أخوض في جواز الفتوى من عدم جوازها.. ومبدئياً، الفتوى جائزة لكل، أو مِن كل مَن هو مؤهل لها علمياً وأمانة واستقلالاًً.. أي أن المفتي لابد أن يكون على علمٍ كافٍ بكتاب الله والفقه والحديث.. يتّسم ويُعرف بالأمانة والاستقلالية، لا يتأثر بالعواطف بأنواعها المختلفة. فالفتوى هي إبانة وإيضاح لشرع الله في قضية أو مسألة معينة لفرد أو جماعة أو مجتمع.. وشرع الله يتمحور حول درء الضرر عن الإنسان وجلب المنفعة.. شرع الله يهدف إلى الحق والعدل والخير ومصلحة المسلمين.. وعليه فالإفتاء هو تفعيل وتبيين لشرع الله سبحانه وتعالى. وكما قلت إن المفتي لابد أن يمتلك الخلفية الكافية للإفتاء.. وأن يتميز بالأمانة قولاً وعملاً، وأن يكون مستقلاً في ذلك.. أي أن الانتماء السياسي والمذهبي والتعصب في ذلك قد يؤثر على المفتي.. فيفتي ويؤوّل بما يتفق مع انتمائه السياسي والمذهبي حتى مع انتمائه الطائفي.. فالعاطفة السياسية والمذهبية والطائفية، وحتى الاجتماعية قد تؤثر على أمانة الفتوى، وانحرافها، وبالتالي الإضرار بالأمة بدلاً من نفعها.. لذا فمن المهم أن يكون المفتي مستقلاً سياسياً وغير متعصب مذهبياً أو طائفياً أو اجتماعياً.. أو أي نوع من أنواع الانتماء العصبي، الذي قد يخل بأمانة الفتوى. ومن المهم جداً أن يكون العالم أو الفقيه مستقلاً، لأنه مرجعية للناس جميعاً على اختلاف مذاهبهم، وطوائفهم وانتماءاتهم الاجتماعية والسياسية.. ما لم فإن فتواه ستلقى المعارضة من هنا وهناك، ولن تقبل من هذا أو ذاك، وتقبل ممن يرى فيها مصلحته، وتصبح مثاراً للجدل والأخذ والرد ثم الصراع الذي قد يتطور إلى فتنة.. والفتنة أشد من القتل كما جاء في كتاب الله.. وعليه ففتواه باطلة ومجافية لشرع الله. ومن المهم في المفتي أن يكون قادراً على تقدير الظروف والأوضاع السياسية والاجتماعية، والاختلافات المذهبية والطائفية في المجتمع الإسلامي ومتطلبات المجتمع العصرية اللازمة لنهضته وتطوره وتقدمه، ورخاء ورفاهية الأمة وأمنها واستقرارها وسلامها الاجتماعي.. فلا صحة لفتوى تحرض مذهباً ضد مذهب، أو طائفة ضد طائفة.. فالله سبحانه وتعالى يقول: «إنما المؤمنون اخوة»، ويقول: «إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون»، كما يقول بسم الله الرحمن الرحمن «قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين». وعند الفتوى لابد أن يعي كل مفتي أن الأصل في الإسلام، والقاعدة الشرعية هي درء المضرة وجلب المصلحة، ودرء المضرة قبل جلب المصلحة.. وفي ضوء ذلك أسقط عمر رضي الله عنه حد السرقة في عام الرمادة رغم وجود النص، لكنه وجد الناس في ضائقة، لا يسرق السارق إلا مضطراً مجبراً.. وإبطاله لحد السرقة كان عملاً بهدف النص وأبعاده الإنسانية، التي هي أبعاد كل القرآن الكريم.. فحين نجد من يفتي بتحريم السجارة مع عدم وجود نص، وكذلك تخزين القات، فإنما قد انطلق من أن تعاطي المادتين يضر بصحة الفرد ودخله ووضع أسرته المعيشي.. لكن هناك مسائل عامة بالمجتمع الإسلامي اقتضتها متطلبات العصر والتعامل تجارياً مع العالم مثل البنوك وحكاية ربويتها.. مثل هذه لابد أن تحسم من قبل هيئة علماء موثوق بهم ليناقشوا مدى مصلحة الأمة أو ضررها من بقاء البنوك أو ربويتها، وفي ضوء المصلحة أو الفائدة يفتون.. وهكذا الكثير من المسائل التي اقتضاها العصر.