الثلاثاء , 29 أغسطس 2006 م ثمة لغط كبير حاصل، يسبب كثيراً من المهازل، وينبىء بكثير من المشاكل، وينذر دوامه بوضع عاطل.. فأكثر المرشحين المتنافسين لا يدركون الفرق الكبير بين ان تكون مرشحاً بفتح الشين وأن تكون مرشحاً بكسر الشين وبدلاً من تجنبهم الوقوع في أي إشكال، تجدهم ينزلقون في مهاترات متبادلة حد الابتذال. الفوز بثقة الناس في العادة يشترط في المرء تجسيد أنموذج فاضل، يكون في النبل خير مثال، وللأخلاق الرفيعة أكثر امتثال والمرشح حين يقدم نفسه للناس عليه اقناعهم بصدقه في رغبة خدمتهم، واقناعهم بأهلية شخصه للوثوق فيه، وبكفاءته وقدرته على نفعهم، وبتميز ما سيقدمه لهم، وليس عليه ان يرشح لناس الخيارات المتاحة أمامهم، ولا ان يطعن في أهليتها، أو يقزمها ويقلل من قدراتها، ولا ان يشكك في وطنيتها أو في صدقها. يخطىء أي مرشح ينزلق إلى الانشغال بغيره من المرشحين، وتقديم نفسه للناخبين على حساب تسفيه منافسيه أو الحط من شأنهم وإنكار صلاحهم ونفي كفاءتهم، لأنه بذلك يخول نفسه حقوقاً ليست له، فيسيء إلى نفسه أولاً، وينفر الناس منه ثانياً، ويسلب الناخبين حقهم في تمييز الصالح من الاقل صلاحاً والنافع من الاقل نفعاً، ويعتدي على حقهم في الحكم على المرشحين أمامهم، وحقهم في اتخاذ القرار باختيار من يجدونه هم وليس غيرهم، أنه الأفضل. لكن الحاصل في بلادنا هو انزلاق كثيرين من المرشحين إلى هذا المزلق، والحال محلياً تشهد ممارسات قاصرة تسبب كثيراً من المشاكل التي توتر اجواء التنافس وتحيلها إلى اجواء تباخس، وتعكر عملية الانتخاب فتحيلها إلى ساحة انتحاب، وتحرف مسار وغاية الانتخابات . ينسى أكثر المرشحين حقيقة ان الانتخابات الرئاسية والمحلية هذا العام، مختلفة وانها وان كانت مألوفة من حيث نوعها، بوصفها ثانية انتخابات رئاسية ومحلية إلا انها مختلفة في ظروف إجرائها، وتأتي وسط موجة «التغيير» التي تجتاح المنطقة والعالم، وتأخذ اشكالاً عديدة، ما بين دعوات مدنية، وتدخلات سياسية خارجية، وتصميم مشاريع تغيير معلبة تنتج ارتهاناً بالخارج واذعاناً للأجنبي وما تقتضيه مصالحه، وتصدير أخرى «متفجرة» تنتج تدميراً لسيادة البلدان وسلباً لثرواتها. صحيح ان الوضع مختلف في حالة اليمن، وان بلادنا تملك مشروعاً وطنياً للتغيير، محلي الانتاج، وتسير في تنفيذه منذ 16عاماً على الاقل، تنفيذاً جماعياً لا ينفرد طرف دون آخر باختيار ملامحه أو فرض مساره، قدر ما تشارك جميع القوى السياسية والاجتماعية في تنفيذه تدريجياً، وبعقلانية لا تتجاوز الواقع ولا ترتهن بعثراته، وصحيح ان بلادنا قطعت شوطاً كبيراً من مراحل التحول الديمقراطي، والتأسيس له على صعيد التشريع القانوني والبناء المؤسسي والممارسة العامة. لكن العيون، عيون دول المنطقة عيون المجتمع الدولي، تحدق صوب اليمن الان أكثر من أي وقت مضى، وثمة رهانات عديدة يجب ان لا نغفلها، بعضها تراهن على اخفاق العملية الانتخابية في اليمن وتعثر تجربته الديمقراطية الفريدة في المنطقة والبعض الاقل تراهن على نجاح الانتخابات اليمنية وتأصل هذه التجربة الديمقراطية واحرازها نجاحاً يتعدى حدود القطر اليمني إلى دول المنطقة بأكملها. ما من شك ان النسخة الثانية من الانتخابات الرئاسية والمحلية في بلادنا، تأتي في ظل مناخ سياسي محلي أفضل، كما تأتي في ظل نضج حزبي وعي شعبي أكبر، وتحظى وهو الأهم بدعم واضح وحرص جلي من القيادة السياسية على انجاحها، وبإدارة انتخابية أكثر توازناً وحرصاً على التزام ضوابط سلامة سير إجراءات الانتخابات وضمان عدالة فرص منافساتها وحيادية مراقبتها وتباعاً نزاهة نتائجها. لكن المطلوب في المقابل من جميع القوى السياسية المتنافسة في هذه الانتخابات، أخذ كل ما سلف بعين الاعتبار، ومراعاة جملة المحاذير الانتخابية والاحتراز من الوقوع في مزالقها، وان تستشعر كافة القوى السياسية مسؤولياتها الكبيرة في انجاح العملية الديمقراطية، بقدر استشعارها مسؤوليات الإدارة الانتخابية [اللجنة العليا للانتخابات] فتسهم بفاعلية في تبديد اجواء التوتر لا في تصعيدها، وفي امتصاص أسباب التصادم لا في بثها، وفي قطع دابر الصراع لا في وصله. على الجميع.. إدارة الانتخابات، والأحزاب والقوى السياسية، والمرشحين الحزبيين والمستقلين.. ان يتعاملوا مع الانتخابات بوصفها اختباراً للجميع يفترض بإجرائه وبخوضه وبنتيجته أيضاً، صالح الجميع. وان لا ينسوأ حقيقة ان «الصراع» هنا ليس فيه غالب ومغلوب، لأنه ليس في صالح احد، ولان الجميع سيكونون مغلوبين، وفي مقدمتهم الوطن، الذي يأتي أولاً، ولا معنى أو قيمة تذكر للجميع دونه، ودون تماسكه وقوته. يستطيع الجميع إذا دخلوا الانتخابات بنوايا حسنة وغيرة حقة على الوطن ورغبة جادة في خدمته، ان يتنافسوا في عرض رؤاهم وبرامجهم للحكم على الناخبين وفي اقناعهم بها ومضامينها وما سيقدمه كل طرف أو مرشح لهم، ويتركوا القرار الأخير للناخبين، دون الانشغال بإدانة الآخر وإنكار أهليته ونفي مصداقيته، .. إلخ ما بدأ يطغى على ساحة منافسات الحملات الدعائية للمرشحين، وعلى نحو لا يخدم المرشحين أنفسهم، ولا غاية ضمان أجواء أمنة وحرة للانتخابات. الأيام الاثنان والعشرون القادمة، بالغة الحساسية والأهمية.. كل ما فات مرهون بما هو آت.. حاضر اليمن في كفة ومستقبله في كفة، وسمعته ما بينهما معلقة بسلامة إدارة الدفة، فما تشهده البلاد منذ أسبوعين ليس مجرد انتخابات رئاسية أو مجرد انتخابات مجالس محلية، بقدر ما هو في حقيقة الأمر امتحان نضج واختبار كفاءة، يخوضه جميع اليمنيين بلا استثناء، ويتوقف على مستوى خوضه ونتيجة اجتيازه، تقرير مصير وطن وشعب بأكمله. الأخطاء والزلات من هذا الطرف أو ذاك، تظل واردة، ولهذا كان وجود القضاء، ووجود أجهزة الأمن، ووجود المراقبين والمشرفين المحليين والدوليين، وحقوق ولجان الطعون، لكن الأهم هو ان لا تقابل الأخطاء أو الزلات بأخطاء مماثلة أو متجاوزة لها، وان لا تجابه الزلات بردود فعل غاضبة منفعلة، تعيق بلوغ جميع المتنافسين غايتهم، وتسيء إليهم وتنفر منهم الناخبين الذين لم يعودوا يميلون للأكثر نفوذاً ولا يهابون الأكثر عنفاً. الناخبون اليوم، يعرفون حاضرهم جيداً،و يحتاجون خطابات تتحدث عن مستقبلهم في المقام الأول، وبرامج انتخابية تتضمن تصورات ورؤى محددة تتنافس في رسم ملامح مستقبل أفضل والتعاهد بتحقيقها هذا ما يحتاجه الناخبون، يحتاجون حملات دعاية انتخابية تقنعهم بأصحابها لذاتهم هم وبجدراتهم وتميز ما يطرحونه وما يعدون به، ولا ينتظر الناخبون من أحد ان ينوب عنهم في اطلاق انطباعات جاهزة عن المرشحين ولا في اتخاذ قرارات بشأن الخيارات المتاحة امامهم. وغني عن القول، ان الانشغال بالآخر يهدر وقت المرشحين المحدود اساساً، ويفوت عليهم فرصة اقناع الناخبين بهم وبرامجهم، فضلاً عن حقيقة ان انشغال المرشح بنفي كفاءة الآخر، وانكار مصداقية الآخر، والتشكيك في نزاهة الآخر .. يعكس لدى الناخبين انطباعاً بافتقاده شرف المنافسة، مثلما يضعف فرصته عند الناخبين بادعائه انه لا احد أهل لثقتهم ولا أحد يصلح لإدارة شئونهم عداه وحده !!.