في ليالي شهر رمضان المبارك..وعندما ينسكب الليل على مدينة المكلا، تتحول البيوت ..والجبل ..والبحر ..والأزقة والشوارع إلى عقد متلألىء من الضوء..والألوان والسحر ..والدهشة..!! ثم عندما تجهر مآذن مساجد المدينة بصوت الحق والتوحيد وخير الفلاح يتحول ليل المكلا إلى رشفات الروح...وحديث السماء ..والأيدي الممدودة المتضرعة بالدعاء وهنا يلف رمضان الكريم ليل المكلا بعباءة الإيمان..ويفرش لها في الثرى سجادة صلاة..ويصفد الشياطين التي تريد أن تعيث في الأرض فساداً،بينما تعانق نفحاته العاطرة مآذن وقباب المدينةالبيضاء..ووجوه الناس الطيبين في إجلال مهيب..!! «ياعوّاد..ياعوّاد» قالها رجل عجوز في فناء مسجد عمر بالمكلا بعد صلاة التراويح بعد أن تنامت إلى مسمعه أصوات الأطفال وهم يرددون أهزوجة في وداع شهر رمضان:«مودع ..مودع يارمضان». ثم ترقرقت من مآقي عينيه دمعة كبيرة، وابتهل إلى الله سبحانه وتعالى أن يعيد شهر رمضان في يمن وخير وصحة وبركات. إن مشاعر هذا الرجل ذكرتني بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل اليمن:«أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوباً». كما ذكرتني دمعته الصادقة الخاشعة بما قاله أبو نعيم في «الحلية»: «لما قدم أهل اليمن في زمان الخليفة أبوبكر الصديق رضي الله عنه وسمعوا القرآن ،جعلوا يبكون،فقال أبوبكر:هكذا كنا ثم قست القلوب». وأتذكر أنه في ذات ليلة رمضانية من عام 1993م ..وفي الهزيع الأخير من الليل كنت قد أجريت حواراً إذاعياً هاتفياً مباشراً من إذاعة المكلا مع سفير الأغنية اليمنية الفنان القدير أبوبكر سالم بلفقيه في مقر اقامته يومذاك بمدينة القاهرة في مصر ..وفي اللحظة التي أحببت فيها إنهاء الحوار، قلت للفنان أبوبكر: الآن يتنامى إلى مسمعي صوت وقرع المسحراتي «المطبل» وهو يدعو الناس إلى السحور..و...لكن الفنان أبوبكر قاطعني بقوله: يالله..!! لك أن تتخيل صدى صوت «المطبل» وقد رددته وتجاوبت معه جبال ومنازل المكلا..وانعكاسه في الأعماق. ثم خنقت العبرة ،ومشروع دمعة حنجرة وعيون الفنان ابوبكو سالم..!!ولا شك أن ليل و«مطبل» المكلا فجر ثورة أشواق وحنين عارمة في وجدان فنان مرهف الأحاسيس..وبعيداً عن الأهل والديار. وأعتقد أني سمعته يعاتب نفسه بالقول: واويح نفسي لا ذكرت أوطانها حنّت حتى ولو هي في مطرح الخير رغبانة والخلاصة.. تظل أحاديث ليالي رمضان في مدينة المكلا تبوح عن نفسها في أكثر من موضع.فتبعث في الوجدان والذاكرة صوراً بديعة وجميلة..حتى يركع الليل للناس والمدينة،حاملاً سبحة وقنديلاً..وباقة من الورد واللبان والعطر،لتعيش اللحظة السعيدة بأدق تفاصيلها..وحتى يبان الخيط الأبيض..من الخيط الأسود..وتكون مع موعد آخر مع الليل.