تذكُر بعض التقارير الصحافية الأجنبية أنه رغم نجاح يهود اليمن المهاجرين إلى إسرائيل بتكوين نفوذ قوي داخل «الدولة» إلاّ أنهم مازالوا موضع إزعاج قوى يهودية مختلفة، لكون قسم كبير منهم ظلوا محتفظين بموروث الوطن الأم «اليمن»! ربما لو كانت ظروف اليمن في الأربعينيات جيدة أو معقولة، لوجدت المنظمات اليهودية والبريطانية صعوبة بالغة في تنفيذ عملية «بساط الريح» التي نقلت ما يزيد عن خمسين ألف يهودي يمني إلى إسرائيل في غضون عام ونصف فقط، إلاّ أن الفقر والمرض والجهل والظلم الذي قاساه اليمنيون في تلك الفترة جعل يهود اليمن يعتقدون أن «الأرض الموعودة» هي خلاصهم الأبدي، وفرصتهم الذهبية لبدء حياة جديدة وكريمة. إلاّ أن المفاجأة التي كانت بانتظار يهود اليمن جعلتهم يندمون، إذ إن سياسة التمييز العنصري، والنظرة الدونية التي تمت معاملتهم بها من قبل يهود أوروبا، والتكوينات الصهيونية كانت أشد قسوة عليهم من أوجاع الفقر والمرض والجهل التي خلفوها وراءهم في اليمن.. لذلك حافظوا على تكتلهم، وظلوا حتى اليوم يُحدثون الصحافة الأجنبية عن حنينهم لليمن، لدرجة أن أحدهم قال: إنه «حتى المرق في اليمن له طعم مختلف عن المرق في إسرائيل رغم أن الأبقار والدجاج واحدة في كل العالم»! قديماً كان المجتمع اليمني ينظر إلى اليهود نظرات قاسية، ويصنفهم في أسفل قائمة الطبقات الاجتماعية، ليس فقط من واقع الاختلاف الديني، بل أيضاً لأنهم كانوا يعملون بمهنٍ متدنية، بينها الخدمة في البيوت.. لكن تطور الثقافة الاجتماعية، والوعي الديني، الانفتاح الحضاري غَيّرْ الكثير من المفاهيم القديمة، التي انعكست على المجتمع برمته، بما في ذلك أبناء الديانة اليهودية. يبدو لي أن اليهود في اليمن - رغم أن أعدادهم لا تتجاوز 300 شخص تقريباً - تحولوا إلى جزء من الموروث التاريخي اليمني، وبدت الدولة كمن يحاول المحافظة على قطعة أثرية، حيث أولتهم رعاية متميزة لايمكن أن تحظى بها أي أقلية دينية في العالم. في الأسبوع الماضي كنت طرفاً في مفارقة نادرة، إذ إن أسرة يهودية شَكَتْ لصديقي المحامي فيصل الخليفي إن ابنها «يوسف» قتل قبل أكثر من عامين يهودياً آخر من أنسابه، وقد قَبل أهل القتيل بالدية عن ابنهم إلاّ أن يوسف لايملك شيئاً من المال، وعجز والده سليمان يحىى عن تدبير المبلغ الكبير.. فاضطر ابنه إلى الهروب والتخفي بين الجبال خوفاً من الثأر، وكانت الأسرة لديها ثقة عجيبة بأنه لو علم رئيس الجمهورية بقضية ابنهم لساعدهم. عندما كلمني صديقي بالقصة استغربت ثقتهم المطلقة بالرئيس، وقررنا مساعدتهم، فتواصلنا مع بعض الجهات وشرحنا لهم المشكلة.. وماهي إلا يومان فقط حتى دخل اليهودي سليمان يحيى القصر الجمهوري بناءً على استدعاء من قبل رئيس الجمهورية.. فقد كان سليمان محقاً جداً في ثقته بإنسانية الرئيس علي عبدالله صالح. رئيس الجمهورية استمع إلى قصة سليمان اليهودي الذي يتجاوز عمره 75 عاماً .. وتعاطف مع مأساته التي تسبب بها هروب ابنه الذي كان يعول الأسرة، ويكفل قوت جميع أفرادها بمن فيهم أطفاله الثمانية.. فتبرع الرئيس بدفع مبلغ الديّة من ماله الخاص، كما قدم مساعدة مالية لأسرة سليمان اليهودي لتعوض به ما خسرته من أثاث وممتلكات اضطرت لبيعها بعد أن امتدت فترة هروب معيلها لأكثر من عامين، وضاقت بها سبل العيش. رأيت سليمان اليهودي بعد خروجه من مقابلة رئيس الجمهورية مباشرة، فبادرته بالسؤال عما حدث رغم رؤيتي الفرحة في عينيه تتلألأ.. لكن سليمان قال عبارتين أو ثلاث ثم غلبه الدمع من الفرح.. وتحدث لاحقاً عن مدى إنسانية الرئيس صالح، وقال: إنه ليس لديهم في الدنيا غير الله والرئيس .. ثم انشغل عن أسئلتي بالدعاء للرئيس.. تأملت كثيراً في الموقف، وسألت نفسي: إلى أي مدى يتسع قلب الرئيس لهؤلاء الملايين اليمنية التي تلجأ إليه حتى في أزماتها ومشاكلها الأسرية؟! ولاشك أن الرئيس يعرف كم عدد يهود اليمن، وأنهم لا يمثلون رقماً انتخابياً، ويعرف أن ما عمله لليهودي كان سراً بينه وبين ربه، إلاّ أنها أخلاقه التي حكم بها اليمن.. لذلك كنت متحمساً لإفشاء سر لقاء اليهودي بالرئيس ليعرف اليمنيون أن السياسة أخلاق وليست أحزاباً!!