«إنها ليست ثورة، بل معجزة»..لم يجد الرئيس عبدالله السلال غير تلك العبارة في اللحظات الأولى لنجاح الثورة، لتوصيف ماحدث يوم السادس والعشرين من سبتمبر 1962م فمن كان يصدق أن الملايين الجائعة، والرجال نصف العراة، الذين مازالت رؤوس العشرات من أبنائهم متدلّية على بوابات صنعاء سيطيحون بعروش جبابرة الظلم الكهنوتي الإمامي؟! عندما نتصفّح وثائق الثورة ونمرّ بذكر العراقي جمال جميل والجزائري الفضيل الورتلاني وآلاف الجنود والضباط المصريين نشعر بعظمة ثورة اليمن باعتبار أن الموقف العربي المتحمّس للثورة هو بمثابة تأكيد على أن التغيير في اليمن كان مطلباً عربياً ملحاً،لاستشعار الأمة خطورة غياب دور اليمن القومي والدولي عن تفاعلات السياسة العالمية فلم يسبق لثورة عربية أن حظيت بمثل هذا الزخم من الدعم. اليوم بوسعنا الوقوف على إجابات لأسئلة قديمة حول: لماذا رمى الزعيم جمال عبدالناصر بكل الثقل المصري على رهاناته في كسب اليمنيين لجولات الدفاع عن الثورة، ومنعها من الانتكاس..ولماذا التحقت شخصيات عربية بركب الثورة منذ الأربعينيات!؟ ولماذا وقفت دول كبرى مثل روسيا والصين وغيرهما تدعم الجمهورية الوليدة بكل حماس؟! إن التحولات التي أعقبت ثورة 26 سبتمبر 1962م إلى يومنا الحاضر هي الإجابة الوافية التي تميط النقاب عن أسرار تلك المواقف المبكرة، وتؤكد أن هناك من كان يتطلع ويراهن بثقة على الأدوار التي يمكن أن يلعبها اليمنيون فيما لو نجحوا في الانعتاق من الكابوس السياسي الذي كان جاثماً على كرسي السلطة ويكبح جماح أي تطلع مستنير لإرادة وطنية يمنية فاعلة في الساحتين العربية والدولية. ولاشك أن تلك الرؤى التي تحمّست للتغيير في اليمن استلهمت طموحها من تجارب تاريخية ظلت شاهدة على الأثر الحضاري لليمن في تاريخ الإنسانية.. ولم يكن ذلك فقط لمآثر سطرها اليمنيون عبر حقب تاريخهم بل أيضاً لخارطة جغرافية تضع اليمن في موضع القلب، من خلال تبوئها المركز الاستراتيجي الذي تزداد أهميته يوماً بعد يوم وكلما حققت البشرية إنجازاً كلما ضاعفت من نشاطها السياسي والاقتصادي والثقافي. وحين يكون هناك بلد في مثل هذا المركز الاستراتيجي الذي يربط ثلاث قارات وتمر عبره %65 من التجارة العالمية في نفس الوقت الذي يعيش عزلة كاملة عن العالم فإن ذلك في كل المعايير السياسية يعد كارثة لأنه سيبقى عبئاً على الجميع بينما بوسعه أن يصبح مصدر قوة الجميع، والضمان الأكيد لأمنهم وسلامهم وتقدمهم. إن حال اليمن اليوم يؤكد أن ماحدث يوم السادس والعشرين من سبتمبر 1962م كان معجزة فعلاً كما وصفها الرئيس السلال رحمه الله فالقفزة الهائلة بالأدوار التي تلعبها اليمن على صعيد السلام العالمي والإقليمي، واستقرار الجزيرة والخليج العربي، وأمن القرن الإفريقي توضح بجلاء حجم الفاصل الحضاري بين العهد الملكي والعهد الجمهوري. اليوم العالم كله يتكالب على اليمن ليس ليصوّر بؤسها وتخلّفها السياسي والثقافي الذي لم يعد موجوداً أو لكتابة مذكرات مغامرات مثيرة خلف أسوارها، بل ليستثمر فيها، ويشابك مصالحه معها، وينطلق إلى المستقبل من أراضيها..فما حدث قبل 45 عاماً لم يكن ثورة بل هي فعلاً معجزة يمنية!