تابعنا ببالغ الحزن الحادث الارهابي الذي تعرض له السياح الأسبان في محافظة مأرب.. وقد شجب الجميع هذا الحادث البشع واللاانساني ، لكن المسألة لم تعد اليوم مجرد شجب أو إصدار بيانات حول كرامة الإنسان وحقوقه. لقد تعدت الحادثة المستويات الخلقية والدينية والقانونية إلى المستوى الوجودي للشعب اليمني ، فهذا السلوك يضع كل الاحزاب الدينية موضع المساءلة في إصرارهم على ربط الدين بالسياسة .. والسؤال الآن هو : لماذا لا تحسن الجماعات الدينية سوى انتهاك ما تدعو إليه أو صنع ما تشكو منه ؟! لقد ازداد العنف وتطورت اشكال الإرهاب وأدواته مع مجيء حركات الإسلام السياسي ، وسنكون مغفلين إذا اعتبرنا العنف والإرهاب، هما مجرد تجسيد لصدام الثقافات، أو مجرد تعبير عن فشل المجتمعات في ممارسة الديمقراطية. كذلك سيكون من الغباء رد العنف إلى تلك الهوة الفاصلة بين الأغنياء والفقراء، أو هو ردة فعل ضد أمريكا واسرائىل، كما يذهب البعض. إن العنف الذي تتبناه الجماعات الاسلامية هو عنف وجودي عدمي، يتجلى في ممارسة القتل والدمار لمجرد القتل والتخريب، وإلا بماذا نفسر الاعتداء على السياح الأسبان.؟! . انه تدمير الحياة بالذات.. هذا النوع من العنف يمارس اليوم في العراق وفي فلسطين والسعودية والجزائر والمغرب ومصر، حيث لا يفرق القتل الأعمى بين العدو - إذا كان هناك عدو أصلاً - وبين المدارس والجامعات.. ان ما جرى في غزة خير دليل على ذلك حينما اعتدت حماس على عناصر فتح ومثلت بجثثهم واعتبرت ذلك الفتح الثاني بعد فتح مكة، إنه العبث والجنون وتدمير معنى الحياة والوجود. إذن المسألة لا تتعلق باسرائىل أو أمريكا، ولا بالصدام الثقافي، بقدر ما تتجاوز ذلك إلى التمييز بين كفر وايمان ؛ إنها مشكلة المسلم مع نفسه .. وبهذا المعنى فإن الذي أقدم على تفجير سيارة السياح الأسبان هو ثمرة سيئة لثقافة خطباء المساجد المأزومين ونرجسيتهم المغلقة ، كما هو ثمرة إقحامنا الدين في كل شيء. إننا بحاجة إلى أن نضع على مشرحة النقد دور الوزارات المختلفة المعنية بالهوية الثقافية .. بكلام أوضح.. نحن في وضعية وجودية تحتم على وزارة التربية والتعليم والشباب والثقافة والأوقاف ان تراجع خطاباتها وان تتحمل مسؤولياتها ؛ ذلك إن خطابنا الذي ندافع عنه يولد ما نشكو منه، أي التطرف بالذات ، فالعنف الذي نشكو منه يرتد إلى صدورنا ويحصد مستقبلنا ويعطل دورة الحياة. ان العنف تكمن جذوره في العقول المفخخة بالدين، تلك التي تتجاوز معطيات الواقع وتصادر العلم وتحل مكانه وهم الإيمان المرتبط بالمثاليات والمزاعم المفرغة من صدقيتها ، ومن هنا فإن العنف المادي يصدر عن ذلك العنف الرمزي الذي يتعامل مع المشاريع البشرية بمنطق الإيمان. لنتحل بالتكامل ووضع الاستراتيجيات التي تربط بين الثقافة والارشاد والعلم والتربية بشيء من العلم، حتى لا نخدع أنفسنا ونحصد المزيد من الكوارث.. فالإسلام يدعونا إلى التسامح والانفتاح والتواصل مع الآخر والتضامن، لكننا حينما أصبحنا جميعاً خطباء مساجد وربطنا كل شيء بالإسلام، أنتجنا العنف ونصبنا المتاريس لقتل الآخر المختلف معنا دينياً أو مذهبياً. هل من الممكن أن تقف وزارة الشباب أمام نفسها ومثلها التربية والثقافة والأوقاف لمراجعة كل منها سياساتها والإخفاقات التي منيت بها.. هل آن لنا أن نعترف من جهتنا بأننا مارسنا سياسات خاطئة، من حيث علاقتنا بالدين، غافلين بذلك أن الرهان هو أن نعمل على ترسيخ المناهج النقدية في التفكير، لكي نتحول عن أفكارنا ونغير واقعنا، عبر المشاركة في إنتاج المعرفة؟!. الأجدى بهذه الوزارات أن تعيد الأمور إلى نصابها بتجاوز التهويمات الدينية والادعاءات الخلقية، نحن نحتاج إلى معالجة المشكلات بالقانون وتنمية القدرات بالعلم والتعايش بالمحبة، نحن بحاجة للوقوف لحظة مع الذات، فالثقافة الدينية التي تعمل بمعزل عن العلم هاهي تشهد على عجزها أمام آفات الفقر وآليات التخلف وفظائع العنف، كما تكتب نهايتها التحولات والتغيرات والانفجارات في أكثر من مكان، وهي تهدد التعايش السلمي بين البشرية جمعاء. نحن نحتاج إلى ورشة فكرية تعد لها هذه الوزارات، تعمل على تجديد المهمة الوجودية لنا وتغيير الآليات الفكرية بحيث نتجاوز مفاهيم الخصوصية التي تدعو إلى العنف.. نحتاج إلى سياسة معرفية جديدة تساعدنا على إدارة أفكارنا وتحديد هويتنا، لا مجال اليوم للحد من العنف إلا بإعادة التفكير في الدور الذي يقوم به خطيب المسجد ، وإعادة النظر في روح العداء التي يحملها تجاه الغرب والتي بموجبها يفتي بقتل الآخر، وعندي قصة تستحق أن تروى، ففي خطبة الجمعة يوم أمس وقف الخطيب ليندد بقتل السياح ، واعتبر ذلك حراماً من وجهة الشرع، لكنه استثنى وقال: صحيح أن هؤلاء يفسدون المجتمع، لكن ينبغي أن ندعوهم بالتي هي أحسن.. هكذا قال الخطيب ؛ فهو إذن يحرض ويصنع الفكر ويهيئ المناخ لذلك..!! أليس ذلك مسئولية وزارة الأوقاف والإرشاد؟!.. فإذا أرادت أن تحقق الاستقرار لهذا البلد، فعليها أن تشرّع قانوناً يمنع الكراهية للغرب من قبل خطباء المساجد، لأن هناك قانوناًَ يحكم البلد ودستوراً يحدد العلاقة بين اليمن وبقية البلدان الأخرى، والدولة هي المسئولة عن ذلك وليست الجماعات الدينية أو الأحزاب المتدينة. إن مواجهة التطرف لابد أن تبدأ أولاً بمواجهة الفكر وليس بمهادنته أو حتى مكافأته كما يحدث في كثير من المساجد التي أصبحت بيد متطرفين!!.