في المثل الشعبي اليمني يقال: «مخرب غلب ألف عمار»، وفي أمثلة الشعوب ما يشبه هذا المثل، فكما يقال : «الشجرة الواحدة تنتج ملايين أعواد الكبريت، وعود كبريت واحد يحرق غابة كاملة». والوحدة اليمنية التي تطلب تحقيقها نضالاً شعبياً وطنياً متواصلاً عبر مئات السنين، وتضحياتٍ جسيمة بمئات الآلاف من الأرواح والشهداء الذين عبَّدوا وعمدوا طريق الوحدة اليمنية بدمائهم الزكية التي سالت أنهاراً في الصراعات السياسية وحروب الاخوة في شطري اليمن قبل إعادة اللحمة الوطنية بين أبناء الأم الواحدة، والتي كنا ولازلنا نعتقد أنها صارت حقاً لأجيال الحاضر والمستقبل من أبناء اليمن الواحد في شتى بقاع الأرض اليمنية الطاهرة، ولم يعد من حق أحد أن يساوم عليها أو يجادل حولها أو حتى يفكر مجرد التفكير في إمكانية العودة إلى أوضاع ما قبل الثاني والعشرين من مايو بدعوى زائفة تقوم على «تصحيح الأوضاع وإصلاح المسيرة»، صارت في الأيام الأخيرة مضغة على ألسنة البعض من أبناء المجتمع اليمني يلوكونها عند كل مناسبة وأحياناً بغير مناسبة. وقد تجلى ذلك بشكل واضح في سعي البعض إلى إحياء شعاراتٍ غابرة تدعو إلى تقسيم الواحد والعودة إلى «وهمية الشطرين» كما كان يحلو للأديب الوحدوي الكبير الراحل عبد الله البردوني رحمه الله تعالى أن يردد في كتاباته المتقدمة والمتأخرة على إعادة تحقيق وحدة الواحد، معتقدين أن حصول بعض التصرفات الشخصية أو الجماعية لبعض المتنفذين هنا أو هناك، يعطيهم المبرر للمضي بعيداً في إعلان رغباتهم الانفصالية المرضية وحنينهم إلى الشطرية الانقسامية و الصراعية، والواقع أن حصول تلك التجاوزات من البعض ينطبق على أبناء كل محافظات الجمهورية شمالاً وجنوباً شرقاً وغرباً، ويزيد من حنقهم وتبرمهم من كل من يمارس تلك الأفعال المستهجنة، ويرفع وتيرة المطالب الوطنية بالحد من تلك التجاوزات وإحالة المخالفين على القضاء ليتخذ في حقهم العقاب المستحق، وإن لم يصل حد رفع شعارات الانفصال في جميع محافظات اليمن الواحد، وهذا لا يعني بأي حال وجود محافظات أكثر وحدوية من الأخرى، لكنه يؤكد عدم قدرة المحرضين على التغلغل في أوساط أبناء جميع المحافظات، وتهافت حججهم وافتضاح أساليبهم الرخيصة، واتضاح نياتهم المبيتة وبعدها عن هموم الوطن والمواطن اليمني الواحد. كما أن انتهاج وتطبيق بعض السياسات غير الصائبة مما يحدث في جميع المجتمعات بما فيها الأكثر تقدماً لا يبرر لهم رفع مثل تلك الشعارات، مخالفين بذلك سنة الله في الخلق لقوله تعالى: «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، ومتجاوزين الفطرة السليمة في النزوع نحو الاجتماع الإنساني، وغير مبالين بمشاعر الشعب اليمني الميال إلى التوحد، ومتناسين الدرس الشعبي في الاصطفاف التاريخي العظيم لكل شرائح المجتمع وفئاته في وجه محاولة الانفصال سنة 1994م، بعد افتضاح المشروع الحقيقي لقادة الانفصال يوم الحادي والعشرين من مايو 1994م، بإعلان قيام جمهورية اليمن الديمقراطي. إن التركيز على الشعارات الانفصالية التي بات البعض يطلقونها علناً دونما خوفٍ أو حرج، ويستدعونها بمناسبة وبدونها، وسياسات تأجيج وتثوير الشارع اليمني دون القدرة على ضبط كل التفاعلات الناجمة عن خروج عشرات الآلاف إلى الشارع، والسعي نحو زيادة مشاعر الكراهية والحقد بين أبناء المجتمع اليمني ضد كل ما هو وحدوي ووطني، لن يصلح الأوضاع السيئة التي يعاني منها أبناء المجتمع اليمني ولن يحقق الأمن والتنمية للوطن والمواطن، هذا إن كانت نيتهم فعلاً تذهب في نفس الاتجاه، لكنه سيزيد من مساحة الخصومة بين الفرقاء السياسيين ويقلص مساحة المشترك بينهم، وسيذهب بالجهود المبذولة خلال الفترة الماضية لإعادة تصحيح الأوضاع الاقتصادية والسياسية، وسيزيد الوضع سوءاً. والواقع أن مظاهر التحدي للسلطة، والهروب من أعباء المسئولية الوطنية والاستحقاقات الوطنية والشعبية للمرحلة القادمة، التي انتهجتها أحزاب اللقاء المشترك، وتوجتها بالأحداث العنيفة والمأساوية في الذكرى السنوية لمجزرة الرفاق في 13 يناير 1986م، فيما كان يفترض فيه أن يكون دعوة «للتصالح والتسامح» تحولت إلى مناسبة جديدة لنكأ الجراح وإضافة جراحاتٍ جديدة - سيكون من العسير أن تندمل سريعاً - إلى ذاكرة الشعب اليمني بكافة شرائحه الاجتماعية وانتماءاته المناطقية والسياسية، إذ إن الضحايا من الجانبين هم في جميع الأحوال من أبناء الأسرة اليمنية الواحدة، وينتمون لنفس الوطن اليمني الواحد، وهي الحقيقة الوحيدة الثابتة تاريخياً مهما تباينت مواقفهم أو مشاربهم الحزبية والسياسية أو اختلفت مناطق سكناهم أو تعددت لهجاتهم ولكناتهم. ومع كامل الأسف أن البعض من إخواننا في أحزاب اللقاء المشترك يسعون لهدم كل ما هو وحدوي ومشترك، ولذا ينطبق عليهم القول: «مخرب غلب ألف عمار»، وهم يقومون بالهدم المنظم والتخريب المنهجي الواعي لكل مقدرات الشعب اليمني الواحد معتقدين أنهم يمارسونه في إطار ما يعدونه نوعاً من السياسة، وهي مثال واقعي للجهل بأبسط أبجديات السياسة، ودليل على الفهم القاصر والخاطئ للمقصود بالسياسة، التي يعرفها قاموس «لسان العرب» والعديد من المعاجم اللغوية العربية بأنها: من كلمة ساس، أي قام بأمور الناس بما يصلحها. حيث إن السِّياسة تعني: القيامُ على الشيء بما يُصْلِحه. وإصلاح أمور الناس يعد غاية الحكم، وحتى إن قمنا بافتراض عدم قيام السلطة بالواجبات الملقاة على عاتقها أو تقصيرها في أداء الواجبات الكفيلة بإصلاح أوضاع الناس ومعالجة الأزمات والاختلالات الاقتصادية والاجتماعية، فإن ذلك لا يعطي لأحد الحق في تبرير سياسة الهدم بحجة إعادة البناء، وهو المبدأ الذي يقوم عليه عمل أمثال هؤلاء. لكنه يعني استغلال المناخ والهامش الديمقراطي المتاح للمضي بعيداً في نقد السلطة من خلال المنابر الصحفية والمواقع الالكترونية، وطرح البدائل الحقيقية التي تدفع الشارع اليمني إلى تبني مواقف تلك الأحزاب والقوى السياسية دونما حاجة إلى اتباع أساليب «سياسوية» متطرفة ومستعجلة تقوم مفرداتها على لغة العنف وتثوير الشارع، واستغلال بعض القضايا المرتبطة بالحقوق والمطالب المشروعة في تحقيق غايات وأهداف غير مشروعة وغير معلنة. فهل يؤمن الفرقاء السياسيون في مجتمعنا اليمني بهذه المبادئ والقيم للممارسة السياسية الحقيقية؟ وهل يؤمنون بأن السياسة في بلدنا يجب أن تقوم على مبادئ التوافق السياسي والتفاوض وتفعيل لغة الحوار والتواصل مع الآخر، وتضييق مساحة الاختلاف بدلاً من توسيع الهوة بين أبناء المجتمع الواحد؟ وهل سيكون من حقنا أن نضمن بقاء وحدتنا اليمنية في منأى عن كافة المهاترات الحزبية والسياسية؟