من السهل على كل إنسان أن يقول:«ينبغي فعل كذا، ويجب عمل كذا..» وأن يرسم معالم وملامح «المدينة الفاضلة» على الأرض، وهذا حق مشروع لكل واحد منا طالما أنه لم يتجاوز حدود الحلم والأمنيات، أو على الأقل الرضا بتحقق كل ذلك عبر مراحل زمنية معقولة ومحددة وفقاً لبرنامج زمني مقبول. لكن حينما يبالغ الإنسان في تحديد سقف طموحاته وأمانيه سيكون من العسير عليه هو نفسه أن يجيب عن سؤال :كيف يمكن فعل ذلك واقعياً، وما الآليات والوسائل الكفيلة بتحقيقها؟! فالتساؤلات السابقة مثّلت، ولاتزال تحدياً كبيراً عجز الكثير عن تحديد سبل الإجابة عنها، وكيفية تجاوز الإكراهات التي يفرضها الواقع المعاش أمام تحققها، والواقع أن حال العديد من مثقفينا ومفكرينا وأحزابنا السياسية اليمنية، وخاصة في «اللقاء المشترك» يعبر أصدق تعبير عن الانفصام بين التنظير السياسي، وبين الواقع المعاش بكل تجلياته ومعاناته البعيدة كل البعد عنه، وحتى إن افترضنا جدلاً بأن تلك الأطراف تمتلك إجابات حقيقية عن ذلك التساؤل وحددت آليات لتحقيقها على الواقع فسيكون من الحمق ومن غير المقبول أن تطالب الآخرين بتحقيق أمانيها وطموحاتها وفقاً لبرامجها «اللقاء المشترك» التي لم تنل رضا الشعب اليمني في الانتخابات الرئاسية والمحلية وقبلها النيابية، دون أن تدخل في حوار سياسي يقنع الطرف الآخر بجدوى المشاريع التي تحملها وضرورة أن تكون شريكاً فاعلاً في حل العديد من الأزمات والمشاكل الحقيقية والمفتعلة أما أن تتنصّل عن كل التزاماتها، وأن تتخلف عن الحضور إلى طاولة الحوار والمفاوضات لمناقشة المبادرة التي طرحها فخامة الأخ الرئيس لإصلاح النظام السياسي والتي سيكون لنا وقفة في مناسبة قادمة لمناقشة ماجاء فيها من نقاط تستحقّ منا كمثقفين وأكاديميين قراءة موضوعية ومتأنية لفحواها، وعدم التسرّع في إبداء الرأي مع أو ضد الذي دُعيت إليه مع كافة الأحزاب السياسية المتواجدة على الساحة السياسية اليمنية، سواء تلك التي لديها تمثيل في مجلس النواب، أم تلك التي لايوجد لها فيه أي تمثيل، بأية ذريعة وتحت أي مبرر كان، فهذا مالايقبله عقل ولايبرره منطق. ففي الأمس القريب أسمعتنا ضجيجاً وأشبعتنا بكاءً على أوضاع المجتمع والمواطن اليمني الاقتصادية المرتبطة بارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية، وعن تخلخل الأوضاع الأمنية، وأوضاع المتقاعدين وغيرها من القضايا التي حاولت استغلالها سياسياً وتحويلها عن اتجاهها بوصفها مطالب حقوقية ومعيشية، وظلت صحافتها المكتوبة والإلكترونية، وبيانات هيئاتها العليا الختامية تتحدث عنها وعن نتائجها السيئة على وحدة الوطن والمواطن اليمني، وقد كنا كمواطنين نتوقع أن تجد في نفسها الجرأة لتثيرها على طاولة الحوار السياسي المفتوح الذي دعا له فخامة الأخ الرئيس، وأن تبرز كطرف قوي وندٍّ حقيقي يملك من الحلول والبدائل الممكنة كما ادّعت في أكثر من مناسبة مايؤهلها فعلاً لقيادة البلد في حال فوزها في الانتخابات القادمة وبدلاً من ذلك فوجئنا بإعلان غياب أحزاب اللقاء المشترك عن طاولة الحوار، وقد سعت أحزاب اللقاء المشترك إلى تبرير هذا الغياب عن الحوار السياسي واختلقت لنفسها بعض الأعذار والأسباب التي منعتها عن طرح الأمور على بساط البحث والحوار والتفاوض، ولسنا هنا بصدد تناول مبررات أحزاب اللقاء المشترك، ولا الحكم على وجاهتها من عدمه، فهذا أمر يخص تلك الأحزاب وحدها وعليها أن تقنع بها قواعدها ومن تبقّى لها من مؤيديها قبل أن تقنع به الآخرين ممن لايشاطرونها الرأي، ولايوافقونها النهج الذي تنهج داخل النظام السياسي اليمني. مانؤكد عليه أن ذلك الغياب أثار، وسيثير في القادم من الأيام عشرات التساؤلات في الوسط الشعبي، وسيطرح أكثر من علامة استفهام في الوسط السياسي عن الأسباب الحقيقية التي منعتها من الحضور وعن المبرر الحقيقي الذي جعلها تفوّت على نفسها وعلى التجربة السياسية اليمنية فرصة كتلك لطرح رؤاها وتصوراتها لإصلاح الأوضاع السياسية والاقتصادية في اليمن، على الأقل في إطار مسؤوليتها الوطنية ودورها كأحزاب للمعارضة، بعيداً عن أساليبها المعهودة والمعتمدة على التهويل والتخويف وتصوير الوضع على أنه مأساوي وكارثي في بلدنا، وبدلاً من المساهمة في خلق نوع من «الفوضى الخلاقة، أو البناءة في مجتمعنا اليمني» التي لاتخدم سوى بعض الأجندات الخاصة بمصالح أنظمة وقوى خارجية لامصلحة لها ولا هدف إلا زعزعة الأمن والاستقرار في اليمن، وفي المنطقة العربية برمّتها. من البديهي الإشارة إلى أن أحزاب اللقاء المشترك لاتتقاسم مع حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم نفس النظرة إلى الأمور في اليمن وفي العالم، ولسنا نتوقع هذا كما أنه ليس من الضروري أن تكون كذلك وإلا لما كانت هناك حاجة إلى إجراء أي حوار سياسي.. ومن الطبيعي القول: إن «الاختلاف» في وجهات النظر، وإن التعدد على مختلف المستويات الفكرية والاجتماعية في المجتمع الواحد هي مسألة طبيعية بل إن الاختلاف من الأمور الأكثر بداهة في المجال السياسي، فليس من الضروري أن تتفق جميع مكونات المجتمع اليمني من أحزاب وتنظيمات سياسية ومؤسسات مجتمع مدني على برنامج سياسي واحد، أو وجهة نظر موحدة حول أسلوب تسيير وإدارة شئون الحكم في الدولة، وحول آليات حل كافة المشاكل الإدارية والاقتصادية والاجتماعية، فهذه تختلف من حزب سياسي إلى آخر، وهي التي تميّز هذا الطرف عن ذاك في مراحل التنافس السياسي المختلفة بل إن المجتمع الذي يعرف الاتفاق حول جميع القضايا والأمور يعدّ مجتمعاً شمولياً أو مجتمعاً ساكناً وجامداً وهذا مايجعلنا نؤكد أن مجتمعنا اليمني قد تجاوز بمراحل فترات النظام السياسي الشمولي. والاختلاف إن بقي في الإطار السياسي القائم على الحوار والتفاوض وتبادل وجهات النظر يكون مصدراً للخير وللثراء والتنوع داخل المجتمع، وخاصة إن كان القصد منه إظهار سلبيات التجربة السياسية، وبيان مثالبها بقصد الإصلاح لكل ما اعتور تلك التجربة من نقائص دون تصيد الأخطاء أو انتظار حصد المكاسب السياسية الشعبية لكنه يتحول إلى شر محض إن أدى إلى الفرقة وتمزيق وحدة الوطن وتشتيت الصف الشعبي والأسري، وخلخلة الأوضاع في البلد، وخلق بذور للصراع المذهبي أو الطائفي أو المناطقي أو أدى إلى زيادة البون والاحتقان السياسي بين الأطراف السياسية المتنافسة، وغيرها من النتائج والآثار السلبية والانعكاسات التي قد تخلفها الحملات الانتخابية المبكرة والدعايات والشائعات السياسية «غير المعقلنة» التي قد تخلق بيئة وظروفاً خصبة لتدخل بعض الأطراف الخارجية التي تقف فعلياً خلف العديد من الأحداث الأخيرة في شؤون مجتمعنا وبلدنا، وهو الأمر الذي يجب تلافيه وتجنبه حفاظاً على ديننا ووحدتنا الوطنية وصوناً للتجربة الديمقراطية اليمنية الوليدة، وحفاظاً على القوانين التي تتيح هامشاً للحريات لأبناء المجتمع اليمني للتعبير عن آرائهم بكل حرية، بعيداً عن لغة الوعد والوعيد أو التهديد التي يتعرّض لها من حين لآخر بعض الصحافيين بسبب رغبتهم في التعبير عن الرأي حول واحدة أو أكثر من القضايا، ولعل في مايتعرض له الزميل العزيز الأستاذ/سمير رشاد اليوسفي بسبب رأي يأبى أن يُقمع، وموقف يرفض المساومة مايعبّر أصدق تعبير عن ضيق صدر بعض قادة الأحزاب اليمنية عن سماع الرأي المخالف، مع أن صحفها تجاوزت كل حدود النقد المقبول. أخيراً، نجدد التأكيد بأن مجتمعنا اليمني وتجربته الديمقراطية يحتاجان إلى ترشيد وعقلنة الخطاب السياسي والإعلامي، وإلى التصرف من منطلق المسؤولية الوطنية والحرص على المصلحة الوطنية العليا، لا من منطلق تنفيذ بعض الأجندات الخارجية التي لاتبغي الخير لمجتمعنا، وبديمقراطيتنا ومجتمعنا اليمني. ننطلق في قولنا من قناعة كاملة بنجاح تجربتنا الديمقراطية، وإيمان عميق بأنها الوسيلة المثلى لتحديد خياراتنا المستقبلية، وباعتبارها سبيلنا الأكثر أماناً إلى التغيير والتعبير عن كل الاختلافات وممارسة التعدّد السياسي بطرق حضارية وسلمية بعيدة عن كافة الأساليب العتيقة المعتمدة على تدوير عجلة العنف والصراع والفتن والمناطقية والمذهبية والاعتداء على وحدتنا وحرماتنا ومقدساتنا. ? استاذ العلوم السياسية المساعد جامعة إب