عرفت الأيام القليلة الماضية عودة الروح إلى المواقف الجماعية التي عبرت عنها مختلف القوى السياسية اليمنية، ومؤسساتنا الوطنية المختلفة من الفتنة «الحوثية» وهي المواقف التي لم تكن مستغربة البتة بالنظر إلى حجم التهديد الذي باتت تشكله على وحدة البلاد السياسية، ومصير التجانس التاريخي والتعايش المذهبي والطائفي بين أبناء المجتمع اليمني الواحد الممتد من صعدة شمالاً إلى أقصى حدود جنوب وشرق اليمن. لقد اقتبست عنوان التناولة لهذا الأسبوع من غلاف لكتيب من الحجم الصغير كتبته الأمريكية «غريس هالسل» بعنوان:« النبوءة والسياسة :الانجيليون العسكريون في الطريق إلى الحرب النووية» في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وقد ترجمه للغة العربية اللبناني محمد السماك، وصدرت للكتاب عدة طبعات مترجمة، كما صدرت الطبعة الخامسة لنفس الكتاب عن دار النفائس سنة 2003م. والسبب الذي دفعني للعودة لقراءة هذا الكتاب يتمثل في عمليات التخريب الممنهج التي يتعرض لها الحرم الشريف «المسجد الأقصى» في مدينة القدس ،وارتفاع وتيرة الصراع بين المشاريع السياسية المبطنة بالدعوات الدينية المعتمدة على النبوءات والوصايا، ولعل القاسم المشترك بين كل تلك الأحداث هو ثنائية «الدين والسياسة». وعلى الرغم من صغر حجم الكتاب فإنه يتحدث بالتفصيل عن «المسيحية الصهيونية» ويتضمن العديد من الحقائق والمعتقدات التي يؤمن بها أتباعها، والتي تستوجب التوقف عندها وتأملها، ومنها المعركة الفاصلة «هرمجدون» وعودة المسيح عليه السلام، وعملية إعادة بناء الهيكل تمهيداً لتلك العودة. وفي هذا العدد تشير «هالسل: 77» إلى أن «... العديد من قادة اليمين المسيحي الجديد، يعتقدون أن الكتاب المقدس يتنبأ بالعودة الحتمية الثانية للمسيح بعد مرحلة من الحروب النووية العالمية والكوارث الطبيعية والانهيار الاقتصادي، والفوضى الاجتماعية. إنهم يعتقدون أن هذه الأحداث يجب أن تقع قبل العودة الثانية، كما يعتقدون أنها مسجلة بوضوح في الكتاب المقدس، وقبل السنوات الأخيرة من التاريخ، فإن المسيحيين المخلصين سوف يرفعون من كل وجه الأرض ويجتمعون بالمسيح في الهواء. ومن هذه النقطة سوف يراقبون بسلام الحروب النووية والمشاكل الاقتصادية. وفي نهاية المحنة سيعود هؤلاء المسيحيون المولودون ثانية مع المسيح كقائد عسكري لخوض معركة «هرمجدون»، ولتدمير أعداء الله ومن ثم ليحكموا الأرض لمدة ألف سنة». لقد أوردت هذا الاقتباس لمحاولة تغيير العديد من الأحداث المأساوية التي مر بها عالمنا المعاصر، من حروب عالمية أولى وثانية، وقرار تقسيم فلسطين تمهيداً لاحتلالها، والحرب الباردة، وأخرى ساخنة في منطقة الخليج العربي مروراً باحتلال العراق وكل الصراعات التي خلفها ذلك الغزو، ولم لا؟ قد يكون لها علاقة بأحداث الفتنة الدامية التي عرفتها مدينة صعدة اليمنية والتي تزعمها «الحوثي». إن المحرك الرئيس للعديد من تلك الأحداث هي رغبات مريضة تسعى للاستغلال السياسي لبعض النبوءات الدينية التي جاءت في العديد من الأحاديث والروايات الدينية عن «عودة المهدي المنتظر» أو «نزول المسيح» وهي ممزوجة بحقد دفين على الدين الإسلامي وأتباعه وإن ادَّعى البعض أنه ينهل من نفس المعين الديني ،وأنه ينتمي إلى نفس الأرومة الفكرية والعقدية. وقد يستغرب القارئ إن علم أن المشروعين الصهيوني والشيعي «الاثنا عشري» يلتقيان عند هذه النقطة أي الرغبة في تسريح وتيرة الأحداث للتعجيل بالعودة الثانية للمسيح المنتظر متناسين قوله تعالى:( ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولايستقدمون) صدق الله العظيم «الأعراف: 7: آية 34» أتراها المصادفة وحدها؟ أم تراها تعود إلى الأصل المشترك للمشروعين معاً أي الفكر اليهودي المتأصل في الأول، ونقلها إلى الثاني عن طريق «مؤسسه عبدالله بن سبأ ذي الأصل اليهودي»؟ وهو الذي نقل ماوجده في الفكر اليهودي إلى التشيع مثل: القول بالرجعة، وعدم الموت، وملك الأرض والقدرة على أشياء لايقدر عليها أحد من الخلق، والعلم بما لايعلم به أحد.. وغيرها من الترهات التي يندى الجبين الإنساني لذكرها، والتي فندها العديد من أئمة المسلمين وعلمائهم. وبما أن المقام هنا لايتسع للخوض في تفاصيل أكثر حول عناصر التداخل بين المشروعين الصهيوني والشيعي وهي الأمور التي بانت في عصرنا الحاضر أكثر وضوحاً سندع مناقشة الأمر والإجابة عن تلك التساؤلات التي أثرناها أعلاه لذوي الاختصاص من الباحثين والمهتمين بالفكر الإنساني ومذاهبه باعتبارهم أكثر أهلية من كاتب المقال للخوض في مثل هذا الموضوع، مايهم أكثر هو التوضيح للقارئ الكريم، وإحاطته علماً بما يجري من حوله عن أحداث، وربما مثلت تلك المحاولة مسعى ومحاولة للبحث عن اجابات صادقة وتفسيرات حقيقية لها،إذ المرحلة المعاصرة تطرح من الأسئلة أكثر مما يمكن للإنسان أن يدركه أو يجيب عنه ،وكثيراً مايقف الإنسان حائراً وهو يحاول تفسير حدث أو قضية معينة. استوقفتني خلال الأيام القليلة الماضية العديد من الأحداث التي مر بها مجتمعنا اليمني وبعض المجتمعات العربية والإسلامية وقد استرعى انتباهي دعوة بعض الإخوة من الكتاب فخامة الأخ رئيس الجمهورية المشير علي عبدالله صالح إلى عدم التسامح مع الفتنة الطائفية والدينية التي كانت مدينة صعدة مسرحاً لها، وهو مايتناقض كما قلت في تناولة سابقة مع النهج السلمى والحوار الديمقراطي الهادىء الذي اختطته القيادة السياسية لنفسها طيلة الفترة الماضية، وبقدر ماكنت التمس لأولئك الإخوة العذر في ظل التطورات التي عرفتها الأحداث الدامية في مدينة صعدة اليمنية، وبالنظر إلى التطورات التي عرفتها تلك القضية، وخاصة بعد صدور قرار العفو والتعويض على كل أطراف الفتنة الطائفية والمذهبية،وهو الأمر الذي زاد تلك الجماعة عتواً ونفوراً بقدر ماراعني الموقف الرافض لكل لغة للحوار ودعوة للتسامح، والمتمسك بلغة السلاح والعنف وإهدار كرامة الإنسان وحياته نظير الدفاع عن «نبوءة» قد تحمي حقيقة المشروع الذي يراد إنفاذه داخل مجتمعنا اليمني المسلم، والذي يروم خلق بؤر للصراع والفتنة المذهبية والطائفية، دون أن يأبه منفذوه لحجم الخسائر المادية والبشرية التي سيدفعها مجتمعنا اليمني ثمناً لتلك الرغبات المريضة في السلطة، والتي تتلون بألوان الدين، وتتستر بستار العقيدة والاختلاف المذهبي، طالما أن النتيجة النهائية تصب، في إطار المشروع الشيعي الأكبر وستؤول إلى التعجيل بالفتنة الكبرى والعودة الثانية. كنا قد أشرنا خلال العديد من تناولاتنا السابقة إلى فضيلة التسامح السياسي وأهمية الحوار السياسي وضرورة اعتراف مجتمعنا بأهمية خلق مساحة من التسامح لتجنب مظاهر العنف، والتعصب والصراع السياسي التي باتت تجتاح العديد من المجتمعات البشرية بوتيرة متزايدة، ونوهنا إلى ضرورة الاعتراف بالتنوع والاختلاف في وجهات النظر وأساليب التفكير بين أبناء المجتمع الواحد باعتباره أمراً واقعاً ودليلاً على حيوية مجتمعاتنا،ولكونه السبيل الأكثر أمناً لتحقيق «التعايش السياسي» بين مختلف الفرقاء السياسيين في المجتمع. وانتهينا إلى القول: تتعدد الأسباب التي تدفع بعض الأفراد أو الجماعات في مجتمعاتنا إلى الصراع السياسي والتناحر، وقد عزونا ذلك إلى غياب الإيمان بفضيلة التسامح، وقد أشرنا إلى أنه قد يكون من المشروع وضع العديد من التساؤلات: ماالذي يمنع الأفراد أو الجماعات أو القوى السياسية عن انتهاجها « فضيلة التسامح» في علاقاتهم اليومية؟ وهل هناك حدود لممارسة التسامح مع الآخرين؟ وقد سبقت الإشارة أعلاه إلى الإجابة عن الشطر الأول من السؤال، وللإجابة عن الشطر الثاني من السؤال أن على السلطة أو الدولة أن تتعامل مع غير المتسامحين بطريقة متسامحة حتى أن لم يكونوا متسامحين شريطة ألاَّ يكون في ممارسة التسامح أي تهديد أو تعريض لمؤسسات الدولة وآليات اشتغالها المختلفة للتعطيل باعتبارها خطوطاً حمراء لايجوز تعديها أو التفريط فيها، وشرط عدم تعريض حريات الأفراد للخطر، إذ أنه حين لايتهدد سريان الدستور العادل فمن الأفضل التسامح حتى مع غير المتسامحين، وعلى المواطنين الشرفاء في مجتمعنا اليمني أن يناضلوا لحماية الدستور بكل مايتضمنه من الحريات والحقوق حتى لاتتعرض للخطر. - أستاذ العلوم السياسية جامعة إب