افترضت في تناولة سابقة أن المبادرة الرئاسية تسببت في ردود فعلٍ كثيرة متباينة الشدة والاختلاف في أوساط المثقفين والمحللين والمهتمين بقضايا التطور الدستوري والإصلاح السياسي في مجتمعنا العربي واليمني تحديداً،فهذه المبادرة أعادت العمل السياسي إلى إطاره الصحيح المؤسس على الحوار العقلاني والمعتمد على مقارعة الحجة بالحجة والرأي بالرأي، بعيداً عن لغة العنف والصراع والسجال والتناحر والتحريض،وخلقت نوعاً من الحراك والنقاش السياسي بين الأطراف السياسية المختلفة فهو يزداد يوماً بعد يوم،ووسعت هامش النقد الديمقراطي الحر في أوساط مجتمعنا اليمني، وجعلت المجال والفضاء السياسي يحتضن جدلاً ونقاشاً شعبياً وحزبياً واسعاً وصحياً حول مصير النظام السياسي ودولة الوحدة ومؤسساتها التمثيلية المختلفة،وكنت تمنيت أن تتم مناقشة المبادرة الرئاسية بروحٍ علمية وعقلانية،بعيداً عن لغة التحيز والاصطفاف الحزبي والأيديولوجي،حتى لايساء فهم مبادرة الأخ الرئيس،بقصدٍ أو بدون قصد. وهذه الأمور تقتضي من جميع الباحثين اليمنيين وكافة المتخصصين تحليلها ومناقشتها بعقلانية وموضوعية، في إطار الحوار السياسي العقلاني،وهي الدعوة التي أكدتها بنود توصيات الندوة السياسية والفكرية التي عقدت في جامعة تعز خلال الأيام الماضية ،وبدلاً من لغة الانفعال والتحيز الأعمى والاصطفاف مع أو ضد وفقاً لما يقتضيه واقعنا الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي،وهذا ما أكد عليه فخامة الأخ الرئيس في أكثر من مناسبة. انطلاقاً من هذا،نشير إلى أن الإصلاحات الدستورية أو التعديلات التي اقترحتها المبادرة الرئاسية أخذت طابعاً تقنياً،أكثر منه سياسياً،ولذا ينبغي أن يكون النقاش حولها علمياً وفكرياً وليس سياسياً،فهي لم تضع الأسس أو الثوابت التي يقوم عليها النظام الديمقراطي اليمني موضع تساؤل،ونعني بذلك أنها لم تتعرض للنقاط التالية: الشريعة الإسلامية،التي تعد أساس النظام السياسي اليمني،ومصدر جميع التشريعات، والنظام الجمهوري،ونظم الانتخابات الحرة التي تكفل المواطنة المتساوية،والتعددية الحزبية وحقوق الإنسان،والتمثيل الشعبي الأساس لانتخاب جميع الهيئات التمثيلية في المستويين المحلي والمركزي ،واحترام تيارات المعارضة،وفتح الباب أمام مشاركتها في الحوار السياسي لأجل ضمان جدية التعديلات الدستورية،والتداول السلمي للسلطة،وهذا الأمر مدعاة لتجديد الدعوة إلى تبني نصوص دستورية ضمن التعديلات المقترحة من فخامة الأخ الرئيس تضمن بقاء هذه القضايا ضمن الثوابت التي لايجوز الاتفاق على خلافها. إذاً الخلاف الذي يجري اليوم بين السلطة والمعارضة في مجتمعنا اليمني،وبين أنصار ومؤيدي الجانبين،يدور حول كيفية تطبيق أي من النظامين السياسيين «النظام الرئاسي أو النظام البرلماني» وحول الوسائل الكفيلة بتأمين تنفيذ تلك المبادئ الديمقراطية في الحكم بشكلٍ عام ،ولكن ليس هناك خلاف أو اختلاف حول المبادئ نفسها،وهذه الإشارة مهمة للجميع ،في بيان أن نقاط الاختلاف بين السلطة والمعارضة بالإمكان أن تتقلص عند هذه الحدود الدنيا،مما يفتح الباب واسعاً أمام حوارٍ بناء ومسئول بين السلطة والمعارضة اليمنية..على قاعدة الأصلح لمجتمعنا اليمني،بعيداً عن حسابات الربح والخسارة،وبعيداً عن لعبة المعادلة الصفرية Zero -Sum Game)) «تقوم هذه المعادلة على أن مايربحه طرف من الأطراف السياسية في موقف ماهو ناتج خسارة الطرف الآخر،ولذا يسعى كل طرفٍ من هذه الاطراف إلى تعظيم مكاسبه الذاتية لضمان أكبر قدر من الخسارة للطرف الآخر» إذا انطلقنا من هذا الفهم للعملية السياسية الجارية في مجتمعنا اليمني،فلن يكون هناك كاسب مطلقاً أو خاسر مطلقاً،بل سيكون الكاسب أو الخاسر الأكبر الوطن اليمني الواحد وتجربته الديمقراطية التعددية. وإذا عدنا إلى التعديلات الدستورية التي تضمنتها المبادرة الرئاسية فسنجدها تتضمن بعض البنود التي تتعلق بإعادة النظر في بنية النظام السياسي اليمني،وعلاقات السلطات الثلاث في إطاره ،بما يكفل تعزيز جوانب الفصل بين السلطات الذي يعد أبرز أركان النظام السياسي الرئاسي،كما تتضمن إدخال نظام الغرفتين في الإطار التشريعي لضمان تمثيل أفضل للمحافظات والأقاليم في الدولة على قاعدة حسن الاختيار وتساوي التمثيل،وتتضمن كذلك إدخال تعديل جوهري في نظام السلطة المحلية وتحويلها إلى نظام حكم محلي يكفل حسن إدارة الموارد وتقريب الإدارة من المواطن،ولم تنس المبادرة الرئاسية تمثيل المرأة في المجالس التمثيلية المنتخبة،حيث تضمنت تخصيص حصة بنسبة %15من المقاعد للمرأة لضمان تعزيزمشاركتها في العمل السياسي،في إطار معالجة «مؤقتة» لمشكلة تناقص تمثيل المرأة في مختلف المجالس والمؤسسات المنتخبة. الواقع أن المبادرة الرئاسية طرحت وستطرح العديد من الإشكالات، وستثير العديد من ردود الفعل المتفاوتة،بسبب التخوف الطبيعي الذي يبديه الإنسان من كل وافدٍ جديد،ألم تطرح العديد من التخوفات عند الإعلان عن الديمقراطية التعددية عقب إعادة الوحدة اليمنية؟وعند تطبيق تجربة السلطة المحلية،ألم يبرز العديد من معارضي هذه الفكرة؟ وهكذا مع كل فكرة جديدة،وهذه سنة الله في الخلق، والأكيد اليوم أن طرح تلك المخاوف لم يمنع من تطبيق الفكرة ونجاحها، كما أن طرح مثل هذه المحاذير والتخوفات من قبل البعض مدعاة للحوار المنطقي والنقاش والإقناع بالحجة،وليس إلى الاقصاء والتهميش والاستبعاد،وهي دلالة على وصول نظامنا السياسي إلى قدر كبير من المؤسسية واحترام التعددية السياسية ،وكفالة حرية الرأي والتعبير. كما أن المبادرة ستثير الكثير من النقاشات نظراً للعدد الكبير من التعديلات والإصلاحات السياسية والدستورية التي اقترحتها دفعة واحدة ،وهذا أمر نزعم أن فخامة الأخ الرئيس كان يعلمه جيداً،ولولا قناعته ودعوته المتكررة إلى الحوار السياسي،إيماناً منه بأهميته وبضرورة المناقشة الحرة،لتم طرح تلك التعديلات وإجازتها،بل وربما تمريرها في المؤسسات التمثيلية التي يمتلك فيها المؤتمر الشعبي العام أغلبية مريحة،وفي إطار الممارسات الديمقراطية التي تتم في أغلبية المؤسسات داخل المجتمعات الديمقراطية اليوم - ساعتها - ماكان من حق أحد أن يتهمه بخرق الدستور الذي يعطيه هذا الحق صراحة في المادة «159»،لكنه كان حريصاً على إشراك كافة القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني في الحوار الخاص بهذه التعديلات،ولعل الأجواء التي يشهدها المجتمع اليمني اليوم تذكرنا بالأجواء التي صاحبت طرح التعديلات الدستورية سنة 2000م ،مع الفارق البين في طبيعة التحالفات السياسية التي اختلفت كثيراً،إذ عرفت الساحة اليمنية ومجلس النواب حينذاك نقاشات سياسية واسعة ومستفيضة شارك فيها العديد من ذوي الاختصاص ومن السياسيين والقانونيين تمخضت عنها التعديلات الدستورية التي أقرتها جماهير الشعب اليمني في الاستفتاء الدستوري الذي جرى في مارس سنة2001م. وهناك الإشكال الأهم، والذي يفترض أن اختيار صيغة معينة بديلة لنظام الحكم،ومحاولة تطبيقها في أي مجتمع من المجتمعات،لايعني وضع أو إقحام مجموعة من المبادئ القانونية أو السياسية الغريبة والمجردة والمعزولة عن عناصر البيئة الاجتماعية المؤثرة في المجتمع،والتي تمس ذلك التكامل في النظام المجتمعي والمؤسسي بعيداً عن «التوافق السياسي» بين مختلف القوى الاجتماعية والأطراف السياسية الفاعلة في المجتمع،الذي يعد أساساً لنجاح التعديلات في تغيير بنية النظام السياسي،وعن غيرها من العوامل التي قد تؤثر على ذلك الاختيار - داخلياً وخارجياً- ،ولكنه يخضع لمجموعة من الظروف السياسية،وينجم عن العديد من الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية. والنظام السياسي في أبسط تعريف له،يعني: «نمط الحكم الذي تخضع له دولة معينة»،كما يعني «مجموعة من المؤسسات التي تتوزع فيما بينها آلية التقرير السياسي في المجتمع»،والنظام السياسي بهذا المعنى لايقصد به مجموعة من المؤسسات المتنافرة والمعزولة عن بعضها ،وإنما يعني تركيباً معيناً لنظام مترابط ومتكامل من المؤسسات السياسية كالسلطات الثلاث،والأحزاب السياسية ،ونمط معين لنظام التمثيل والانتخاب،وبنية من المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والقانونية، والتقاليد التاريخية ،والموروث الثقافي ،وغيرها من القيم في تجلياتها ومظاهرها السياسية. ويشير العديد من فقهاء القانون الدستوري والنظم السياسية المقارنة إلى أن معيار اختيار النظم السياسية أو النظم الانتخابية الملائمة لظروف أي مجتمع من المجتمعات في فترة تاريخية معينة،و،تفضيلها على ما عداها من أنواع النظم السياسية المطبقة في أنحاء العالم لا يخضع لرغباتٍ أو لقناعاتٍ قد تؤثر على كامل البناء السياسي والاجتماعي،وإنما يستند إلى توافر وتفاعل العديد من العوامل الموضوعية الكفيلة بضمان تقبلها في بيئة معينة،في إطار احترام خصوصيات كل مجتمع من المجتمعات ،خاصة إن لم تكن تلك النظم وليدة تلك البيئة، يأتي في مقدمة ذلك: الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة التي تزمع تطبيقها،ودرجة التطور السياسي الذي وصلت إليه،كما يحكمها طبيعة النظام الحزبي الذي تتبناه ومدى قوته وفاعليته في تمثيل مختلف فئات المجتمع، كما يحكمه الضمانات التي يضعها الدستور والقوانين والمواثيق المختلفة لوضع تلك النظم موضع التنفيذ...من أجل ضمان عدم انحراف تلك النظم عن الهدف الذي وضعت لأجله،ومن ذلك مدى نجاح هذا النظام أو فشله في التجارب الدستورية ذات الظروف المماثلة لظروف المجتمع،وربما الأهم من ذلك إمكانية إدخال تعديلات جديدة على شكل النظام السياسي في حال عدم نجاحه في تحقيق الأهداف التي وضع من أجلها،والأنظمة السياسية المعاصرة أجرت العديد من التعديلات الدستورية من فترة لأخرى،لتواكب التغيرات السياسية والاقتصادية وغيرها من العوامل التي تؤثر في بنية النظام السياسي. أعتقد شخصياً أن هذه هي القضايا التي ينبغي أن ينصب حولها النقاش بين مفكرينا ومثقفينا بمختلف انتماءاتهم الحزبية وقناعاتهم الإيديولوجية لبنود المبادرة الرئاسية،ضماناً لفهم أعمق وأوضح لها،حتى يقوموا بدورهم في توضيح بنود المبادرة للرأي العام اليمني،حتى لايساء فهمها،ويسهم في تحديد المواقف معها أو ضدها. استاذ العلوم السياسية المساعد بجامعة إب