أشرت في تناولة الأحد الماضي إلى تباين الدوافع التي حكمت تحرك سلطتي شطري اليمن صوب الوحدة اليمنية نتيجة الظرفية التاريخية التي عاشها كل واحد من النظامين السياسيين في شطري اليمن.. وللتفصيل أكثر حول هذه النقطة يمكن أن نشير إلى أن أغلب الدراسات اليمنية وغيرها أظهرت التفاوت في الأسباب التي قادت في التحليل الأخير إلى إعادة تحقيق الوحدة اليمنية، وهو ماأدى إلى تباين الدوافع التي حكمت تحرك سلطتي شطري اليمن صوب الوحدة اليمنية وبصورة واضحة. في البداية أرجو أن لايساور القارىء بعض الشك حول الأسباب التي دفعت الكاتب إلى إعادة البحث والتنقيب في الدراسات التاريخية، وحول ماإذا كان يراد منها إعادة نكء بعض الجراح المندملة في الجسد اليمني، أو التقليل من دور بعض الأطراف التي شاركت في تحقيق الوحدة اليمنية. لا ، ليست هذه نية الكاتب، وإنما هي الرغبة في تعريف جيل الوحدة اليمنية بالمسيرة الصعبة التي قطعها شعبنا اليمني في سبيل تحقيق حلم الوحدة اليمنية، وبيان الدور الذي لعبه كل طرف من أطراف الحوار الوحدوي الصعب مما توافقت عليه أغلب الروايات العربية واليمنية وغيرها عبر الاستشهاد بأكثر من رأي، وأكثر من رواية واحدة. إذ يشير أغلب الباحثين إلى ان سلطتي اليمن انقسمتا إلى قسمين : من جهة أولى سلطة كانت ترى في السعي لاعادة تحقيق الوحدة «رهاناً جدياً»، يمكن ان يضاف إلى سلسلة النجاحات التي تمكنت من تحقيقها خلال المرحلة السابقة، حيث إنها وبعد ان أحرزت العديد من الانتصارات والنجاحات، منها : الاحتفال بالذكرى الخامسة والعشرين للنظام الجمهوري، وتصدير الشحنة الأولى من النفط اليمني في 1987م، مروراً باجراء الانتخابات التي طال انتظارها لمجلس الشورى اغسطس 1988م، واختيارها «اختيار الرئىس علي عبدالله صالح»، من طرف المجلس المنتخب، لفترة خمس سنوات للمرة الثالثة في منتصف 1988م، واستضافة قمة مجلس التعاون العربي «الذي ضم الجمهورية العربية اليمنية، وجمهورية مصر العربية، والعراق، والأردن» في سبتمبر 1989م، قد رأت أن رهان إعادة تحقيق الوحدة اليمنية، في ظل الظروف المتغيرة قد أصبح : «رهاناً» يستحق السعي من أجله وهو قابل للتحقيق. هذه الظروف مجتمعة، خلقت نافذة أمام الفرصة المناسبة للوحدة. ذلك ان ميزان القوى كان قد مال تباعاً ولكن بشكل حاسم وقوي لصالح الجمهورية العربية اليمنية «الشمال» طيلة مسيرة عقد الثمانينيات. إن البناء السياسي البارز المعالم، الذي زاد بوضوح من خلال قوة وشرعية نظام صالح في منتصف الثمانينيات ومابعدها، هذا البناء مكن بعض اسباب التفوق الكامنة للجمهورية العربية اليمنية من ابراز نفسها». ويضيف تشارلز دونبار Char les Dundar أنها استطاعت أن تحدث تغييراً في علاقتها بالقبائل اليمنية في الشمال وأن تدمجها في الإطار المؤسسي للدولة، وبتلك العلاقة نجحت في الحد من المعارضة لقضية الوحدة مع الجنوب «الملحد» و «الغريب» - وهي المعارضة التي كانت السبب في اخفاق العديد من المبادرات الوحدوية السابقة - بل انها نجحت في الحصول على بعض الدعم لمبادرة الوحدة، وقد مثلت هذه النقطة «تحييد المعارضة القبلية» الإضافة الأكبر أهمية التي قدمها اليمنيون الشماليون قصد إنجاح مفاوضات الوحدة اليمنية. وعلى العكس من ذلك، يرى العديد من الباحثين ومنهم «فيصل جلول » ان النظام السياسي الحاكم في ماكان يسمى بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية «ج . ي. د. ش» لم يكن يتوفر، مع نهاية 1989م ، إلا على عدد محدود جداً من البدائل، كان خيار الوحدة اليمنية هو الخيار الافضل. فعلى الرغم من ان الاحداث الدامية، التي عرفتها الساحة السياسية الجنوبية في يناير 1986م، قد مثلت فرصة للتخلص من الرئىس الأسبق علي ناصر محمد وسياساته التي كانت ترمي إلى الانفتاح على الغرب، وهو الأمر الذي كان اساساً لتحرير الاقتصاد اليمني الجنوبي، وبالرغم من اختفاء الجناح اليساري المتشدد من معارضي علي ناصر محمد «عبدالفتاح اسماعيل، علي ناصر عنتر، صالح مصلح.. وغيرهم»، نتيجة القضاء عليهم في تلك الأحداث الدامية، فإن النظام السياسي الذي تمخض عن احداث يناير كان منقسماً على نفسه إلى جماعات متعارضة على أسس مناطقية وايديولوجية، جناح متشدد من اعضاء الجبهة الوطنية الديمقراطية «شمالية» في مواجهة المعتدلين الذين ينتمي معظمهم إلى مدينة حضرموت «جنوبية»، وقد أدت تلك الانقسامات إلى الحد من قدرة النظام السياسي على اتخاذ ورسم اتجاهات واضحة لسياساته، وربما كان التقارب مع «ج . ع . ي» هو النجاح الوحيد الذي حققته «ج . ي . د ش» وهو الأمر الذي نجم عنه انشاء منطقة للاستثمار النفطي المشترك، وتوقيع العديد من الاتفاقيات قليلة الأهمية مع السلطة في الشمال اليمني، وهو التقارب الذي أسفر عن التحجيم التدريجي لنشاط علي ناصر محمد والمنفيين معه في «ج . ع . ي». ومع أنه لايمكن انكار تحقيق بعض المنجزات المحدودة في تجربة اليمن الديمقراطية علي الصعيدين الاجتماعي، والقانوني، إلا أن النتائج على الصعيد الاقتصادي مثلت الجانب الأكثر قتامة وسلبية في تلك التجربة، فقد تسببت السياسات الارتجالية والعشوائية، عبر العديد من القوانين التي أصدرتها القيادات السياسية الجنوبية خلال الحقب السابقة مثل : قوانين الإصلاح الزراعي، التأميم، في تدني الانتاج، وخلق العديد من الأزمات الاقتصادية، وهو الأمر الذي تسبب في زيادة تبرم المواطنين اليمنيين في الجنوب من نتائج التجربة برمتها، بسبب عدم تحقق النعيم الموعود رغم العديد من التضحيات، وخاصة التضحية بالحقوق السياسية والمدنية، وجعلهم ينظرون للوحدة اليمنية بمثابة طوق النجاة الأخير. وربما زادت حدة التبرم بين مواطني اليمن الديمقراطية، بصورة خاصة، عند ملاحظة التفوق النسبي للشمال مقارنة بالجنوب، فقد لاحظ العديد من المراقبين ان حكومة صنعاء استفادت من تحركات المواطنين اليمنيين بين شطري اليمن، وهي التحركات التي جاءت على خلفية وضع اتفاقية المعابر الحدودية - التي تم الاتفاق عليها بين رئيسي وزراء الشطرين - موضع التنفيذ في يونيو 1988م، بعد التوقيع عليها من وزيري داخلية الشطرين، وبموجب تلك الاتفاقية سمح للمواطنين اليمنيين، ولأول مرة، بالتنقل عبر حدود الشطرين بالبطاقة الشخصية ودون قيود أو حواجز كما كان يحدث في الماضي. حيث «تبين للزائرين الجنوبيين إلى شمال اليمن أن ج . ع . ي التي كانت حتى عام 1962 مقطوعة الاتصال بالعالم الخارجي، والتي كانت تعتبر كذلك احد أكثر اقطار العالم تخلفاً، اتضح للجنوبيين ان الشمال قد حقق تقدماً في فترة قصيرة وصار أكثر نمواً من ج . ي . د. ش . وعلى الجانب الآخر عاد الزائرون الشماليون ل ج . ي . د. ش - وبالذات أولئك الذين عاصروا أيام ماقبل ثورة الجنوب - عادوا بانطباع مفاده أنه، وبغض النظر عن اخطائه، فإن النظام في ج . ع . ي قد حقق تقدماً ملموساً، في الوقت الذي أدت ماركسية عدن إلى تحويل ج . ي. د . ش إلى اقتصاد متخلف كلية مع آفاق تقدم محدودة. وفي ظل تلك الظروف الصعبة، وخوفاً من انهياره، ونتيجة الرغبة في فك إسار العزلة المضروبة عليه، وجد النظام الحاكم في عدن نفسه أمام عدد محدود من الخيارات - البدائل وتتمثل في : الخيار الأول : يقضي بالتخلي عن الاشتراكية، والتحول إلى دولة رأسمالية مشابهة للدول المحيطة. وعلى الرغم من ان النظام الحاكم في اليمن الديمقراطية كان يوحي بأنه يسير في هذا الاتجاه، خاصة بعد ان خضعت تجربته كلها للنقد والتقييم، إلا أن فرص نجاح هذا الخيار كانت محدودة وغير مضمونة للعديد من الاسباب أهمها : أنه «أي النظام الحاكم» كان مؤسساً على اساس العداء الثوري لدول الخليج والدول الرأسمالية، وتحوله بهذا الاتجاه كان يعني ضرورة اعادة ادماج كل قوى المعارضة الذين سبق ابعادهم من اليمن الديمقراطية بحجة أنهم معادون للنهج الاشتراكي للدولة، من جهة، ومن جهة ثانية، كانت هنالك صعوبات أخرى تتمثل في مخاطر عدم تكيف اطره وكوادره، التي تمت تنشئتها على الإيمان بالنهج الثوري ومبادىء الاشتراكية العلمية مع النهج الجديد دون المغامرة في أن تتسبب تلك الاجراءات في نشوب ازمات جديدة ربما أدت إلى انهيار النظام برمته بمعنى أوضح، كان هذا الخيار يتضمن مجازفة كبيرة وغير قابلة للتطبيق بصفة فورية، ويحتاج - في حال تطبيقة - إلى فترة زمنية حتى يتكيف النظام مع المتغيرات الطارئة، وهذا الوقت لم يكن متاحاً له نتيجة العديد من الضغوط الداخلية والخارجية. الخيار الثاني : يتعلق بإعلان الوحدة الاندماجية الفورية مع الشمال، ويبدو أن هذا الخيار كان هو الأكثر انسجاماً مع طبيعة الظروف القاهرة التي وجد النظام الحاكم في اليمن الديمقراطية نفسه فيها. فصنعاء، وبالتالي الوحدة اليمنية، مثلت المنفذ والمتنفس الوحيد الذي يمكنه من انقاذ نفسه من خطر الزوال، وهو الأمر الذي غلب خيار الوحدة اليمنية على ماعداه. وفي اعتقادي ان الأمر لايمكن تفسيره بالاعتماد على تلك التحليلات وحدها بالرغم من وجاهة النقاط التي وردت فيها ودقتها، اذ نعتقد بوجود بعض العوامل التي مثلت نقاطاً مشتركة بين سلطتي الشطرين، والتي تدخل في السياق نفسه، والمتمثلة في «أزمة النظام السياسي الشطري » (أي أزمة النظام السياسي في الشطرين معاً ) وعجزه عن تحقيق التنمية الاقتصادية الموعودة، والتي كانت لفترة طويلة من الزمن ضمن مبررات قيام حالة التشطير واستمرارها، تارة بحجة عدم التكافؤ بين الشطرين على مختلف المستويات، وتارة أخرى بالحديث عن ضرورة تحقيق التنمية الشاملة بمختلف ابعادها : الاقتصادية، والاجتماعية، وبدرجة أقل التنمية السياسية، وانها بمثابة المدخل أو السبيل الوحيد لتحقيق التقارب بين الشطرين، ومن ثم تحقيق الوحدة اليمنية. مثلت العوامل السابقة الأرضية التي التقت عندها نوايا كل طرف من الاطراف، ومهدت السبيل للمضي باتجاه التسريع من وتيرة المحادثات الرامية إلى تحقيق الأمل الذي طالما راود ابناء الشعب اليمني طيلة أجيال عديدة، وقد كانت الفرصة التاريخية متاحة يوم الثاني والعشرين من مايو 1990م، وربما للمرة الأولى منذ أجيال لتحقيق ذلك الحلم اليمني حلم إعادة تحقيق الوحدة اليمنية. وأتفق مع الكثير من الباحثين الذين تناولوا بالدراسة والتحليل عمليات التحول باتجاه الوحدة الاندماجية والديمقراطية التعددية في مجتمعنا اليمني، على أن مثل تلك الظرفية التاريخية التي تحققت فيها الوحدة اليمنية كان من النادر ان تتحقق مرة أخرى، فقد تضافرت كل العوامل لتدفع باتجاه اعادة الوحدة اليمنية، وعلى مختلف المستويات : الداخلية، والإقليمية، والدولية. أليس هذا مدعاة للجميع للالتفاف حول الوحدة اليمنية والحفاظ على المكتسبات السياسية والتنموية التي تحققت في ظلها، وتجسيد الوحدة اليمنية فكراً وسلوكاً ؟؟! سؤال نضعه بين ايدي كل مواطن يمني يعشق تربة هذا البلد. استاذ العلوم السياسية جامعة إب