتي العودة إلى الدكان الذي كان يعمل به والدي، رؤيتي الأولى للنعامة في بستان الكمسري، وصورة الفتيات الصغيرات بزي المدرسة، والأطفال الذين يخرجون في العصاري مغتسلين ومتهندمين ورائحة النظافة عالقة بملابسهم، وروائح البخور المنبعثة من البيوت، على العكس من روائح مخلفات المواشي في بيوت القرية، والأهم، طعم الشعيرية اللذيذ والكيك الساخن.
رجوعي من عدن كان برفقة أبي بعد أقل من عام، حيث كان آخر عهده بالمدينة، التي لم تمح مع نسائها من ذاكرته حتى وفاته. أما عودتي الثانية إليها ستكون بعيد17 عاماً أبريل 1989 والتي اختزلتها بواحدة من أحب القصائد إلى قلبي، التي سميتها "عدن":
تأتيك عدن
ملفوفة بالبحر
وبخور المولمات بالعيدروس
تأتيك وأنت القروي
الموزع بين: أبيك "التاجر الجبلي" بأزقة "الهاشمي والشيخ"
ومدن الشمال الضجرة
تأتيك عدن لتسأل:
كم من الفودكا يشرب هذا البحر
ليحرس المباني الهرمة؟
تتصالح مع كل شيء بعدن:
مع قوارب الصيادين الواقفة كقدم خرافية
لجبل لا يغادر مُلُوحَتَه الشاحبة
مع خزانات النفط "الذَحِلة" بنكهتها الإنجليزية
مع رجل "هندي القسمات"
دَلّكَ على شارعٍ تائهٍ عنك
فقط لا تتصالح مع محفظة نقودك الهاربة
تجاه صيرة القلعة
صيرة القنينة الخضراء/ الصفراء
تجاه "دموع العمال" المعلبة بالقناني "البيروسترويكية"
الهاربة باتجاه مرقص ليلي
آخيت "على بلاطة"
دمك بجنون العالم
تأتيك عدن
بثوب السهرة الخرافي
ورائحة الصندل والفل
تأتي لتصوغ الوقت:
طاولة للسهر
ومساحة آدمية للرقص
تأتيك
لتختار نديمين:
رفيقاً يُمضِّي الليل بِلَوْك سياسة الوقت
وبحراً غير بعيد عنك يغتسل بعرق عيشة الراقصة
(**)
تغادرك عدن
وتكون قد حشوت كيس ذاكرتك ب:
رمل السواحل الفرحة
حسناوات المدارس الموحدة
لوحات "الدعاية" المتآكلة
باصات النقل " الخّرِفة"
حتى أصوات الغربان
التي منعت أذنيك من التصنت للشقق المضاءة
ينبغي أن تحشوها
احْشُ كلَّ شيء عن عدن
حتى لا يسألك شرطي النقطة الحدودية
عن مهرباتك المحرَّمة
ويسألك فقط عن سر تقرُّح جفنيك،
ورائحتك الغامضة.
*المصدر/موقع "خيوط"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.