ليست كل الحياة سياسة ، وليس كل اليمنيين متحزبين ، وليس كل الشعب راغباً بغمس لقمة أطفاله بمرق الحزبية التي تسكبها المعارضة اليوم لتحول البسطاء والفقراء إلى مشاريع حزبية! صدر أمس بيان في تعز يحشد ابناءها لاعتصام يوم الأربعاء القادم ، ووضع أصحاب البيان هدفين من الاعتصام : الأول احتجاجاً على الغلاء ، والثاني تضامناً مع «انتفاضة» المتقاعدين في «الجنوب» .. لذلك فإن على المطالبين بتخفيض الأسعار ، والمتذمرين من الغلاء والمستائين من الاحتكاريين ان لا يتوقعوا من أي في الأحزاب التي أصدرت البيان ان تدافع عن لقمة أطفالهم، مالم يتحزبوا بمواقفهم ، ويشهدوا أمام أربعة شهود ان «المتقاعدين» على حق ، وان رفع الأعلام الشطرية ، وترديد الهتافات الانفصالية والمذهبية ، وعصيان القانون هو «انتفاضة سلمية» على حد وصف البيان. أتساءل : ماذا لو كان لبعض أبناء تعز رأي آخر بقضية المتقاعدين وما تبعها من تطورات !؟ كيف سيعتصمون من أجل الأسعار !؟ أم ان هناك من أدرك ان الساحة لا تؤيد خطابه ، ولا تناصر موقفه وقصد الاحتيال عليها بموضوع الغلاء ليحسبها أرقاماً في اعتصامه «السياسي» ، ويدعي ان هؤلاء المعتصمين إنما هم متضامنون مع المتقاعدين !! وحينئذ لن يفلت أبناء تعز من الوقوع في الخديعة، مثلما سيقع أبناء عدن وغيرها بالخديعة فيتوهمون أن هذه الحشود خرجت لأجلهم، وان بإمكانهم فعل ما شاءوا من العصيان مادام كل هؤلاء يناصرونهم ويحمون ظهورهم ! كتبت قبل أيام عن «كتائب البكاء على الفقراء» والبعض وصف المثال حينذاك بأنه «كيدي» لكني أحمد الله أن جاء من يبرهن للناس صدق قولي ، ويثبت لهم ان هناك من يعبث بجوعهم وفقرهم ويتاجر بمعاناتهم حزبياً ولا يهمه إن عاش الفقراء أم ماتوا بل ما يهمه هو ان يخرج من اللعبة بمكاسب مادية ضيقة ، أو مصالح حزبية .. وإلا ما دخل المتذمرين من الغلاء بموضوع المتقاعدين أو مطالب حزب ما ، ليزجوا في معركة ليس لهم فيها ناقة أو جمل ؟! المسألة الأخرى إذا كان رئيس الجمهورية قد اصدر قراراً بإعادة جميع المتقاعدين ، وتعويضهم، وترقيتهم ، ومنحهم كل استحقاقاتهم، كما وجه بإطلاق سراح جميع الذين أساءوا للوطن وعفا عنهم ، وتمت تسوية كل الاشكاليات ، فلماذا إذن ستعتصم تعز !؟ ولماذا الاصرار على استخدام كلمة «انتفاضة» والجميع يعلم ان اليمن ليست محتلة ، وان إسرائيل لم تدنس أرضها بعد، وان المطالبة بالحقوق لا يمكن ان توصف «انتفاضة» عندما يتعلق الأمر بحقوق مواطن لدى حكومته الوطنية التي تم انتخابها بمحض إرادة الجميع وتقع على الجميع مسئولية احترامها .. حتى لو لم تكن جيدة مادام الشعب هو الذي انتخبها. من الواضح جداً ان الخيار الديمقراطي لا يصلح لبعض القوى للوصول عبره إلى السلطة لأنها أضعف من ان تنال ثقة خمس دوائر انتخابية، ومادامت الخيارات السلمية لا تتيح الفرص للفاشلين فهم حينئذ ليس أمامهم غير خيارات العنف، والفتن ، وزعزعة استقرار الوطن.. لأن الفتن كانت كفيلة بجعل «الزرقاوي» السفاح بطلاً في نظر البعض جراء المجازر التي كان يرتكبها .. وهي كفيلة باغتيال أبطال فلسطين ومناضليها في زحمة الفوضى الخلاقة السائدة. ولكن في النهاية يبقى الصراع بمثابة مسألة حدية يحسمها المثقفون والعقلاء والشرفاء الذين يرفضون دائماً ان يتحولوا إلى تجارة حزبية رخيصة.