ارتبط هذا التاريخ وتلك المرحلة العابقة بالحزن بلوحة دموية مرعبة، مازالت ذاكرة الإنسان اليمني مثقوبة بسببه؛ كلما حاول نسيانها تراءت له الصور والمشاهد والأشلاء وحطام الآلات العسكرية وبقايا ذخيرة قد تم استنفادها في حينه، رعب أخوي تركه الرفاق ورحلوا، وبقية الغصة والذكرى المريرة، وحقد دفين بين الفرقاء ممن كانوا يشكلون النجمة الحمراء في واقع ممزق ومتهالك. الأفكار والعقائد «الأيديولوجيات» رحم الحقيقة التي تتشكل على ضوئها القناعات لدى الأفراد والمجتمعات على السواء، ومن خلالها يصوغ كل رؤيته وطموحه ومنطلقاته، ولا يمكن لأحد الانحراف بمسارها ما لم يكن يحمل نفس الفصيلة الفكرية والعقدية، ولذلك انكفأ الفكر الاشتراكي في زاوية مهجورة من الواقع الاجتماعي بعدما كان يسوّق للمجتمع الأممي على مستوى الكرة الأرضية، ووجد الرفاق اليمنيون أنفسهم مشدودين كل إلى قريته ومنطقته وعشيرته، في لحظة صفراء كادت تغيّر اللون والفكر والتوجه، وصارت الكلمة الأولى فيها للبندقية وحدها. لم يعد الحزب حينها عقل وضمير وشرف الجماهير، فقد غدا كفنها وقبرها اللا إرادي، وتحول الرفاق الممنطقون والمعشرون إلى سجانين من الطراز الفريد، أنستهم اللحظة ميثاق الشرف الأخلاقي والوطني والإنساني والأممي، وتحول الجميع إلى ضحايا فكر ومعتقدات لم تخلق لهم بل لغيرهم، وشعارات فُصّلت على مقاسات تكبرهم بكثير، الأمر الذي حوّل المرحلة إلى استثنائية، لكون التجربة فاشلة منذ البداية لعدم توفر العوامل اللازمة لنجاحها فكرياً وبشرياً، وعياً وممارسة، إبداعاً وتخليقاً مستمراً. توقف الإبداع في اللحظة التي قرر فيها الرفاق حق الوكالة الشاملة والكاملة لكل ما يمت بصلة إلى الجماهير ونشاطها وحيويتها، أممت الحياة، وتوقفت الحركة، وتحول المجتمع إلى طوابير تمتهن الحاجة، وليس لها من تفكير سواه. الحديث لن يدخل في عمق ذلك الصراع الدموي بين الرفاق وحيثياته وأسبابه، لأن ذلك يستدعي مني الوقوف على الأطلال لوقت طويل جداً، ومن ثم استحضار الزمن والشخوص والفعل والظروف التي لعبت الدور الكبير في إنضاج كل التداعيات المسؤولة عن وصول الحالة إلى الصراع القاتل بين الاخوة الأعداء الذي انتهى بإزاحة طرف ما وتصفية وجوده وكوادره ورموزه. إن الأمانة العلمية تدفع بالدارسين لهذا الموضوع إلى إعادة النظر في تشريح اللحظة والفكرة والأدوار والتكتلات والشلل ذات التوجه المناطقي والقروي، ومن ثم الحفر الدقيق وراء كل المفردات التي أدت إلى تلك الحرب المجنونة بين إخوتنا الرفاق لحظة تخليهم عن المبادئ والقيم الاشتراكية، والمعتقدات التي آمنوا بها حتى الثمالة، وتنصلهم عن كل الأطروحات الفضفاضة والعبارات البلاستيكية والمطاطية التي زودهم بها الأسطول الروسي الجاثم على أرضهم وعقولهم وإرادتهم ووعيهم؛ الأمر الذي نمّى في وعي كل الرفاق ضرورات العودة إلى العصبية القروية والعشائرية، فكانت المناطقية لسان حال كل فريق على حدة، وانتهت على أيديهم مبادئ وقيم الاشتراكية العلمية في اليمن، وتحولت المناطقية إلى كشف حساب خاص، ولا صوت يعلو على صوت المنطقة والشلة والعشيرة. إذا كانت الأيديولوجية الشيوعية والاشتراكية العلمية عند الرفاق في الشطر الجنوبي من الوطن قد تحولت إلى جسر عبور للتمزق الاجتماعي والاقتتال العشوائي والمنظم، والتسابق والصراع المناطقي المحموم على السلطة، الأمر الذي أدى إلى انسحاب تلك التراكمات والتشوهات العميقة في الوعي والممارسة والآفات القاتلة على الاقتصاد وبنية وتماسك المجتمع وأمن واستقرار البلاد، ودخولها في مسلسل تدهور مرئي وغير مرئي. ومن الإنصاف القول بأن تلك الظروف السيئة لم تؤثر في وعي المجتمع بأهمية الوحدة اليمنية وحاجة اليمنيين جميعاً إليها، ولا يجب القول بأن الظروف تلك قد جعلت قيادة الشطر الجنوبي من الوطن ترتمي في أحضان المشروع الوحدوي حسب تعبير بعض الكتّاب والباحثين فالقول يفتقر إلى المصداقية والموضوعية معاً، لأن الوحدة اليمنية كانت حتى تلك اللحظة مطلباً جماهيرياً وخياراً وغاية جسّدها فكر وممارسة كل الأطراف والقوى السياسية في الساحة اليمنية في الشطرين، ولا يستطيع أحد إنكار ذلك، لأن أدبيات كل الفرقاء تضع الوحدة اليمنية غايتها الأولى. ثمة ما يجعل القارئ الحصيف والمحايد يستعرض كل المفردات المكونة للوجه الحقيقي للصراع منذ اللحظة الأولى لولوج الأيديولوجية الماركسية والمبادئ الشيوعية إلى الوعي والحكم في الشطر الجنوبي من الوطن، ليتأكد إلى أي مدى كان التفصيل مجانباً للحقيقة ولا يمت إلى المقياس اليمني بصلة، وتبيّن أن الشكل والمضمون يتنافران والعقلية اليمنية تماماً، وأن محاولة الضغط على العقل بأفكار وقيم معلّبة خطأ وجريمة استهلكت الوطن والشعب ربع قرن من الزمن، وأن النخب حينها لم تكن صادقة مع الجماهير، بل حولتها إلى مختبر مفتوح لأفكار ومعتقدات وقيم غريبة وجافة تتصادم والعقل والضمير والشرف. لم تضع النخب حينها الأمر على طاولة الحوار والبناء معاً؛ بل ذهبت للفرض والقمع بدلاً من أن يذهب للنفط والقمح، اعترفت بأن البيئة الاجتماعية لا تستجيب للفكر والأيديولوجية المستوردة من خارج العقل، فكان الاصطدام بوعي وضمير الجماهير واضحاً منذ البداية، ظهر ذلك جلياً حين ولّت جموع الرفاق المؤدلجة هاربة ومولية كل باتجاه قريته وعشيرته في لوحة دموية مرعبة. إن الضمير الحي، والعقل السليم يقودان صاحبهما إلى الإتعاظ بكل ما حدث ويحدث من حوله، وترتفع لديه نسبة الاستيعاب للدروس القاسية التي تحفر قهراً وقسراً في الذاكرة الفردية والجماعية، ولا تنمحي بأي حال من الأحوال، لأنها مزجت بلون الدم وتشكلت من أشلاء الأبرياء والمطحونين داخل المجتمع، تلك الدروس الحمراء في ذاكرتنا قد أخذت حيزاً كبيراً من تاريخنا المعاصر وجهدنا وإمكانياتنا الوطنية ومقوماتنا المادية والمعنوية والزمنية التي كنا بحاجة إلىها للنهوض والتطور والنماء. أي درس أقسى من تلك الدروس الملطخة بلون الدم، ما أشدها وأقساها وأبلغ أثرها، قد سطرت بأجسادنا، ولا أحسب عاقلاً يتمنى أن يعاد عليه مثل تلك الدروس والمواقف الصعبة والمرعبة.