أنت مع شعر «الفضول» في طرب ينثال كالأمطار، فحنجرته مجرّد، «مايسترو»، أما الأوركسترا العظمى للموسيقى فتقوم بها الجبال والوديان والسيول والأزهار والثّمار وثمّة نغمات حزينة تتدفّق وسط مهرجان الفرح الطبيعي متسرّبةً من قلب الشّاعر ووجدانه المجرّح وعدم إحساسه بالأمان وهي تمنح الفرح وشيئاً من الخلود ومذاق المعاناة الإنسانية البكماء والناطقة، وكلاهما الفرح المصفّق والحزن الخجول الذي لا يتنازل عن مظلمته في هذه الحياة التي يغص الناس بها أكثر مما ينهلون، ولكنهم تعوّدوا على إظهار السرّاء، وإخفاء الضّراء، حتى لا يساؤون من نظرة شامتة أو غمزةٍ جاحدة، أقول: كلاهما الفرح والحزن هما أفخر صنفين على مائدة الفضول الشعرية التي لم تخترق بعد أدمغة المبدعين اليمنيين وتأخذ مداها العربي إلى ما لا نهاية، فعلى كثرة ما قرأت للشعراء العرب القدامى والمحدثين لم أجد من يشبه عبدالله عبدالوهاب نعمان «الفضول» في قدرته على خوض أعسر الحروب وهي حروب الجمال تصدر عن العيون النُّجل المسدّدة والقلوب المفعمة بأشواق الوصال. وذلك الظمأ العاطفي الذي اختاره محيي الدين علي سعيد عنواناً لكتابه الرائد عن «شعر الفضول وألحان أيوب» والذي لم يقدّر له - أي الظمأ - أن يُغاث ويرتوي من ينابيع الحب التي تتدفّق كالسراب وتتسرّب كالأحلام عقب الاستيقاظ. الفضول رابط على خطوط جبهة الحب في منزلة بين المنزلتين «يكرع» من ينابيع الأحلام ويجالد السراب كما كان «دونكيشوت» في رواية الإسباني «سرفانتس» الخالدة يحارب طواحين الهواء. لطالما خطر في ذهني أن «الفضول» في رباطه يشبه المحاربين الليبيين من جماعة عمر المختار في فيلم المغدور ظلماً وعدواناً مصطفى العقاد.. حينما كانوا يُعقلون سيقانهم من الركب كما تُعقل الجِمال حتى لايهرب أي منهم من المعركة، فليس أمامه سوى النصر أو الشهادة، ومن موقعه على تخوم الحب الذي لا يكف عن الهجوم عليه، فإن لم يهجم الحب هجم «الفضول»، كان يرى الطبيعة إطاراً لا أبدع ولا أجمل ولا أنقى لهذه الملحمة الإنسانية التي سيعتقها الزمن لتتحول إلى أسطورة «كليلى والمجنون» أو «روميو وجولييت»، ولاتزال تفاصيلها تنتقل من شفة إلى شفة ومن قلب إلى قلب، ومن وتر إلى عود، ومن لحن إلى طرب حتى تكتسي لحماً وعظماً وينبعث «الفضول» بألقه وإنسانيته العابرة للخيال العربي العاشق من امرىء القيس حتى اليوم، ولذلك فمن الظلم المبين حصر الفضول أو بالأصح حشره في محدودية لا تتسع له، باعتباره مؤسس المدرسة «التعزية» في الفن اليمني، فما هذه إلاّ شذرة من قدرته الهائلة على التّحليق، وما اشتغاله على الغناء بمساعفة أيوب طارش الذي حدوده «المدرسة التعزية» فعلاً وفي ذلك الفخر كل الفخر له كرائد، إلا غيض من فيض، فمجنون ليلى لم يؤسس المدرسة «العامرية» في الغناء الشعري العربي، وإنما أشرق على القلوب العاشقة في كل مكان وزمان، وكذلك هو عبدالله عبدالوهاب نعمان الفضول: مدارب السيل قولي وامدارب لَمِ لايقدر السيل أن يروي القلوب الظما مهما مسيلك سال دافق ومن صدور ضاحات الجبال أرتمى مكانني ظمآن.. شق الظما قلبي وأشعل في عروقي الدماء والشوق لا يطفيه شنّان ماء والحب لايرويه ماء السماء واغادية فوق الرُّبي والهضاب سحاب نفسي ظامئة واسحاب وأنت تروي من سيولك شعاب وانا معاهن أستقى إنّما مكانني ظّمآن ونحن نقول للفضول - طيب الله ثراه - لقد أهديتنا أجمل الظمأ.. وهل يطيب الحب إلاّ به؟