أجمع العديد من المراقبين العسكريين والسياسيين بالعالم أن العد التنازلي لتقهقر هذه الدولة الصهيونية التي تمادت وأوغلت في غطرستها واغتصابها لأراضي الآخرين قد اقترب، فقد جاءت هذه الحرب الدائرة في لبنان لتمزق اسطورة الجيش الذي لا يقهر.. وأن عهداً جديداً للمقاومة العربية قد بدأ.. فالانتصارات الساحقة التي أحرزها أبناء جنوبلبنان بقيادة حزب الله ومقاومتهم الباسلة هي مؤشرات مضيئة وواضحة على أن الإنسان العربي لم يعد ذلك البدوي المتخلف الذي يصوره الأعداء على أنه غير قادر على التعامل والتعاطي مع الوسائل الحضارية أو التقنيات المتطورة، بل إنه قد تجاوز كل تلك المعوقات المعرفية ليتفوق علي الكثيرين، وأن المسألة في الأول والأخير هي مسألة الفرص المتاحة أمام أي إنسان فرص العيش الكريم، وفرص العلم والتعليم لمعرفة كل صنوف المعرفة الحديثة، لمعرفة أسرار هذا الكون الظاهرة والباطنة وبكل حرية وبدون أية حواجز أو معوقات.. ومتى أتيحت هذه الفرص وفق معيار الأجدر والأفضل في تحصيله يأخذ طريقه الأول، عندئذٍ فإننا سنشهد أرتالاً من العلماء في المجالات المختلفة. ولقد كان أبناء حزب الله هم نتاجاً طبيعياً لهذا المجتمع اللبناني الراقي، والذي وصلت فيه نسبة الأمية في عقود منصرمة إلى مستوى متدنٍ جداً.. وليس هذا وحسب وإنما إلى تركيبته الاجتماعية القائمة على التنوع والتعدد الحربي ومن ثمة التداول في حكم البلاد، والقبول بالآخر من أبناء الوطن.. بصرف النظر عمن يكون هذا الآخر وعن عقيدته الدينية والسياسية. لقد استطاع أبناء حزب الله أن يستوعبوا ظروف المجتمع اللبناني وخصائصه ومن ثمة استيعابهم لتطورات العصر وما أفرزه من علوم وتقنيات مختلفة والأخذ بكل أسباب هذه العلوم بعقول مفتوحة وآفاق متطورة ومنفتحة على العالم، ثم درسوا وقرؤوا عن طبيعة العدو وعن خططه العسكرية والاقتصادية وغيرها من القضايا، حتى يتمكنوا من التعامل معه في الميدان على أسس واضحة لقدراته وخبراته وخططه التكتيكية والاستراتيية. ومن هنا كان هذا النصر المبين لوصول قذائفهم إلى عمق اسرائيل في منطقة «العفولة»، هذه المنطقة التي تبعد عن حيفا بخمسين كيلو متراً، وإذا كان اجتياح لبنان عام 1982م وعلى ذلك النحو البربري بقيادة شارون قد أفرز وأنتج قيام هذه المقاومة الباسلة بزعامة حزب الله فإن حرب هذه الأيام من عام 2006م سوف تعزز وتقوي مقاومة شعب لبنان للتصدي لاستهتار هذا العدو، الذي بات يهدد المنطقة بكل ما بها من قوة وإمكانات، وتوقعاتنا الصحيحة في أن هذه الحرب ستتمخض عن مرحلة جديدة لأبناء الشرق الأوسط وللشعب العربي وعن قدرات جديدة في العلوم العسكرية وطرق وأساليب لم يسبق وأن عرفت بالميدان العسكري من قبل. ففي هذه الأيام برزت جملة من التساؤلات في الأوساط العربية المختلفة عن أسباب وأسرار انتصارات حزب الله وعدم قدرة الجيش الاسرائيلي على تجاوز «مثلت مادون الرأس وعيترون وبنت جبيل»، وكيف أنه قد تكبد خسارة فادحة واضطر إلى التراجع فيما بعد.. وردنا على هذه التساؤلات وكما سبق وأن قلت: التدريب الجيد أولاً والمعرفة العلمية والتقنية لنوعية والآلة والسلاح المستخدم بالمعركة وطبيعة تركيبه ليتسنى للمقاتل إصلاح أي عطب قد يطرأ عليه وسط المعركة، ويقابل هذا كله إيمان المقاتل بعدالة قضيته وحقه بالحرية والحياة الكريمة. فعندما تتوافر هذه الأسباب يصبح النصر أملاً ميسوراً، فجماعات حزب الله أناس جمعوا بين المثالية والمادية، وأعني هنا بالمادية العقلانية بمعنى أنهم في تصرفاتهم اليومية وأعمالهم لا يركنون إلى أمور الغيب وإنما هم يستندون ويهتدون بحديث ذلك الأعرابي الذي أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً له: أأعقل ناقتي يارسول الله أم أتوكل؟؟ قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «أعقلها وتوكل؟». وبعد فلقد شاهدنا وسمعنا وقائع المؤتمر الصحفي لوزير الدفاع الاسرائيلي ورئيس أركانه وهما يدليان ويعلنان اعترافهما بالهزيمة وتكبدهما للخسائر التي لحقت بقواتهما.. والحقيقة أن معظم الناس قد ترددوا في تصديق ما يرون ويشاهدون من قادة الجيش الذي اشتهر بعدم قهره وانهزامه.. أما أنا فأصدقكم القول فإنني قد أعجبت أيما إعجاب لتلك الصراحة ولذلك الاعتراف والشجاعة الأدبية التي تحلوا بها. وإن كان قد ساورني بعض الشكوك والهواجس خشية أن يكون ذلك الاعتراف تغطية وتمويهاً للقيام باستخدام غارات من تلك التي تحرم دولياً.. ولقد كشفت هذه الحرب للمواطن العربي المسلم عن الاختلال المزمن للحركات الإسلامية وعن العلة والمعضلة المذهبية التي تعاني منها بعض المذاهب، وبرزت أصوات من هنا وهناك تشكك في جهاد حزب الله ومواقفه البطولية، ونسي أو تناسى هؤلاء أن كلمة أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله كافية لعصمة كل مسلم من النار ومن عذاب النار. ولقد أحسنت صنعاً وعملاً تلك الأحزاب التي خرجت في كل من مصر والمغرب وكل البلاد العربية في مظاهرات تأييدية ومؤازرة لموقف حزب الله، وأحسن أيضاً الشيخ القرضاوي عندما أعلن: في حالة الجهاد والدفاع عن الوطن فإن كل مواطن سواءً أكان مسلماً أو مسيحياً أو بوذياً أو بدون دين، أن يقفوا جميعاً صفاً واحداً للدفاع عن الوطن.. تحدوهم المواطنة الواحدة والانتماء الوطني.. وهاهي شكوكي وهواجسي تصدق لتؤكد بما لا يدع مجالاً للشك على أن الخبث والغطرسة الصهيونية والكره الأزلي للأنبياء والمصلحين ولكل الخيرين بالعالم، كل تلك الآفات والموبقات مع الأسف لا تزال تسكن وتسيطر على هذا الجنس «الآري»، فعجزهم وانهزامهم في المثلث إليه آنفاً دفعهم إلى هذه الجريمة الشنعاء التي جرت في «قانا» وقتل العشرات من الأطفال والشيوخ والنساء وتدمير أحد المباني الخاصة بالمعوقين، فلا ندري ما إذا كانت حالة التلكؤ في إيقاف إطلاق النار قد كانت حالة مشتركة بين الولاياتالمتحدة ودولة اسرائيل للقيام بمثل هذه المجزرة أم أن جيش اسرائيل قد انفرد بها لوحده. إن هذا العمل الإجرامي الجبان موشر آخر يؤكد صحة حقيقة تمزق أسطورة الجيش الذي لا يقهر.. بقي لنا أمر آخر نأمل من أولئك الذين خدعوا طويلاً بدموع تماسيح بني صهيون أن يعيدوا النظر في أمر هؤلاء القوم الذين كانوا وما زالوا مصدر أذى وإقلاق للبشرية على مر التاريخ، وما يهمنا أكثر بهذا الصدد أن يعمد علماء التاريخ والآثار والفكر الإنساني بدول أوروبا وأمريكا إلى أن يقرأوا كتب التوراة والإنجيل قراءات جديدة ليتعرفوا ويعلموا علم اليقين أن النصوص التي تم دسها بطرق تحريفية واضحة بما يخدم خططهم وأهدافهم وبحكم أنهم قد عاشوا في ترحال دائم بين أقطار العالم المختلف، فقد أصبح من السهل عليهم جداً أمر تحريف أي نص كان من النصوص أو سفر الخلود. وإن مجزرة «قانا» الثانية التي قاموا بها يوم الأحد الفائت، قد أكدت أن تلكؤهم لوقف إطلاق النار إنما لينتقموا لهزيمتهم في «بنت جبيل» وبهذه الطريقة المعبرة عن معدن خبثهم وعنصريتهم. وعلى الولاياتالمتحدة أن تعيد النظر بهذا التأييد المطلق والأعمى لهذه الدولة التي تجمعت من أقطار الدنيا لتأتي وتغتصب أرض قوم عزل أبرياء.. وهل ياترى مبعث هذا التأييد قيام دولة الولايات التحدة الامريكية ودولة اسرائيل فقط، أم أن لتحريف النصوص التوراتية دور إلى جانب الاعتقاد المشترك في أن المسيح لن يعود إلى الأرض إلا بعد قيام دولة بني صهيون الكبرى هو اعتقاد مشكوك فيه من قبل العديد من أصحاب الديانات المختلفة.. فلنحتكم إلى التاريخ وإلى ما قبل ألفي عام، وكيف ومن كان القائم والمتحكم بأمر هذه الأرض.. صحيح أنه قد كانت بين ظهرانينا جماعات من اليهود عاشوا كما عاشت جماعات اليهود الأخرى في العديد من أقطار العالم، ولربما أن الأغلب عدداً منهم قد كانوا في أوروبا وروسيا، وأما في فلسطين فإن نسبتهم أقل بكثير من أولئك الذين عاشوا خارج فلسطين.. وعلي كل حال فإن هذا الموضوع بحاجة إلى وقت أطول.