من المؤكد أن المبادرة الرئاسية تسببت في ردود فعل متباينة الشدة والاختلاف في أوساط المثقفين والمحللين والمهتمين بقضايا التطور الدستوري والإصلاح السياسي في مجتمعنا العربي واليمني تحديداً، وبغض النظر عن ردود الفعل المصاحبة والمتضاربة، فالمؤكد أنها قد نجحت على عدة مستويات؛ فقد انتقلت بالنظام والمجال السياسي اليمني من الإطار التقليدي إلى زمن الحداثة السياسية «الحداثة السياسية Political Modernity تعني في أحد مظاهرها المتعددة عقلنة العمل السياسي، والمجال السياسي الحداثي- على العكس من المجال السياسي التقليدي- يعرف تزايد وتنامي الحلول الوسطى في ممارسة العمل السياسي» وذلك عندما أعادت العمل السياسي إلى إطاره الصحيح المعتمد على الحوار العقلاني ومقارعة الحجة بالحجة والرأي بالرأي، بعيداً عن لغة العنف والصراع والتناحر وتحريض الشارع اليمني ضد الوحدة اليمنية ومكتسابتها، وخلقت نوعاً من الحراك والنقاش السياسي بين الأطراف السياسية المختلفة، ووسعت هامش النقد الديمقراطي الحر في أوساط مجتمعنا اليمني، وجعلت المجال والفضاء السياسي يحتضن جدلاً ونقاشاً شعبياً واسعاً وصحياً حول مصير النظام السياسي ودولة الوحدة ومؤسساتها التمثيلية المختلفة، مازلنا نأمل بمرور الأيام أن تتسع حلقاته لتشمل كافة القوى السياسية بمختلف أطيافها الحزبية والسياسية، وأن تترجم مقولة: «إن الوطن يتسع للجميع» على أرض الواقع، وهي التحولات التي سيكون من شأنها- دون أدنى شك- التأثير إيجاباً في مستقبل بناء دولة الوحدة اليمنية وتقوية أواصرها وعراها بين أبناء الشعب اليمني. كنت وعدت القارئ الكريم بالحديث تفصيلاً عن المبادرة وتحليل ما جاء فيها من بنود، وحتى أفي بوعدي الذي قطعت سوف أخصص هذه التناولة لمناقشة وتحليل ردود الفعل على ما جاء في المبادرة التي أطلقها فخامة الأخ الرئيس عشية الاحتفاء بالذكرى الخامسة والأربعين للثورة اليمنية «26سبتمبر»، لإصلاح النظام السياسي اليمني- والتي جاءت في إطار الالتزام بتنفيذ ما جاء في البرنامج الانتخابي من وعود بإصلاحات سياسية وإدارية وقانونية- وهي المبادرة التي سبق له طرحها في جلسات الحوار المفتوح مع الأحزاب السياسية اليمنية، التي تخلفت عن حضوره- مع كامل الأسف- أحزاب اللقاء المشترك، والتي حوت عدة بنود تتعلق بسلسلة من الإصلاحات السياسية والإدارية والقانونية التي اقترحها فخامة الأخ الرئيس. بداية، نشير إلى أهمية ما حملته المبادرة الرئاسية من بنود تتعلق بالإصلاحات القانونية والدستورية، أوجزتها المبادرة في النقاط التالية: التحول إلى النظام الرئاسي بدلاً عن النظام الهجين أو الخليط «من النظامين البرلماني- الرئاسي»، وتخفيض فترة الرئاسة إلى خمس سنوات، وتقليص فترة تمثيل مجلس النواب إلى أربع سنوات، وتكوين مجلس الأمة من غرفتين «مجلس النواب، ومجلس الشورى المنتخب من جميع المحافظات وبأعداد متساوية»، واستبدال نظام السلطة المحلية بالحكم المحلي وتعزيز اختصاصات المجالس المحلية في الجانب المالي، وانتخاب المحافظين ومدراء المديريات، وإنشاء الشرطة المحلية والجيش المركزي، وإعادة تشكيل اللجنة العليا للانتخابات من «14 شخصاً» من القضاة يختار رئيس الجمهورية «7» منهم، وأخيراً، تخصيص حصة «كوتا» نسبتها %15 لتمثيل المرأة في الانتخابات لعضوية مجلس النواب، والنص على ذلك صراحة في قانون الانتخابات. ومادمنا بصدد الحديث عن المقترح الرئاسي بتعديل دستوري قادم، تجدر الإشارة إلى بعض النقاط التي أغفلت المبادرة الرئاسية الإشارة إليها، على الرغم من أنها صارت من القضايا الأكثر إلحاحاً، بالنظر إلى المتغيرات والأحداث التي شهدها مجتمعنا اليمني خلال الأيام الماضية، والتي دفعت البعض إلى التطاول على بعض الثوابت التي كنا نعتقد- ومازلنا- أنها من الأمور التي لم تعد محلاً للنقاش، وأنها محصنة بإرادة شعبية تأبى كل مظاهر الانفصال والتجزؤ، ومع هذه القناعة الراسخة لا يكفي- برأيي المستند إلى خبرة تدريسية متواضعة لمساق نظام الحكم في الجمهورية اليمنية- صدور قانون أياً كانت درجته لمنع المساس بها، ومعاقبة كل من تسول له نفسه الإساءة إلى النضال التاريخي لشعبنا اليمني في سبيل تحقيق الثورة ونيل الاستقلال، وإعادة تحقيق الوحدة اليمنية بين شطري اليمن، وصولاً إلى الاعتراف بحق الشعب اليمني في ممارسة العمل السياسي في ظل التعددية الحزبية والديمقراطية، بل يجب النص عليها دستورياً بوصفها مجموعة من الثوابت التي لا يجوز أن يطالها التعديل أو التغيير أو الإلغاء، وعلى أن يتم الاستفتاء الشعبي على هذا التعديل. وللعلم فقط فلن نكون متفردين بهذا الإجراء أو مخالفين لما هو سائد بين النظم السياسية الحديثة كما يزعم بعض محللينا وكتابنا بدون معرفة تامة ويقين كاف وبغير بينة واضحة، بل سنكون مقتدين ببعض التجارب الدستورية العريقة والحديثة، الغربية منها والعربية، التي تمنع المساس بثوابت النظام السياسي، كما هو الحال في «فرنسا»و «المغرب» والعديد من النظم السياسية والدستورية الديمقراطية الأخرى، التي لم يمنعها الأخذ بالنظام الديمقراطي الليبرالي من استثناء بعض القضايا تقديراً للسجل النضالي لشعوب تلك البلدان، وعداها من الثوابت التي لايجوز بتاتاً الاتفاق على خلافها، بما يضمن استقرار الحياة السياسية، ويكفل تضييق مساحات الخلاف والصراع بين الأطراف السياسية المختلفة، وحماية المنجزات والمكاسب التي تحققت للشعوب، وأهم هذه الثوابت مايأتي: 1 الدين الإسلامي دين الدولة الرسمي، والشريعة المصدر الأساسي للتشريع. 2 النظام الجمهوري، هو نظام الحكم في الدولة اليمنية. 3 الوحدة اليمنية والوحدة الوطنية. 4 الديمقراطية القائمة على أساس التعددية الحزبية. اتجاهات الرأي العام اليمني لاننوي الانحياز لرأي ضد آخر، ولا الانتصار لهذا الموقف على ذاك، وإن كان هذا حقاً مشروعاً لكل مواطن يمني، فهذه لها موضع ومقام آخر، كما ننوه إلى أننا وبسبب غياب الدراسات الميدانية لاستطلاع الرأي العام اليمني حول هذه المبادرة قد حاولنا رصد مختلف الأصداء التي تلت إعلان المبادرة سواءً من خلال متابعتنا للنقاشات العامة والبيانات والتصريحات المختلفة المنقولة عبر وسائل الإعلام اليمنية المختلفة، وعلى صفحات الصحف الرسمية والحزبية، وعبر مواقعها الالكترونية ، أو في اللقاءات والمحادثات الخاصة التي جمعتنا مع بعض المثقفين والمهتمين من كافة التيارات السياسية والحزبية المتواجدة على الساحة اليمنية، وهذه المحاولة قد يشوبها النقص، وربما الانتقائية وعدم الموضوعية رغم توخينا أمانة نقلها كما رصدناها أو سمعناها من أصحابها. وعلى الرغم من أن أبسط تصنيف للمواقف وردود فعل الشارع اليمني، ومختلف القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني اليمني من المبادرة قد يدفعنا إلى وضعها في خانتي «الموافقين» على كل ماجاء فيها مقابل «الرافضين» لها جملة وتفصيلاً، وهذا التصنيف قد يبدو منطقياً ومقبولاً إذا اعتمدنا على رؤية الانقسام والاصطفاف «الظاهري» للشارع اليمني بمختلف مؤسساته وأطيافه السياسية بين مؤيد للمؤتمر الشعبي العام يقبل مبادرة رئيسه ويدافع عنها، ومناصر لأحزاب اللقاء المشترك يرفض كل ماجاء في تلك المبادرة لأنها صادرة عن الحزب الحاكم، فإن عيب هذا التصنيف أنه مبني على تحليل سطحي لايغوص عميقاً في الواقع اليمني، ولايحفل بدراسة حقيقية لجميع المواقف أو الانفعالات المتباينة والموجودة في كلا الجانبين، ولذا لايصح الاعتماد عليه في فهم وتفسير ماوقع من أحداث وتطورات سياسية في مجتمعنا اليمني خلال الأيام القليلة الماضية. صحيح أنه ليس من اليسير تتبع وحصر كل ردود الفعل المتباينة التي عبر عنها المجتمع اليمني، بكافة فئاته ومؤسساته وبالأخص ردود فعل العديد من القوى السياسية اليمنية من المبادرة، إذ هناك مواقف شتى وتباينات عديدة ومختلفة، وربما لانغالي إن قلنا إن هناك عشرات المواقف التي لا جامع بينها ولا رابط، ومع ذلك يمكننا القول بوجود عدة اتجاهات «والاتجاه يتضمن عدة مواقف متقاربة، وإن كانت لاتصل إلى درجة الاتفاق الكامل» ويمكننا حصرها في خمسة اتجاهات على الأقل، تنضوي في إطارها التنوعات والاختلافات والتباينات العديدة التي عرفتها مواقف الشارع اليمني من المبادرة، وهذه الاتجاهات مرشحة للزيادة أو للنقصان تبعاً للتغيرات التي قد تطرأ على مواقف التيارات والقوى السياسية اليمنية من المبادرة، وتبعاً للجهود التي ستقوم بها تلك الأطراف لتوضيح أبعاد ودلالات التطورات السياسية التي تضمنتها المبادرة، وشرح وبيان مختلف النقاط التي تضمنتها، وهي الأمور التي ستسهم في تغيير بعض المواقف، وفي تكوين مواقف من المبادرة لدى العديد من أبناء الشعب اليمني ممن لم يكونوا رأياً حولها حتى الآن. وقد تراوحت تلك الاتجاهات بين:1 القبول بكل ماجاء فيها ويضم كل مواقف الترحيب بالمبادرة، والتي تقبل بها دون أي نقاش أو تحفظ. 2 القبول ببعض ماورد فيها من بنود إيجابية، والتحفظ حول بعض البنود السلبية من وجهة نظر أنصار هذا الاتجاه وعدها بمثابة الأرضية الصالحة للنقاش الجاد حول باقي مسائل الإصلاح للنظام السياسي، وهذا الاتجاه يبدي بعض المرونة ويقبل الحوار السياسي على قاعدة الإصلاح السياسي. 3 المشكك في جدية المبادرة، وهو الاتجاه الذي ينعتها بالذريعة التي يرغب من خلالها النظام السياسي التمديد لنفسه والهروب من مناقشة الموضوعات والقضايا المهمة والظروف الدقيقة التي يمر بها المجتمع اليمني في هذه المرحلة. 4 الرافض لها جملة وتفصيلاً، وسمة هذا الاتجاه النفور من كل مايقدمه النظام السياسي من مبادرات أياً كانت طبيعتها، ووصفها بالصدمة العنيفة والكارثية، التي تصف الأزمة السياسية الحادة التي يمر منها النظام السياسي اليمني. 5 المتخوف من تطبيقاتها الواقعية، وهو الاتجاه الذي يجمع أصحاب الرأي الذين يعرفون فحوى البنود التي تضمنتها المبادرة حق المعرفة، ويقبلون ماجاء فيها، لكنهم يبدون بعض التخوف من النتائج الواقعية المرافقة لتطبيق تلك البنود في المجتمع اليمني، وماستطرحه من محاذير وإشكاليات قانونية وسياسية عند التطبيق، خاصة إن أسيء فهمها ولم يحسن تطبيقها بالصورة التي وضعت لأجلها وبالخصوص الآثار المتعلقة «بالتحول إلى النظام الرئاسي بالكامل للدولة على المستوى السياسي والحزبي والقانوني، ونتائج التحول نحو توسيع نطاق الحكم المحلي على المستويين السياسي والإداري، وآثار تطبيق نظام الكوتا النسائية على مستوى التركيبة الاجتماعية». وهي الأمور التي تحتاج كما سبقت الإشارة من جميع الباحثين اليمنيين والمتخصصين تحليلها ومناقشتها بعقلانية وموضوعية وبروية بدلاً من لغة الانفعال والتحيز والاصطفاف مع أو ضد وفقاً لما يقتضيه واقعنا الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وسيكون لنا إن شاء الله تعالى عودة أخرى للحديث عن نقاط أخرى في المبادرة.