يبدو أن تكاثر المتسولين في سائر بلداننا، وتمركز معظمهم في عواصمنا، بات جزءاً لا يتجزأ من المشهد السياحي العربي ككل، وإن كنا لا نعرف على وجه التحديد ما إذا كان استشراء انفلونزا التسول في زمننا هذا هو الذي جعل من هذه الظاهرة وقد استعصى حلها على كثرة إثارتها بين الحين والآخر واحدة من الظواهر المجتمعية المزمنة، أم أنها تحولت في جزء منها على الأقل إلى مهنة مستحدثة يحترفها مريدوها، ممن يرون في مزاولتها ما يشكل في حده الأدنى مصدر دخل يومي لا ينقطع، إن لم يكن سبيلاً لثراء أربابها. وللتسول كظاهرة أسبابه ودوافعه، وفي مقدمتها الفقر والحاجة، ومن ثم.. انعدام مصادر الرزق الحلال في حالة الإعاقة التي تقف حائلاً دون امتلاك صاحبها القدرة على العمل. والمتسولون من أرباب هذه الظاهرة المجتمعية معظمهم ممن اصطلح على تسميتهم بأطفال الشوارع، وهم في أغلب الأحيان من ضحايا التفكك الأسري، أو ممن يشكلون حالة التسرب من التعليم في مراحله الأولى، بالإضافة إلى المرضى والمعاقين. وتكمن خطورة ظاهرة كهذه في احتمالات تحولها إلى مفتاح للجريمة، والجريمة هنا لا تنحصر في ارتكاب جرم يعاقب عليه القانون فحسب، بقدر ما تشمل كذلك إدمان البعض عادة التسول كمهنة يرتزق للثراء وراء استمراره في ممارستها، وصولاً إلى اعتبارها وسيلة للثراء كما أشرت في بداية زاويتي هذه. وليس أدل على ذلك من افتضاح أمر هذا البعض في الحالة المصرية، إبان خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حينما جرى تنظيم حملة لهذا الغرض، تبين من خلالها أن هناك كثيراً من المتسولين في شوارع القاهرة وغيرها من ملاك العقارات والعمارات الشاهقة، التي تحقق لهم من الإيرادات ما لم يتمكن غيرهم من تحقيقه بالوسائل الشرعية والمشروعة المتعارف عليها، متمثلة فيما يتقاضاه أصحابها شهرياً من عائدات تأجيرها للغير. بل إن من أبرز نتائج الحملة المنظمة المشار إليها، ما تمثل حينها في اكتشاف أكثر من حالة إعاقة مصطنعة أو متعمدة بين صفوف هؤلاء المتسولين، ممن أقدموا طواعية على إعاقة أنفسهم، عبر بتر أعضائهم بمحض إرادتهم، فضلاً عن قيامهم بتقسيم مناطق انتشارهم إلى مربعات سكنية، بحيث لا يسمح لمتسولين دخلاء بممارسة هذه المهنة بين أرجائها، إلا بتصريح مسبق من متسوليها الأصليين. وفي اعتقادي.. أن ما جرى اكتشافه في النموذج المصري، قد أعيد اكتشافه بعدها في أكثر من نموذج عربي مماثل. وفي الحالة اليمنية من أوجه التماثل ما يؤكد صحة ما أردت تبيانه في هذا الشأن. ومن دلائل ذلك.. ما كشف النقاب عنه قبل عدة أشهر من أن أحد المتسولين في بلاد اليمن اضطر لمقاضاة البنك الوطني بعد إشهار إفلاسه، على أمل استرجاع ما كان قد أودعه لديه من مبالغ طائلة. وليس هذا فحسب.. بل إنه وإمعاناً في ممارسة مهنة التسول هذه، فقد تحول باعة المناديل الورقية واللبان وغيرهما إلى متسولين مقنّعين، بمعنى أنهم يتسترون بممارسة دور الباعة المتجولين لإخفاء حقيقتهم كمتسولين محترفين. وعند إشارات المرور.. هناك دائماً من يلوح بيده للمارة وركاب الباصات والسيارات، حاملاً شهادة فقر أو تقريراً طبياً بإصابة أحد أفراد عائلته بمرض عضال. ولا غرابة كذلك.. في أن ترى امرأة حال تجوالك، وقد أتقنت رص عدد من الأطفال إلى جوارها على الرصيف لاستجداء عطف المارة. ويبقى أخطر ما في الأمر.. ما يتعرض له أطفال الشوارع على وجه الخصوص من محاولات استقطابهم للانخراط في عصابات السطو والسرقة، أو في أنشطة شبكات الدعارة، وتلك قضية أخرى.