صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    عيد العمال العالمي في اليمن.. 10 سنوات من المعاناة بين البطالة وهدر الكرامة    العرادة والعليمي يلتقيان قيادة التكتل الوطني ويؤكدان على توحيد الصف لمواجهة الإرهاب الحوثي    حكومة صنعاء تمنع تدريس اللغة الانجليزية من الاول في المدارس الاهلية    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    عن الصور والناس    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عندما تصبح الأزمات قُوْتاً لبقاء المشترك
نشر في الجمهورية يوم 16 - 11 - 2008

السلطة هي أكبر الغنائم لدى النخب المؤدلجة، وهي الحلم الكبير، فهذه الأحزاب لاتؤمن بالتغيير من خلال المجتمع، لأن المجتمع يتغير وهي ثابتة ومنغلقة على نفسها، فتصبح السلطة ضرورة حتمية لتحقيق النصر على المجتمع، فمن خلال القوة السلطوية وأدواتها القهرية تتمكن من نشر الفكر وتضخيم المصالح، مع ملاحظة أن الفكرة ليست إلا قنطرة للوصول إلى الغنائم المادية، لذا ففي المجتمعات التي تكون فيها الموارد نادرة، فإن الايدولوجيا تبالغ في عدائها لخصومها، وتتحول القيم والمفاهيم الفكرية إلى أدوات لتدمير الخصم المعيق لمصالحها، فإن كان الخصم في المعارضة يُقهر ويُلغى، وإن كان في الحكم يشوّه ويتهم بالفساد والخراب، ويتم تعبئة المجتمع ضده، والعمل على إضعافه، بفتح جبهات كثيرة لإنهاكه، ومن ثم الانقضاض عليه.
وهذا يفسر تسرع وحلم النخب المؤدلجة في الإمساك بزمام السلطة، وتشبثها بها في حالة وصولها إلى الحكم، لذا فإنها تشكك وتكفر بالديمقراطية إن لم تتمكن من خلالها من تحقيق أحلامها، وعندما تمسك بالسلطة حتى بطريقة ديمقراطية فإنها تحول السلطة وأدواتها القسرية إلى قوة جبرية لإكراه المجتمع على مثاليتهم المتعالية، والنتيجة المستقاة من تاريخ الدول أن محاولة إجبار المجتمعات وقسرها على التغيير، بالاعتماد على فكر مؤدلج متعالٍ، يقود إلى الصراع بصورته العنيفة، وبدراسة تجربة الأحزاب الايديولوجية المتطرفة التي تعمل في بيئية ديمقراطية سنجد أنها تصل بالمجتمع إلى حالة من الصراع المدمر.
وإذا استطاعة النخب المؤدلجة إذلال المجتمع، والإفراط في استخدام العنف المنظم ضده من خلال تشكيكها بثقافته ونفيها لصالح الايدولوجيا، وتحويل أدوات السلطة إلى قوة قاهرة لكل مقاومة يفرزها المجتمع للتعبير عن نفسه وحاجاته ورغباته وطموحه، فإن الفكر المؤدلج لا ينتصر في هذه الحالة بل يصيبه الكساد والفساد، ويصبح المجتمع كارهاً له.
كما أن التعبئة التي تستخدم لتحريك الجماهير تموت مع الوقت، لأن المجتمع الذي لايصنع أفكاره يتحول إلى موضوع خاضع لمن يصنع فكره، وهذا ما يدفع بالمجتمعات لبناء أدوات مقاومة من خلال السلبية التي تعمّ نفوس الناس، وسحب الثقة من النخبة، ونبذ أفكارها، ومع الوقت يُفشل المجتمع مشاريعها، ويُعيق فلسفتها المتعالية، وهكذا يخسر المجتمع أفكاراً إيجابية لو تم التعامل معها بواقعية وتم تبيئتها بالنقد الدائم لمقولاتها وللواقع، وامتاز مناصروها بالصبر والأناة بإعادة البناء لتحققت ولو بعد حين بما يتوافق ومصالح الجميع.
وتؤكد تجارب الدول، التي سيطرت عليها الايديولوجيات المفروضة على المجتمعات، أن من الأسباب الأساسية أيضاً لفشل النخب المؤدلجة، أنها تغلق الأبواب أمام قوى المجتمع، وتعزل نفسها عن الناس، ومع الوقت تتحول الايديولوجيا إلى أداة نفعية لتضخيم مصالحها، ويصبح التركيز على الآليات التي تمكنها من الإمساك بالسلطة أهم من الفكرة ذاتها، وكل ذلك يعيق التّغير والتحول.
وتمثل الإيديولوجية الدينية مثالاً واضحاً لصناعة الأزمات، فالحركات الدينية السياسية التي تمارس السياسة داخل مجتمعاتها المسلمة لديها اعتقاد جازم أن الصراع يخدم فكرهم الدعوي، ويمكنّه من الانتشار والتوسع، وكلما اشتدت وطأة الأعداء زادها ذلك قوة وقدرة على المواجهة... وفي الغالب ترسخ الحركات الإسلاموية في أدبياتها فكر المواجهة والمقاومة بشكل دائم، والعدو ليس واحداً، بل يبدأ بالنفس وشياطين الجن والإنس... والغرب بكليته عدو لدود، مواجهته فرض عين، وفي الداخل فإن العدو قد يكون علمانياً أو دينياً، ولكنه مختلف مذهبياً أو لديه منهجية مختلفة في التغيير... وقد يكون العدو نخبة حاكمة تشكل عائقاً أمام الحركة في الوصول إلى السلطة.
بل إن البعض يبالغ في تطرفه، ويرى في المجتمع عدواً، فهو يفكر بشكل مختلف، ويمارس سلوكيات متناقضة مع البناء الإيديولوجي، وهكذا يصبح الحزب الديني في حالة صراع مع الكل، فيشعر أعضاؤه بالعزلة، فتجعل منها النخبة غربة، وهذا يرسّخ لدى الأعضاء قناعة أن حالة الغربة التي يعيشها الحزب أو الحركة نتاجٌ لامتلاكهم الحقائق المطلقة، ونتاج فساد أعدائهم في الداخل والخارج، وهذا يجعلهم يخوضون الصراع بقوة وحزم مع الآخر.
وعادة ما تؤكد الايدولوجيا أن قوة الصراع وعمقه، يزداد مع تقديم التضحيات، ويؤدي إلى تحقيق النصر، وهذا يولّد قناعة أن الاستشهاد هو طريق النصر، والاستشهاد قد يكون مع أعداء الداخل في المعارك الفكرية أو المعارك الانتخابية أو في تفكيك الحاكم والعمل على أضعافه وإنهاكه بممارسة العنف ضده، أو بمواجهة قوى الشر داخل المجتمع.
بالنسبة للإسلام السياسي السنّي بنسخته الإخوانية، يشكل الصراع محوراً لحركتهم، وظهر بشكل جليّ في صراعهم مع التيارات القومية واليسارية، وصراعهم مع الماركسية مثل البداية القوية في تاريخ الحركة، وبعد هزيمة العصابات الماركسية أصبحت الحركة جزءاً من الحكم، ولكنها استمرت في مواجهة أعدائها في الداخل، ومثّل انتقال بعض قياداتها إلى أفغانستان فرصة لتفريغ طاقة المجاهدين، ولتدريب وامتحان عناصرها في ساحة المعركة.
مع إعلان الوحدة ورغبة الحركة في الخروج بواجهة سياسية، خرج الإصلاح ليولد صراعاً قوياً ضد الحزب الاشتراكي، وأدارت القوى الإصلاحية معاركاً سياسية في كل اتجاه، وكان دستور دولة الوحدة قنطرة لتمرير سياسات التعبئة وإظهار قوتها، وظل الحزب الجديد يدير معارك فكرية وسياسية ضد الحزب الاشتراكي والقوى القومية البعثية والناصرية التي ظهرت في الساحة، وضد الأحزاب التي أسستها القيادات الدينية الأخرى... وتحالف الحركة مع المؤتمر والقبيلة، شكل لها درعاً قوياً، مكنها من إدارة معاركها بكل قوة، وتحولت العملية الديمقراطية والحرية الممنوحة إلى ساحة معركة، أفرغت طاقة حزبها بشكل سلمي رغم ما تخلل ذلك من عنف.
بعد انتخابات 1993م دخل الإصلاح في حكومة ائتلافية، كان عدوه الاشتراكي شريكاً أساسياً في الحكم، ولكن حالة الصراع ظلت هي المتحكمة بالعلاقة بين الحزبين، وبعد صيف 94م أعلن الإصلاح الجهاد من جديد ضد الشيوعيين والفساد الخلقي، ومّثل رحيل الحزب وتفجير مصنع صيرة نصراً حاسماً لمعارك باردة وساخنة استمرت لفترة طويلة.
أصبح الإصلاح شريك المؤتمر، ولكن العلاقة ظلت محكومة بحرب باردة، انتهت بفك الارتباط النهائي بالمؤتمر، ودخل في حلف جديد يعتقد أن هذا الحلف ربما يساعده في قطف ثمرة السلطة، والمعارك القادمة قد تصل إلى الزناد، فالنزعة الإيديولوجية تدفع أصحابها نحو فرض سيطرتها وهيمنتها على الجميع، وتسعى لتصبح هي القوة الوحيدة القادرة على فرض إرادتها، وعندما تصبح الوسيلة التي تمارس من خلالها النضال غير قادرة على تحقيق الحلم، تصبح الوسيلة أداة معيقة، فإما أن يتم التخلص منها، أو يتم البحث عن داعم إضافي وطريقة مختلفة.
وتحاول النخبة أن تقنع نفسها أن الديمقراطية هي الطريق لإزاحة الحاكم، ولكن المخفي خلف هذا التفكير أن الحاكم ظالم، وإزاحته مسألة لاخلاف عليها حتى يتمكن صاحب الحق من الوصول إلى السلطة... وعندما تكتشف الحركات الإسلاموية ضعفها في الانتخابات، وأن الأحزاب التي كوّنتها واللعبة الديمقراطية حاصرتها، فإنها تتجه نحو إدارة الصراع من خلال تفكيك وخلخلة شرعية الحاكم من خلال الكلمة، والكلمة لابد أن تكون قوية وحاسمة وعنيفة، وغالباً ما يتجه المتطرفين نحو خلق الأداة القوية القادرة على المواجهة، ومعهم تحولت القيم والمفاهيم الدينية إلى قوة معنوية لتعبئة المؤيدين والأنصار لإدارة الصراع بقوة وعنف، وكان النتاج ظهور حركات دينية ماضوية تعيش خارج التاريخ، وتعيد تفسير الإسلام، ليصبح العنف محور وجوهر الإيديولوجية.
ويمكن القول: إن الدين عندما يتحول إلى أيديولوجيا، فإنه ينتج صراعاً عنيفاً، فالطائفة الدينية المؤدلجة مثلاً تؤسس للصراع، لأنها تمارس السياسة بعقلية محكومة برؤية تجعل من الآخر نقيضاً لوجودها، وترى من فكرها الحق المطلق، فتلغي السياسة السلمية لصالح العنف، ومع الفكر المؤدلج تتحول الطائفة إلى قوة منظمة، إذا امتلكت السلاح، فإنها تصبح قوة قهر، حتى وإن كانت خارج الحكم، وإن وصلت إلى الحكم فإن الدمار والخراب نتيجة طبيعية.
والطائفية تؤسس للاستبداد من مراحلها الأولى، من خلال منح الولاء كله للقيادة التي يتجسد فيها كل معاني الطائفة، وتقوم بإلغاء الدولة والمجتمع لصالح رؤيتها الفكرية، وفي هذه الحالة تموت السياسة كحوار ونقاش، ويتم تأميم الحقيقة، وعلى الجميع الرضوخ، ومن يرفض فإن القوة جديرة بإقناعه، وهذا يؤسس للصراع الدموي.
بالنسبة للحزب الاشتراكي فقد تبنّى الماركسية، والصراع في بنيتها هو الحاكم لحركة الأشياء، فالصراع هو أصل كل شيء، وهو المتحكم بالتاريخ، وصانع كل أحداثه، والصراع ينتج عنه التقدم والتطور، ولايمكن تحاشيه فهو حتمي... وهذا يفسر تاريخ اليسار في اليمن وتبنيه العنف لتحقيق أهدافه، وتاريخ الحزب الاشتراكي محكوم بفكرة الصراع، حتى بعد سقوط المنظومة الاشتراكية، وتغيير مساراته الفكرية لصالح الليبرالية السياسية لم يغير البنية الصراعية في الفكر والثقافة التي ظل يمضغها طويلاً، وتفسيراته للواقع ظلت محكومة بالتحليلات والمنهجية الماركسية بصورتها الجديدة التي طورها اليسار العالمي، وهذا ما جعل الصراع يهيمن على عقلية النخبة.
فتجربته السابقة في الحكم حاولت أن تبني مجتمعاً منسجماً مع المقولات الشيوعية، من خلال إلغاء ثقافة المجتمع، وإعادة كتابة التاريخ وفق الأهواء الإيديولوجية، والعمل على إعادة صياغة الأفراد والمجتمع بقيم ومفاهيم متناقضة مع الواقع، ونتيجة القهر في تنفيذ السياسات، وتزييف وعي الناس من خلال السيطرة على الأدوات المنتجة للفكر، يلجأ المجتمع للثقافة المؤسسة للولاءات الدنيا لمقاومة النخبة ولحماية الذات.
ولما كان الحال هكذا لايجد الناس أمامهم إلا الهوية المحلية، فثقافة الطائفة الصوفية أصبحت هي الأصل، والمنطقة أصبحت هي المحدد لهوية الفرد، والقبيلة تشبع رغبة الانتماء لدى أبنائها، وهذه الإشكالية لم تصب المجتمع فقط، ولكنها امتدت إلى النخبة الإيديولوجية، فولاؤها الحزبي كان أكثر عمقاً من الولاء للدولة، لأن شرعية العضو تمر من خلال الحزب، والدولة أداة لخدمة الايديولوجيا ونخبتها، وهذه الطريقة - في تصوري - عمّقت الولاء للقبيلة والمنطقة، لأن الحزب خلق فراغاً روحياً عميقاً لدى أعضائه، ناهيك عن الصراعات والتصفيات التي حكمت تاريخه، كل ذلك عمق الانتماء القبلي أو المناطقي وحتى الطائفي لدى أعضائه، بهدف حماية الذات، ولإشباع ذلك الفراغ الذي أفقدهم هويتهم لصالح هوية إنسانية حالمة.
ونتيجة لكل ذلك يصبح الصراع حلاً لشقاء الوعي لدى العضو المؤدلج، فهو على صعيد الوعي تبنى إيديولوجيا متعالية متجاوزة للوطن، فالمناضل الشيوعي لا وطن له، وقلبه يحمل همّ الوحدة اليمنية، وفي لا وعيه يتحرك في انتماءات دنيا مناقضة لم يفكر به، وهذا جعل من الصراع الذي أداره الحزب مشوشاً لا هدف له، ونتيجة لكل ذلك يصبح الإغراق في حب الذات الفردية هو المحدد لحركة الفرد.
تخلّى الحزب عن أفكاره القديمة كلها، وتبنى الفكر الذي حاربه، وأصبح يصارع الآخرين من خلاله، ولكنه يبالغ في مطالبه بتطبيق الليبرالية السياسية بحذافيرها، دون مراعاة الواقع، لذا يمارس نقداً على الدولة والمجتمع باستخدام منهجية يسارية، ولكن هذه المرة من أجل إعادة صياغة المجتمع وفق المقولات الليبرالية، ولأنه يبالغ في حلمه الإيديولوجي، ونتيجة فهمه للواقع بمفاهيم إيديولوجية أنتجها واقع مختلف، فإنها تصبح حجاباً يعيقه من فهم الواقع اليمني كما هو، ولأن الحلول الليبرالية بصورتها المثالية كما هي في الواقع الذي أنتجتها (أوروبا الغربية والولايات المتحدة) غير قابلة للتطبيق في الواقع اليمني، فإن منظّري الحزب يعتقدون أن الديمقراطية والدولة ومؤسساتها أدوات بيد القبيلة والعسكر.
وهكذا تعامل مع الواقع، في العهد الماركسي، والمرحلة الحالية بشعاراتها الليبرالية، أدخل الحزب ونخبته في حالة من الشقاء والتناقض؛ بين الفكر والواقع والسلوك، فلا الفكر منسجم مع الواقع، ولا السلوك مطابق للفكر، وهذا يفسر تخبطات الحزب وعدمية الصراعات التي أدارها ومازال.
وفي الختام يمكن القول: إن المشترك لايمكنه أن يستمر ويعمل إلا في ظل الصراع، وهذا يجعل منه تحالفاً لا يسعى نحو الحلول والتوافق، بل لخلق أزمات متلاحقة، فالتعاون والسلم على الساحة السياسية يمثل مشكلة كبيرة، تهدد وجوده، لأن استمراره وبقاءه مرهون بوجود عدو، وهو ما يجسده بالحاكم.
وهذا يجعلنا نؤكد أن المشترك في حالة عدم نقد تياراته لنفسها، سيقودنا نحو أزمات متلاحقة، والسبب يعود إلى التناقضات التي يحتويها، وأي تفكير عقلاني داخله للتهدئة أو للتعاون مع الحاكم بهدف الإصلاح والبناء، لا يخدم المشترك بل يهدد بقاءه، وفكرة أن رفضهم للعملية الانتخابية من أجل ترسيخ الديمقراطية مغالطة وتزوير.
من الواضح أن العداء متأصل في بنية المشترك بسبب تناقض الفكر والمصالح بين أحزابه، ولكن اتفاقهم على عدو وصراعهم معه يؤجل الصراع بين توجهات تكويناته، واتفاقهم في آليات العمل أمر طبيعي، لأن الآليات العقلية التي تحكم الإيديولوجيات في تعاملها وفهمها للواقع متشابهة، بصرف النظر عن الأفكار وتناقضها، وهذا يفسر الاتفاق بين أحزاب المشترك في مواجهة الواقع بتبني رؤية انقلابية، وممارسة خطاب رافض لكل شيء، قائم على التشويه والإلغاء والتحريض وتعبئة الأعضاء والناس ضد عدو مشترك.
هذه الإشكالية التي تحكم حركة المشترك في التعامل مع السياسة، وهيمنة المنظور الإيديولوجي على أحزابه، جعلها عاجزة عن تقديم رؤية سياسية واقعية، قادرة على حل المشاكل التي تواجه المجتمع اليمني، وتركيزها الأساسي يتمحور حول مسائل لاتقع في خانة معالجة القضايا الملحة، وإنما في القضايا التي تمكنها في الوصول إلى السلطة، ويتم تجاهل البحث عن حلول، ولكن يتم توظيف المشاكل التي يعاني منها الناس في شعارات عامة لتشويه صورة الحاكم، ويتم تجاوز الحقائق الواقعية التي أنتجت تلك المشاكل، ويتم التركيز على جزء من الصورة الكلية، هذا الجزء يصبح هو الصورة كلها، فتصبح النخبة الحاكمة هي أصل المشاكل، وهذا ما يجعل من المشترك أداة قد تقودنا نحو العنف وطريقة إدارتها للصراع السياسي ليس إلا المقدمات الأولى.
واستمرار المشترك بحاجة إلى تعبئة أعضائه ضد عدو، اتفقوا على محاربته، فأي تصالح مع النظام يعني انهيار المشترك، وبالتالي فإن المشترك لكي يستمر عليه أن يصارع النظام، ومهما قدم النظام من تنازلات، فإنه سيستمر في محاربته، ولن يستقر الأمر إلا بنهاية النظام - وهذه الفكرة التي تهيمن على المشترك بلا وعي رؤية مؤسسة لصراع نتائجه سلبية على المشترك وعلى الوطن والدولة والنظام - والمنطق يقول بضرورة أن تقوم أحزاب المشترك بنقد نفسها وإعادة بناء تحالفاتها برؤية عقلانية خادمة للواقع، ومتجاوزة للرؤية المطلقة في تعاملها مع الواقع، والنضال من أجل القيم التي يؤسس لها المشروع الوطني، والعمل على الحوار مع النظام السياسي ونخبته بما يرتبط أولاً وأخيراً بالمصالح الوطنية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.