يعرف واقعنا اليمني اليوم قضايا كثيرة متشابكة ومتعددة الأبعاد والجوانب، يتداخل فيها الحقوقي أو القانوني، مع السياسي والثقافي، والاجتماعي مع الأمني، وهي قضايا فرضها الإيقاع المتسارع والمتلاحق للأحداث في الساحة السياسية الوطنية،حتى إنه لم يعد لنا جميعاً في السلطة والمعارضة ومؤسسات المجتمع المدني مجالاً لالتقاط الأنفاس وحشد الطاقات ولملمة الصفوف ورصها، وتضميد الجراح ومداواتها، ودراسة الأسباب ومناقشة حقيقتها. وكثير من هذه القضايا بحاجة إلى وقفات طويلة للدراسة والتأمل والقراءة الواقعية، لإبداء الرأي الواضح والشفاف والصريح من أجل وضع نهايات أو اقتراح حلول مقبولة لها. وأحسبنا جميعاً معنيين بذلك، إذ لم يعد يفيدنا أو يفيد وطننا اليمني الكبير أن ندفن رؤوسنا في الرمال، أو نكتفي بمشاعر اللامبالاة أو المواربة في الحديث عنها، أو انتظار ما سيتمخض عنها كأنه قدر لا فكاك لنا منه، وحتى لا نندم ساعة لا ينفع الندم. من أبرز هذه القضايا التداعيات الأمنية الخطيرة التي شهدتها بعض المحافظات نتيجة إثارة النعرات الانفصالية والمناطقية والطائفية، ونشر ثقافة الكراهية والشقاق بين أبناء المجتمع اليمني الواحد، واستهداف المدنيين والعسكريين من أبناء الوطن الواحد، وكثير من الأحداث الدامية التي شهدها مجتمعنا اليمني خلال الأيام الماضية بهدف إثارة الأزمات وزعزعة الاستقرار وتهديد الأمن، في تسارع ملحوظ، وتزامن عجيب، واستغلال مشبوه للشباب وصغار السن الذين تقدموا تلك الصفوف في تلك المسيرات، والتخفي خلف مطالب حقوقية ومدنية، ما لبثت الأحداث أن أثبتت أنها لم تكن أكثر من قناع لإخفاء الأهداف الحقيقية لدعاة مشروع إعادة التشطير والانفصال؛ إذ لا يكاد ينغلق ملف حتى يفتحوا ملفاً غيره، في تواتر غريب يثير الريبة والشبهات. وقد تساءلنا مع القارئ عن الرابط الذي يجمع تلك الأحداث والقضايا المتنافرة والمتباعدة.. وأكدنا أن الخيط الرفيع الذي يجمعها أنها تمثل تحديات لنظامنا السياسي الجمهوري، وتجربتنا الديمقراطية الناشئة، ولجميع المكاسب الحقوقية التي تحققت للشعب اليمني، أي باختصار لثوابتنا الوطنية، وهويتنا العربية والإسلامية. ولم يكن يخفى على أحد أنها تستهدف المساس بوحدتنا الوطنية، وبدا لنا الهدف النهائي لكل تلك الأحداث هو إيجاد حجج وذرائع للمساس بوحدتنا الوطنية والاجتماعية، وهويتنا اليمنية الواحدة. أما لماذا؟ فلأن الوحدة اليمنية تطلب تحقيقها نضالاً شعبياً وطنياً متواصلاً عبر مئات السنين، وتضحيات جسيمة بمئات الآلاف من الأرواح والشهداء من أبناء جميع المحافظات اليمنية الذين عمدوا طريق الوحدة اليمنية بدمائهم الزكية التي سالت أنهاراً في سبيل نيل الاستقلال وترسيخ النظام الجمهوري، ثم في مراحل الصراع السياسي وحروب الإخوة قبل إعادة اللحمة الوطنية بين أبناء الأمة الواحدة. وربما كنت ومعي ملايين اليمنيين ومازلنا نعتقد أنها صارت حقاً لأجيال الحاضر والمستقبل من أبناء اليمن الواحد في شتى بقاع الأرض اليمنية الطاهرة، ولم يعد من حق أحد أن يساوم عليها أو حتى يفكر مجرد التفكير في إمكانية العودة إلى أوضاع ما قبل الثاني والعشرين من مايو بدعاوى زائفة تقوم على «تصحيح الأوضاع وإصلاح المسيرة». لكن يبدو أن هذه الحقيقة لم تعد تعني شيئاً عند بعض المهووسين بكراسي الحكم والسلطة، وتجار الحروب والأزمات، وناشري الفوضى والتخريب، ودعاة الفتنة والانفصال الواهمين بحلم العودة إلى السلطة عبر بوابة الفتنة والتشرذم، وقوافل القتلى والشهداء من أبناء اليمن الواحد؛ حيث صارت في الأيام الأخيرة مضغة على ألسنتهم يلوكونها عند كل مناسبة وأحياناً بغير مناسبة. وقد تجلى ذلك بشكل واضح في سعيهم إلى إحياء شعارات غابرة تدعو إلى تقسيم الواحد والعودة إلى «وهمية الشطرين» كما كان يحلو للأديب الوحدوي الكبير الراحل عبدالله البردّوني «رحمه الله تعالى» أن يردد في كتاباته المتقدمة والمتأخرة على إعادة تحقيق وحدة الواحد، معتقدين أن حصول بعض التصرفات الشخصية أو الجماعية لبعض المتنفذين هنا أو هناك يعطيهم المبرر للمضي بعيداً في إعلان رغباتهم الانفصالية المرضية وحنينهم إلى الشطرية الانقسامية والصراعات التي لا يستطيعون أن يعيشوا ويتكاثروا دونها. والواقع أن حصول تلك التجاوزات لا ينبغي أن يكون ذريعة لأحد في ارتكاب تلك الجرائم البشعة في حق أبناء هذا الوطن، ولا أن يصل حد رفع شعارات الانفصال في واحدة أو أكثر من محافظات اليمن الواحد. كما أن انتهاج وتطبيق بعض السياسات غير الصائبة مما يحدث في جميع المجتمعات بما فيها الأكثر تقدماً لا يبرر لهم رفع مثل تلك الشعارات، مخالفين بذلك سنة الله في الخلق لقوله تعالى: «إنّا خلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم» ومتجاوزين الفطرة السليمة في النزوع نحو الاجتماع الإنساني، وغير مبالين بمشاعر الشعب اليمني الميال إلى التوحد، متناسين الدور الشعبي في الاصطفاف التاريخي العظيم لكل شرائح المجتمع وفئاته في وجه محاولة الانفصال سنة 1994م، بعد افتضاح المشروع الحقيقي لقادة الانفصال يوم الحادي والعشرين من مايو 1994م. إن التركيز على الشعارات الانفصالية التي بات البعض يطلقونها علناً دونما خوف أو حرج، ويستدعونها بمناسبة ودونها، والسعي نحو زيادة مشاعر الكراهية والحقد بين أبناء المجتمع اليمني ضد كل ما هو وحدوي ووطني، لن يصلح الأوضاع المطلوب إصلاحها، ولن يحقق الأمن والتنمية للوطن والمواطن كما يريد هؤلاء لشبابنا وإخواننا أن يعتقدوا، لكنه سيزيد من مساحة الخصومة بين الفرقاء السياسيين ويقلص مساحة المشترك بينهم، وسيذهب بالجهود المبذولة خلال الفترة الماضية لإعادة تصحيح الأوضاع الاقتصادية والسياسية، وسيزيد الوضع سوءاً بتفتيت الجهد وهدر الموارد البشرية والاقتصادية في غير محلها، وسيسهم في انقسام الصف الوطني وزرع بذور الشقاق بين المواطنين، وهو الأمر الذي لم يحدث في تاريخ اليمن قديماً وحديثاً؛ إذ ألِفَ اليمنيون العيش المشترك والانسجام التام حتى في عهود التشطير ومراحل ما قبل الاستقلال. وحتى إن افترضنا تقصير السلطة بواجباتها أقول حتى بافتراض حدوث ذلك، فإنه لا يعطي أحداً الحق في تبرير سياسة الهدم بحجة إعادة البناء، وهو المبرر الذي يريدنا هؤلاء أن نصدقه، لكنه يعني استغلال المناخ والهامش الديمقراطي المتاح للمضي بعيداً في نقد السلطة من خلال المنابر الصحفية والمواقع الالكترونية، وطرح البدائل الحقيقية التي تدفع الشارع اليمني إلى تبني مواقف تلك الأحزاب والقوى السياسية دونما حاجة إلى اتباع أساليب دامية متطرفة ومستعجلة تقوم مفرداتها على لغة العنف وتثوير الشارع، واستغلال بعض القضايا المرتبطة بالحقوق والمطالب المشروعة في تحقيق غايات وأهداف غير مشروعة وغير معلنة، هدفها البعيد الوصول إلى السلطة، بغض النظر عن كيفية وطريقة الوصول إليها، حتى إن كان على رقاب وجثث الآلاف من الأبرياء من أبناء اليمن، وهو أمر نهانا عنه الدين الإسلامي، ونبينا الكريم؛ إذ جاء في السنة النبوية الشريفة نهي عن فعل العصيان والخروج عن الطاعة، والقتال تحت رايات العصبية، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات، فميتته جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبية، أو يدعو لعصبية، أو ينصر عصبية، فقتلته جاهلية، ومن خرج عن أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى عن مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه». ولعل التاريخ اليمني المعاصر يقدم لنا عشرات الأمثلة عن السياسات الذي انتهجها دعاة الفرقة والانفصال عندما كانوا في سدة السلطة، وحمامات الدم التي لم تتوقف خلال سنوات ما قبل إعادة الوحدة اليمنية، وبعدها في إعلان الانفصال سنة 1994م، ولعل ذاكرة الشعب اليمني تحفظ لهم ذلك جيداً، مهما حاولوا التخفي بشعارات هم أكثر الناس بعداً عنها.. فهل يتعظ هؤلاء، وهل يتوقفون عن الإساءة إلى وطن الثاني والعشرين من مايو؟!.