هكذا يجد المسلم نفسه أمام انجذاب من نوع خاص لأن يتسمّر في مكانه ولو لساعة أو أكثر منصتاً لمتحدث محترف للتعامل مع لطائف المعاني ونفائس الكلمات لترويض القلوب وجلائها من صدى الأيام. خطبة الجمعة .. هذا المؤتمر الأسبوعي الذي يمارس أعماله في جوّ يغمره الهدوء والسكينة .. تتوزع فيه نياشين الرضى بحسب الاسبقية في حضور الجسم وصفاء الروح.. يكتظ بالمعاني والدلالات التي تحتم الدقة في اختيار قائدٍ له يحسن استثمار الوقت في بلوغ الهدف. في كثير من الأحيان لا تكاد تجد من يحرص على الزمن وحده فينتقي من خطباء المدينة أوجزهم أداءً لهذه الشعيرة فغالبية الناس لاسيما بعض المتنورين والمثقفين يجمعون بين معياري الزمن والبلاغة .. تلك البلاغة التي يقصدون بها المفهوم القديم الذي أورده الجاحظ إلى جانب عدة مفاهيم في كتابه «البيان والتبيين» وهو بلوغ المعنى بقليل من الالفاظ. بيد ان مثل هكذا خطباء وبهكذا مفهوم تفتقدهم أكثر المنابر وتتحسر على هذا الفقدان الجموع التي ترتاد المساجد فمعظم خطباء اليوم وإن كان أغلبهم شباباً موهوبين بأصوات جهورية ولباقة في الكلام وفصاحة في الأداء لكن الخطبة على أيديهم تأخذ في التدرج شيئاً فشيئاً من مقامٍ وعظي معالج إلى جلسات بحثية يجهد الخطيب «الباحث» في مناقشة ما توصل إليه عبر ذاتية مفرطة تذهب روحانية الجو ونورانية اللحظة، فهو يلهث نحو دسامة الزاد التي تجلب التخمة مستخدماً اسلوباً علمياً يخلو من الأدبية التي عن طريقها وحدها ينشدّ إليه المستمع ويأخذه بنياط قلبه .. يحاول مثل هؤلاء الخطباء بسط الحديث حول موضوع فضفاض لا يصلح إلا أن يحتويه مؤلف كامل أو بحث علمي، وحين يسود ذلك فلا غرو إذا ما سمعت أكثر من صوت يشكو بأنه يخرج من خطبة «فلان» بلا خفّ إذا كان «حنين» قد رجع بخف واحد!!. إننا نتساءل عما إذا كان مثل هؤلاء الخطباء قد تناسوا الحكمة الأولى من مجيء الإسلام بهذا الملتقى الأسبوعي ؟ أليست خطبة الجمعة ما وجدت الا لتكون محطة ايمانية تزود المسلم بطاقات روحانية تمكنه من مواصلة السير في طريق الخير والفضيلة وإذا كان ثمة إقرار بهذا المعنى يصبح من الأهمية بمكان ان يعرض الخطيب فكرته متفّنناً في إدماج الترغيب في الترهيب والخوف في الرجاء بالاضافة إلى تقديمه لبعض الحلول الواعية والمعالجات الناجعة لما يعيشه المجتمع من قضايا ومشكلات تعكر صفو الأمن والسلام المجتمعيين. الخطابة أدب ومن العيب ان يقحم فيها غير الأدباء أو أن ننسى استطراد الجاحظ في أكثر من صفحتين يحذرنا من عيوب الخطيب في زمن كانت الخطابة أروج بضاعة يعرفها الانسان العربي .. أو ان ننسى أيضاً ان خطبتي الجمعة عند أبي حنيفة بمنزلة ركعتين يلزم لها ما يلزم للصلاة. أما وقد أصبحت المنابر مركباً سهلاً لكل من تملك الشجاعة الأدبية فإن وضعاً كهذا يفرض على خطباء العصر العيش في نفس الظروف وطبيعة المكان وتقدير المستمعين حق أقدارهم ففينا العامل والعالم والمهندس والطبيب والمثقف والأمي وغيرهم بما لا يدع مجالاً لأي مناص سوى ان يتبنى الخطيب لغة أدبية وفكرة عميقة وأسلوباً سهلاً يجمع بين الافهام ويحظى بقبول الجميع. ختاماً .. نشكو لك اللهم خطباء يتكلفون شرحاً ودراسة وأفكاراً معقدة ومغلفة بإطار فلسفي يقحمني في فوضى اندهاش وتعليل ما تلبث حينها ان تسلمني للنعاس!!